الأخلاق الاجتماعية
هنالك أخلاق يصح أن نسميها أخلاقًا فردية، وهي التي يقصد بها أول الأمر إلى إصلاح الفرد وترقيته؛ كالصدق والعفة وضبط النفس، وإن كانت آخر الأمر ترقِّي المجتمع كما ترقِّي الفرد؛ بطبيعة أن المجتمع يتكون من الأفراد، وهناك أخلاق اجتماعية يقصد بها أول الأمر إلى إصلاح المجتمع؛ كأداء الواجب والتعاون.
ويتجلى هذا التقسيم أيضًا في الغرض الذي يرمي إليه الفرد؛ فأحيانًا يكون غرضه تحسين حالته الفردية، فيصوغ أعماله وفق هذا الغرض، فقد يقصد — مثلًا — إلى أن يكون غنيًّا، فيوجه أخلاقه وأعماله هذه الجهة، ويشكِّل حياته التشكيل الذي يتناسب وهذه الغاية، من جدٍّ في العمل وحسن سمعة واقتصاد، وما إلى ذلك، وقد يرمي إلى أن يكون عالمًا، فيتخلَّق بالأخلاق التي تعدُّه لهذه الغاية من جدٍّ وصبر على البحث، وسعة اطلاع وعمق في الدراسة، وبجانب هذا قد يكون غرضه رقي مجتمعه، فيبذل المال لبناء مدرسة، أو تأسيس مستشفى، أو نحو ذلك مما يفيد المجتمع الذي يعيش فيه ويرقيه.
والذي نلاحظه على الشرق عامة أن الأخلاق الفردية تحسنَّت وارتقت إلى حد ما أكثر مما تحسنت وارتقت الأخلاق الاجتماعية، ولعل أكبر ما يوضح ذلك خلق التعاون، فهو في الشرق على العموم ضعيف، ويتجلى ضعفه في الأعمال التي تحتاج إلى تنظيم الجهود؛ كالنقابات والشركات والجمعيات الخيرية، وما إليها، فهي لا تنجح عادة كما تنجح أعمال الأفراد، وكثيرًا ما نسمع بعشرات الجمعيات ومئات اللجان، والعدد العديد من الشركات والنقابات تتأسس ثم لا تلبث أن تفشل، وقد نلاحظ أن ما ينجح منها، وما يقدَّر له البقاء إنما هو في الحقيقة عمل فرد في شكل شركة، أو نقابة، أو جمعية؛ فهي تُرزق بفرد جادٍّ نشيط أمين، يتحمَّل العبء كله أو أكثره، ويقوم بمهام الأعمال كلها أو أكثرها، ثم يظن أن العمل عمل جماعة، والنجاح نجاح جماعة، والحقيقة أنه عمل فردي، والنجاح نجاح فردي.
فالأخلاق الاجتماعية لم ترتقِ الرقي الكافي، والنظر إلى الغاية التي ترمي إلى رقي المجتمع لم يكن متوافرًا في الكثير من الناس، وتتغلب النزعة الفردية على النزعة الاجتماعية، ويضعف الشعور «بنحن» عن الشعور «بأنا»، والناس قد يشعرون بحاجة مجتمعهم إلى مرافق كثيرة لعلاج الجهل والفقر والمرض، من مستشفيات وملاجئ ومؤسسات علمية ونحو ذلك، ثم لا يتحركون لإخراج هذا الشعور إلى حيز الوجود؛ لأنه يتطلب عملًا تعاونيًّا دقيقًا منظمًا، وهو ما لم يصلوا إليه بعد؛ ولذلك يخفون هذا النقص؛ إما بكثرة الكلام في وصف العيوب من غير عمل، وإما برمي العبء كله على حكوماتهم، ومطالبتها أن تقوم بكل شيء وهم لا يقومون بشيء.
وربما تجلَّى هذا النقص الاجتماعي أيضًا في الأحزاب السياسية؛ فالانضمام إلى حزب والخروج منه، يبعث عليه في الغالب الأعم نظر العضو إلى مصلحته الشخصية، أكثر من نظره إلى المبادئ الأساسية التي يدعو إليها الحزب، ثم النظر إلى الزعيم؛ من هو، وما صفاته، أكثر من النظر إلى نوع الإصلاح الذي يدعو إليه الحزب، بل إن الأحزاب لا تتميز بالمبادئ وإنما تتميز بالزعماء، وقلَّما ترى أعمالًا عظيمة أنشئت بتبرعات قام بها الأفراد لخدمة المجتمع، والقليل الذي أُسس منها كان الداعي إلى التبرع له خشية ذي جاه أو سلطان، أو رغبة في التقرُّب إلى مدير أو رئيس حكومة أو نحوهما، أكثر من أن يكون الباعث عليه الشعور بالحاجة إلى مؤسسة تصحُّ المريض أو تغيث الفقير.
