محمد عاطف بركات (١٨٦١–١٩٢٤)
من الأقوال المأثورة أن كل إنسان إما أن يكون أفلاطون أو أرسطو؛ يعنون بذلك أنه إن غلب عقله عواطفه كانت نزعته أرسططالية، وإن غلبت مشاعره عقله فنزعته أفلاطونية.
ونستطيع قياسًا على هذا أن نقول: إن كل متصدٍّ للإصلاح وقيادة أمور الناس إما أن يكون عليًّا أو معاوية؛ فإن غلب عليه تحرِّيه للعدل المطلق في كل صغيرة وكبيرة، وعدم رضاه عن أي ظلم مهما كانت نتيجته، فهو أقرب إلى نزعة عليٍّ، فعنده أن الخط إما أن يكون مستقيمًا أو أعوج، ولا شيء بينهما، ويحب عليٌّ السير في الخط المستقيم دائمًا من غير نظر إلى العواقب.
أما معاوية فشيء آخر، يرى أن الغاية تبرر الوسيلة، وهو يعلن عن سياسته بقوله: «إنَّا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»، فمن سار على هذا النهج وارتكب الظلم أحيانًا بغية الوصول إلى نفع كبير فهو أميل إلى خطة معاوية.
والسياسيون — عادة — من قبيل معاوية، ينحرفون عن الحق أحيانًا بحجة أنهم يقصدون إلى منفعة كبرى، وينظرون إلى المسائل السياسية نظرة البائع والمشتري؛ يدفع الثمن ظنًّا في الربح، فهم يضحُّون بالحق أحيانًا أملًا في تحقيق حق أكبر، وقد يخدعون بذلك أنفسهم.
وقادة مصر وساستها كغيرهم من القادة، والساسة أكثرهم من هذا القبيل؛ لأنهم رأوا أن السياسي والقائد لا بد أن يأخذ ويعطي ويتنازل عن شيء ليستمسك بشيء، وإلا كان كالشجرة الصلبة أمام الريح العاصفة لا بد أن تنكسر لأنها لم تلِنْ.
وهذا لم يمنع أن يهب الله مصر كما يهب العالم رجالًا صلب عودهم واشتد خلقهم، فوهبوا أنفسهم للحق، لا شيء غير الحق.
كان من هذا القبيل في عصرنا الحديث «حسن (باشا) عاصم»، كان رئيسًا للديوان الخديوي، وطلب الخديو عباس من الأوقاف أن تعطيه تفتيشًا من تفاتيشها في الجيزة من الأراضي المعدة للبناء، في نظير أن يعطيها مزرعة من مزارع الخاصة الخديوية، وأن تعطيه الأوقاف ثلاثين ألف جنيه فرق بدل، وعرض الأمر على المجلس الأعلى للأوقاف، فوقف في ذلك حسن (باشا) عاصم ومعه الشيخ محمد عبده، وعيَّنا لجنة تقدير رأت الغبن في ذلك على الأوقاف، وأن الخاصة الخديوية إذا أرادت البدل وجب عليها أن تدفع عشرين ألفًا، لا أن تأخذ ثلاثين ألفًا؛ فغضب عليه الخديو وأحاله على المعاش.
وكان من أغرب تمسُّك حسن عاصم بالمبدأ والعدل المطلق أن تبرَّع غنيٌّ من أغنياء المحلة الكبرى للجمعية الخيرية الإسلامية بإنشاء مدرسة وَقَفَ عليها أطيانًا، فلما تمَّ فتح المدرسة قدَّم هذا الغنى طلبًا لابنه لدخول المدرسة، وكان يتجاوز السن المحدَّدة بأشهر، فرفض حسن عاصم قبوله، وكان إذ ذاك مدير مدارس الجمعية، وقال: إن هذا الغني تبرع بالمدرسة فنشكره، وأراد أن يكسر قوانيننا فلا نقبل ذلك منه، وترتب على ذلك أزمة بينه وبين الشيخ محمد عبده وحسن (باشا) عبد الرازق، وغيرهما من كبار رجال الجمعية، ولكنه أصرَّ على رأيه، وأخيرًا اضطروا إلى موافقته.
