المدارس الغربية في البلاد الشرقية
كانت البلاد الإسلامية تعيش على الكتاتيب المتوارثة منذ العصور الوسطى، فهي تحفِّظ القرآن، فإن زادت شيئًا فهي تعلِّم طرفًا من الحساب، وإذا أراد الطالب أن يتمم تعاليمه ذهب إلى الأزهر أو معاهد تشبه الأزهر، حتى غزتنا المدنية الغربية بالتعليم بعد أن غزتنا بالسيف والنار، وقد بُهر الشرقيون أول الأمر بهذه المدارس الغربية؛ إذ رأوا فيها نظامًا خيرًا من نظام مدارسهم، ومناهج خيرًا من مناهجهم، وهم يعلِّمون الناشئين فيها لغة أجنبية تعليمًا ناجحًا، حتى ليقربوا من أن يكونوا كأهل اللغة أنفسهم؛ طلاقة لسان، وسهولة بيان، وهم إذا تعلَّموها وضعوا أعينهم على ثروة كبيرة من الآداب الأجنبية، يرون فيها كتبًا ومجلات تريهم الدنيا الحاضرة لا الدنيا الماضية، فيقبلون عليها، ويأنفون من لغتهم وأدبها.
لذلك كله استُقبلت هذه المدراس بالترحيب، وتعاونت الحكومات المختلفة على التسهيل لها في مهامها؛ فهي تمنحها أراضي بثمن صوري ليقيموا عليها مدارس، وهي تعفيهم من الضرائب الجمركية على ما يأتي إليهم من أدوات وكتب، بل قد تمنحهم مساعدات مالية، وقد تقدِّم إليهم مدرسين ليدرسوا لغة البلاد، وتدفع لهم أجورهم، ومن مظاهر إقبال الناس عليها أن أرسل كثيرون من أعيان الناس ووجهائهم أولادهم وبناتهم إلى هذه المدارس، حتى ليرسل بعض وزراء المعارف أولادهم إليها!
وكان من مزاياها أنها خرَّجت كثيرًا من طليعة المصلحين والزعماء، فقد تعلموا فيها، وقرأوا الكتب باللغات الأجنبية التي تمجِّد الحرية، وتدعو الشعوب إلى الاستقلال، فآمنوا بذلك، وحرَّضوا شعوبهم على المطالبة بالحريات والاستقلال، ولكن حدثت حوادث كشفت الأخطار التي تؤدي إليها هذه المدارس، فأغلبها يبشِّر بالنصرانية، ويخدم السياسة الاستعمارية.
فمن أوائل هذه الحوادث في مصر — مثلًا — أن جماعة من المبشرين نصَّرت فتى مسلمًا، وحملته على أن يعظ الناس في المجامع والكنائس، ويدعو إلى النصرانية، فحزَّ ذلك في نفس السيد جمال الدين الأفغاني، واتفق مع جماعة من الإيرانيين أن يخطفوه وهو يعظ في كنيسة في حي الأزبكية، ففعلوا ذلك، ووضعه السيد جمال الدين في مكان خفي، وذهب هو وتلميذه الشيخ محمد عبده ليقنعا الشاب المتنصِّر بالرجوع إلى دينه، وبيَّنا له سوء فعلته، فعاد إلى الإسلام، وكان من أثر هذه الحادثة وأمثالها أن تنبَّه الناس إلى خطر المدارس الأجنبية من ناحيتين: ناحية الدعوة إلى التنصير، وناحية ما عُرف عنها من أنها أداة من أدوات الاستعمار.
وحدث أن كان الشيخ محمد عبده عضوًا في مجلس المعارف الأعلى سنة ١٨٨١، فقدَّم اقتراحًا للمجلس بجعل جميع مدارس الأجانب في القطر المصري تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها، فعارض أعضاء المجلس من الأجانب وأمثالهم، ولكنه فاز في ذلك بالأغلبية، غير أن وقوع البلاد بعد ذلك في يد الاستعمار جعل هذا القرار حبرًا على ورق؛ فقد كان كبار ساسة الإنجليز؛ كاللورد كرومر عميد الإنجليز في مصر، ومستر دانلوب مستشار وزارة المعارف في مصر، يؤيِّدون المدارس الأجنبية كل التأييد، ويخدمون المبشرين ما وسعهم، حتى لأعلم أن اللورد كرومر طلب من وزير الأوقاف إذ ذاك أن يلغي مستشفى بَنَتْهُ وزارة الأوقاف في حي مصر القديمة؛ لأنه كان على مقربة من مستشفى هرمن، فوعد الوزير بأنه سينقل المستشفى إلى مكان بعيد عن مستشفى التبشير.
وفي الواقع، إن حكومات المستعمرين وضعت أمام أعينها إنشاء المدارس الأجنبية في الشرق لأسباب كثيرة:
منها نشر الثقافة الأجنبية، والنشء إذا تثقَّف بثقافة قوم أحبَّهم ودعا لهم؛ ولذلك تزاحم الإنجليز والفرنسيون والألمان والأمريكان على ذلك؛ ومنها الرغبة في تنصير أبناء الشرق ما استطاعوا، وقد رأوا أن خير الوسائل في التبشير أمران: التعليم في المدارس الأجنبية، والمستشفيات؛ إذ ينتهزون فرصة مرض المريض فيدسُّون له الدعوة إلى التنصُّر.