وعلى الجملة فإن هذه الظاهرة — أعني ظاهرة عدم التعاون الاجتماعي — واضحة في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، فتتجلَّى في السياسة بعدم تعاون الأحزاب السياسية حتى في الأزمات الحرجة، وتتجلى في الناحية الاقتصادية بعدم نجاح الشركات والنقابات والمصارف إلا قليلًا، وتتجلى في الناحية الاجتماعية بقلة المؤسسات الخيرية.
خلق التعاون يتطلَّب شعورًا عميقًا بأن الفرد نتيجة لمجتمعه، وبأن الخير الذي يناله أتى من مجمتعه، فلولا مجتمعه ما وُجد، ولولا مجتمعه ما سَعِد، فهذه العقيدة تؤدي إلى شعور بوجوب سداد هذا الدين، وذلك بالنزول عن جزء من ماله، أو عن جزء من جهده وصحته ونشاطه وعلمه؛ زكاةً عما ناله من مجتمعه، وهذا الشعور — مع الأسف — لا يزال في حالة بدائية، وسر ما نحن فيه من متاعب هو نقص هذا الشعور، حتى إضراب رجال البوليس والممرضين وأمثالهم إنما حملهم عليه نظرهم إلى شخصهم كطوائف لا إلى الأمة كأمة.
ومن الغريب أن هذه الناحية الخلقية الاجتماعية لم ترتقِ رقيًّا سريعًا واضحًا كالرقي الفردي؛ فما السر في هذا؟
لعل السبب أن الشعور «بنحن» متأخر في الطبيعة وفي الوجود عن الشعور «بأنا»، شأن المجتمع في ذلك شأن الطفل، لا يشعر في أول وجوده إلا بنفسه، ويريد أن تكون الدنيا كلها له، حتى إنه ليطلب من أبويه أن ينزلا له الشمس ليضعها في يمينه والقمر ليضعه في يساره، ولا يفرِّق في ذلك بين ممكن ومستحيل، ولا يأتي الشعور «بنحن» إلا متأخرًا، عندما تصطدم رغباته برغبات إخوته وأسرته، ثم رغباته برغبات إخوانه في المدرسة، ثم بالناس في الحياة، فيبتدئ الشعور بالغير، وينمو بالتجارب، وهذا قانون طبيعي؛ فأفراد الأمة في مبدأ حياتهم كالأطفال لا يشعرون إلا الشعور الفردي الأناني، فإذا رقوا شعروا الشعور الاجتماعي، ثم إذا زاد رقيهم زاد شعورهم، فكانت التضحية.
أو لعل السبب ما توالى على الشرق من استبداد وظلم، والاستبداد يميت النفس ويثير شعور السخط على من بيده الحكم، ويحمل الفرد على كره المجتمع الذي يعيش فيه؛ لأنه فقد فيه حريته، والظلم إذا شاع في المجتمع جعل الفرد لا يفكر إلا في أن ينجو بنفسه، ونتيجة هذا كله التفكير في النفس لا في الغير، والتخلُّق بالأثرة لا بالإيثار.
أو لعل السبب أن الأخلاق الاجتماعية في الغرب نشأت عما حدث فيه من الانقلاب الصناعي؛ فالآلات الجديدة والمخترعات وتقدُّم الصناعة احتاجت إلى كثير من رءوس الأموال، وتأسيس المصانع، وتعاون العقول التي تديرها، وتعاون الأيدي التي تعمل فيها، فكان من ذلك الشعور القوي بأن التعاون لا بد منه لنجاح هذه المشروعات الضخمة، فتعاونوا وأصبح التعاون خلقًا يتوارثه جيل عن جيل؛ ولذلك بدأ التعاون يظهر في الشرق عندما بدأ يتحول من اعتماد على الزراعة وحدها إلى اعتماد أيضًا على الصناعة.
أو لعل كل هذه مجتمعة هي الأسباب في ذلك، وأيًّا ما كان فلا نجاة للشرق من أزماته المختلفة وما يحيط به من أخطار إلا بتخلقه بالأخلاق الاجتماعية.