وجاء عاطف بركات يمثل هذا الطراز، ويتخذ من حسن عاصم أستاذًا؛ إذ كان يعاشره ويعجب به، كما كان يتخذ من «كنت» مثله الأعلى، وكثيرًا ما كان يحدِّثنا عنه ويستثير إعجابنا به في دقته ونظامه في حياته، وأنه كان إذا خرج من بيته ضبط الناس ساعاتهم على موعد خروجه، وهكذا.
هذه أكبر ميزة لشخصيته: حبه للنظام الدقيق، وتحريه للعدل المطلق، والتمسك به مهما جلب عليه من متاعب.
تولى نظارة مدرسة القضاء الشرعي، وظل فيها أربعة عشر عامًا، فأشعَّ فيها روحه، وكان طلبتها وأساتذتها وزائروها يلمسون العدل ودقة النظام، ويتنفسون كل ذلك من جوها، فالمدرسة سائرة كالساعة، كل عضو يعرف عمله ويؤديه في وقته، وهم يرونه دائبًا لا يملُّ، فيخجلهم بجده ونشاطه، فيقلدونه في سيرته؛ فإذا جدَّ الجد تجلَّى عدله في أكبر مظاهره.
أراد الخديو عباس أن يعطي أحد المدرسين بالمدرسة درجة مالية أعلى من درجته، وأوفد إلى أعضاء مجلس إدارة المدرسة بذلك، فكلهم قبل نزولًا على إرادة الخديو ورغبة في المسالمة، ولكن «عاطفًا» رأى أن غير هذا الأستاذ أحق منه، وأن في إعطائه ظلمًا على الآخرين، فأبى وأصرَّ على الإباء، ووضع نفسه والمدرسة في أزمة مع ناظر المعارف ومع السراي، فلم يعبأ بهذا كله.
ومثَّل الدور نفسه مع سعد (باشا) زغلول؛ إذ كان «عاطف» وكيل وزارة المعارف، ولسعد زعيم الأمة كل السيطرة على شئون البلاد ومصالح الحكومة، فطلب سعد منه أن يقبل ابن حمد (باشا) الباسل في مدرسة ثانوية، وكانت سنه تتجاوز السن القانونية بأشهر، فأبى «عاطف» وقال: إما أن نغير القانون ونقبله ونقبل كل أمثاله، وإما أن نرفض الجميع، وغضب سعد من ذلك أشد الغضب فلم يبالِ بذلك.
لا فرق عنده في تحقيق العدالة بين قريبه وغير قريبه، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، بل ولا بين من يحبه ومن يكرهه؛ أمام عينيه قوانين العدالة وكفى، وهو ليس إلا قاضيًا يطبقها معصوب العينين عن كل اعتبار وكل عصبية، ومثل هذا الرجل — وخاصة في مثل أممنا التي اعتادت الإفراط في المجاملة والمحسوبية — لا يكون محبوبًا إلا من تلاميذه وخاصته، ولكنه يكون محترمًا من الجميع، وكذلك كان، فكم رُجي فرفض الرجاء، وكم طُلب إليه أن يغض طرفه عن القانون فأبى إلا القانون، وكم نُصح أن يرعى الكبراء؛ وخاصة في المسائل الصغيرة لتجاب مطالبه في المسائل الكبيرة، فلم يستسغ عقله هذه المساومة، فكان كل هذا مدعاة لمحاربته وكثرة اصطدامه.
لقد كان من ذلك حادثة طريفة، وهي أن ناظر المعارف كان أحمد حشمت (باشا)، وقد اقترح على مدرسة القضاء أن تعيِّن فلانًا مدرس خط، وكان فلان هذا من أحسن الناس خطًّا وأحسنهم خلقًا، ولكن «عاطفًا» أبى؛ لأن قانون المدرسة يجعل اقتراح التعيين من حق مجلس إدارة المدرسة، وليس لناظر المعارف حق إلا القبول أو الرفض، لا حق الترشيح ابتداء، وكانت أزمة طويلة، و«عاطف» يرى الحق بجانبه، وناظر المعارف يرى أنه مُسَّ في كرامته، ولقيت المدرسة من ذلك عنتًا واضطهادًا صبر له «عاطف»، وأخيرًا نزل ناظر المعارف عن رأيه، وأقرَّ من رشحته المدرسة لا من رشحه هو، وهكذا كانت حياته كلها صراعًا، فما استمسك أحد بالحق إلا أوذي، ولكنه في الوقت عينه أُجلَّ وأُكبِر.
وناحية أخرى كانت ترتكز عليها عظمته؛ ذلك أنه لم يكن واسع الاطلاع ولا بحاثة في الكتب، ولا عاكفًا على البحوث العلمية والأدبية، وإنما يقرأ ما يقرأ في رفق وهوادة، ولكنه مع ذلك نظيف العقل، لا يقبل عقله الفكرة إلا إذا كانت واضحة، ولا يعبِّر عنها إلا إذا كانت ناضجة محددة، وهو إلى ذلك حرُّ التفكير، لا يعبأ بالآراء الموروثة، ولا بالتقاليد المرعية في الأفكار، ثم هو طويل النفس في الجدل، قوي الحجة في المناظرة، لا يملُّ ولا يتعب، حتى قد يسلِّم له مجادله لا عن اقتناع، ولكن حبًّا في الراحة، وطلبًا للسلامة.
ولوثوقه من نفسه في ذلك، وحبه في نشر أفكاره، اتخذ طريقة «سقراط» في تعليمه؛ فكان ينتهز كل فرصة لإثارة الموضوعات التي تنبعث من الظروف الحاضرة، في حجرة المدرسين، في مطعم الطلبة، في حلقاتهم، في الفسح، فيثير مسألة من المسائل ويبرهن عليها، ويتلقَّى الرد عليها من المدرسين أو الطلبة، وتكون المسألة حديث المدرسة في الفصول وأوقات الفسح، وقد تستمر أيامًا والعقول متيقظة باحثة فاحصة، فإذا انتهت أثير غيرها، وهكذا.
فكان هذا مثار نشاط ذهني عجيب، ومدعاة لتحرير الأفكار، وتعويدًا على الاستقلال في التفكير، وعدم الخضوع للتقاليد، هذا في المجادلة العامة في المدرسة وحجر المدرسين والفصول، وكان له مع خاصته وفي بيته جدل في المسائل الدقيقة؛ سياسية كانت أو دينية، يتحرر فيها العقل من كل القيود إلا قيود الحجج والبراهين.
كانت أخلاقه هذه الصارمة القوية صالحة كل الصلاحية لإصلاح مدرسة عالية؛ ولذلك نجح فيها كل النجاح، وخلق جوًّا من العدل والنظام وحرية التفكير، يستنشق منه كل أستاذ وكل طالب على حسب استعداد رئته، وطبع كل من في المدرسة بطابع بيِّن الأثر، وكانت لهم في حياتهم العامة بعد روح مستمدة من روحه، وأخلاق هي صدى لأخلاقه.
فلما تقلَّد منصب وكالة المعارف، اصطدم اصطدامًا عنيفًا بالرجاوات والدرجات والعلاوات، ولم تتحمَّل ميوعة الناس صلابته، ولا عذوبة مجاملاتهم مرارته، فلم ينجح فيها نجاحه في مدرسته.
ولما انغمس في السياسة العامة للبلد، وبالحركات السياسية مع سعد وصحبه، لم تسعفه أخلاقه؛ لأن ألف باء السياسة المصانَعةُ والمجاملة والمهارة في المساومة، وهو لا يحسن شيئًا من ذلك؛ ولذلك كله كان نجاح أخيه فتح الله (باشا) بركات في هذا الباب أكثر من نجاحه هو، وكلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلق له.