وكان أول دعاة نشر التعليم والتبشير البعثات البروتستانتية؛ فقد كانوا أول من أدركوا أن التعليم أحسن ميدان للتبشير، وإذ كانت الشعوب الأوربية والأمريكية متحمسة لنشر دينها، أمدَّت هذه المعاهد بالأموال الكثيرة.
قال بعض هؤلاء المبشرين: «إن أهداف المدارس والكليات التي تشرف عليها هذه البعثات هي التنصير، حتى إن الموضوعات الدنيوية التي تُعلَّم فيها؛ كالجغرافيا والتاريخ تحمل معها الآراء النصرانية»، وقال آخر: «إن التعليم أنفع وسيلة يستغلها المبشرون لتنصير الأفراد»، واشترطوا في الأساتذة المدرسين في هذه المدارس أن يكونوا مسيحيين ما أمكن؛ لأن دين المعلم يؤثر ولو من طريق خفي في تلاميذه؛ ولذلك أيضًا تحتفظ ما أمكن بوضع منهج خاص يحقق أغراضها، ولا تسير على مناهج البلاد إلا إذا شعرت بالقوة، واضطرت إلى ذلك اضطرارًا.
ومن غريب الأمر أن هؤلاء المبشرين شديدو التحمس لنشر دينهم؛ فهم يتحمَّلون من أجل ذلك كل ما يصادفهم من صعاب، ولو أدَّت إلى ضياع أرواحهم، ولخدمة أغراضها لم تتورَّع من تحريف التاريخ، فصبَّته في صيغة خاصة، ولوَّنته باللون الذي يعجبها، وطعنت في أديان الشعوب الذين لا يدينون بالنصرانية، حتى تنشر نصرانيتها، وكل يوم كان يحدث في مصر مثلًا — بعد أن تنبَّه الوعي — القومي أن يُكتشف طعن في هذه الكتب في الدين الإسلامي، أو محمد (عليه الصلاة والسلام)، أو في المسلمين، فيثور الرأي العام على ذلك، ثم تجمع هذه الكتب من يد التلاميذ وتنطفئ الثورة.
ومن مكرهم أنهم رأوا أن يوجِّهوا أكبر همهم إلى تعليم البنات، فأنشأوا لهن المدارس الخاصة، علمًا بأن البنات سيكوننَّ أمهات، فإذا كنَّ قريبات من النصرانية، أثَّرن في أولادهن.
وانتشرت المدارس الأجنبية في الشرق انتشارًا كبيرًا، حتى كان في الشام وحدها ١٧٤ مدرسة أمريكية منبثَّة في المدن والقرى، وغزت أنواع التعليم كله؛ من رياض الأطفال، إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، والجامعة الأمريكية في القاهرة، والجامعة الأمريكية في إستانبول، وأجبروا الطلبة على دخول الكنيسة في المدارس، وحضور الصلاة، فلمَّا أضرب الطلبة قال قائلهم: «إننا نأخذ الأموال من المتبرعين بعاطفة نشر الدين، ونحن إذا أبطلنا الدين من المدارس لم نجد من يتبرَّع لها».
ولكن الذي حدث أن هؤلاء المبشرين لم ينجحوا نجاحًا كبيرًا في نشر الديانة النصرانية؛ وخصوصًا بين المسلمين؛ لأن في الإسلام حصانة قوية، فاضطروا إزاء ذلك الفشل أن يحوِّلوا مناهجهم، ويصلحوا أساليبهم، ويتساهلوا في إجبار الطلبة على حضور الصلوات في الكنائس، ولكن — مع الأسف — اكتُشف أن هذه المدارس — وقد عدلت عن التبشير القوي بالنصرانية — أخذت تخدم السياسة الاستعمارية.
وممن تنبَّه إلى ذلك أشد التنبه الأتراك في بلادهم، فقد منعوا الأطفال المسلمين من دخول مدارس المبشرين، وجعلوا التعليم في هذه المدارس قاصرًا على المسيحيين، وفي عام ١٨٨٨ أغلقت الدولة العثمانية مدارس المبشرين الأمريكيين، وكان من أنشط مدارس التبشير بالنصرانية وبالسياسة اليسوعيون، فقد ضيَّقت فرنسا عليهم في بلادها، وشجَّعتهم كل التشجيع في خارج بلادها.
ومن الغريب أيضًا أننا نلاحظ أن أكبر أعداء المبشرين هم المسلمون، فهم أعدى لهم من الوثنيين واليهود، لأسباب يطول شرحها؛ أهمها: أنهم ورثوا العداء للمسلمين من أيام الحروب الصليبية، وأنهم يرون الإسلام يحوط اتباعه بسياج قوي لا ينفذ إليه التبشير، وأنه دين يحارب الاستعمار والانتداب، ولا يرضى إلا أن يحكمه أهله.
وبعد، فواجب الشرق ألا يشجِّع هذه المدارس؛ لأنها مأوى التبشير والاستعمار معًا، وهي تجعل من نفسها داعية لدين غير دين البلاد، كما تجعل من نفسها حكومة داخل حكومة البلاد، وفي ذلك إهدار للاستقلال، ومدعاة للفساد.
إن الأمم الحية الحريصة على توحيد كلمتها وتوحيد آمالها، تصب أبناءها في قالب واحد؛ حتى يكونوا متفقين متساندين، أما هذه المدارس فتجعل أبناء البلاد شيعًا، كل طائفة تصطبغ بصبغة خاصة، وإذ ذاك تتضارب الميول، وتتنازع الآمال، ويكون أبناء البلد الواحد بعضهم أعداء بعض، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى.