الأخلاق السياسية
يخطئ من يظن أن الأخلاق السائدة في العالم اليوم هي الأخلاق التي وردت بها الأديان وقررها في كتبهم فلاسفة الأخلاق.
إنما السائد الآن نوع من الأخلاق يصحُّ أن نسميه «أخلاقًا سياسية».
وأهم فرق بين الأخلاق التي أتت بها الأديان وتعاليم الفلاسفة، وبين الأخلاق السياسية التي نتخلق بها اليوم، أن الأولى مؤسسة كلها على اشتراك الناس في الحقوق والواجبات على حد سواء، فإذا أمرت بالعدل طالبت به الناس كلهم، لا فرق بين أسودهم وأبيضهم، ولا فرق بين أفريقي وأسيوي وأوربي، ولا فرق بين أن يعامل الإنسان فردًا من أمته أو فردًا من أمة أخرى.
أما الأخلاق السياسية، فمحورها وأساسها نفع الأمة التي ينتسب إليها الفرد، وبعبارة أخرى: إن الأخلاق الدينية والفلسفية جعلت غايتها عالمية؛ فهي ترمي إلى حسن علاقة الناس جميعًا بعضهم مع بعض، من غير نظر إلى جنس ولا إلى لون ولا إلى وطن، وتضع تعاليمها على هذا الأساس، وتجعل مثلها الأعلى أن يسلك الناس السبيل التي يرقِّي مجتمعهم «ككل»؛ فهي تنظر إلى العالم كعالم لا باعتبار أنه مكوَّن من عدة أمم، وتنظر في تعاليمها إلى الناس كمجموعة واحدة، تنظِّم علاقاتهم، وتصلح من شئونهم، وتضع المبادئ العامة التي توصل إلى خيرهم؛ مثل المبدأ الإسلامي: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، ومثل مبدأ (كانت): «اعمل فقط ما يصح أن يعمله كل الناس»، ومثل مبدأ مذهب المنفعة القائل: «إن العمل خير إذا سبَّب من اللذة أكثر من الألم لكل مخلوق»، وهكذا.
أما الأخلاق السياسية، فنظرت إلى الأخلاق نظرها إلى «القانون»؛ فكما أن لكل أمة قانونها، فكذلك لكل أمة أخلاقها، فمحور الأخلاق السياسية خدمة الأمة التي يعمل لها الساسة، بقطع النظر عن غيرها من الأمم؛ فإذا كان هناك عمل ينفع الأمة ويضر سائر الأمم، فالأخلاق العامة تنهى عنه وتحذر منه، وتجعله شرًّا ورذيلة، على حين أن ساسة هذه الأمة يرون الإتيان به فضيلة ونبلًا، وإن تضررت منه كل الأمم!
وقد عبر القرآن عن ذلك بحكايته عن قوم من اليهود كانوا يرون أن الأمانة إنما تجب على اليهودي لليهودي لا لغيره من العرب ويقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.
وقد كان اليونان في أيام سلطانهم، والرومان في سطوتهم، ينظرون هذا النظر الضيق في تقويم الأخلاق؛ فالأخلاق تجب على اليوناني لليوناني لا لغيره، والناس ينقسمون إلى قسمين: يونان ومتوحشين، والفضيلة إنما وُضعت عند معاملة اليوناني لمثله، إذا عامل اليوناني غيره فليس هناك فضيلة واجبة، وهكذا كان الشأن عند الرومان، ولعل اضطهاد الرومان النصرانية كان من أسبابه الكبرى ما أتت به النصرانية من نظرة أخلاقية عالمية، على عكس ما أتت به روح الدولة الرومانية، ولعل من أسباب اضطهاد اليونان لسقراط أيضًا والحكم بموته، تعاليمه الفلسفية العامة، مقاومًا بذلك تعاليم اليونان الخاصة كما قال الأستاذ «مكدوجل».
ولكن على الرغم من تعاليم الإسلام والنصرانية، وعلى الرغم من تعاليم فلاسفة الأخلاق، فالذي يسود أوربا الآن هو الأخلاق السياسية القومية، لا الأخلاق الدينية والفلسفية العامة؛ فالإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني يقوِّم الأعمال من ناحية أمته لا من ناحية الإنسانية عامة، فإذا عُقدت معاهدة لم ينظر السياسيون إلا إلى أمتهم، هل تنتفع بهذه المعاهدة فيمضوها أو لا تنتفع فيرفضوها، والأمة المقترحة والأمة المشتركة في التوقيع لا تنظر في ذلك إلا إلى نفسها، وقلَّ أن تنظر في ذلك إلى ناحية عالمية أو ناحية إنسانية!
وعند إعلان الحرب أو عقد الصلح لا تنظر كل أمة إلا هذا النظر؛ والسبب في هذا أن مفهوم العدل عند هؤلاء الساسة مفهوم ضيق، ومثلهم مثل شيخ القبيلة الذي سئل عن معنى العدل فقال: «إذا أغرتُ على قبيلة أخرى واستلبت إبلها فهذا عدل، أما إن أغارت عليَّ واستلبت إبلي فهذا ظلم»، فالعدل والظلم دائران حول المصلحة الذاتية، أو بعبارة أدق: حول المصلحة القبلية أو القومية، لا حول المصلحة العامة، وربما كان الداعي إلى هذا تغلُّب الروح الوطنية على الأمم، وإخضاع الأخلاق لحكمها، وأن الحكم بأن هذا الشيء في مصلحة الإنسانية أو في ضررها حكم أكثر تعقُّدًا من الحكم بأن هذا الشيء في مصلحة الأمة، فعقول الناس إلى اليوم لم تقوَ على هذا السمو الذي تحكم فيه المصلحة الإنسانية فتقبل العمل أو ترفضه.
ولذلك نرى أن في كل أمة أفرادًا فلاسفة — يختلفون قلة وكثرة — ينتقدون هذه الأنظار الضيقة في تقويم الأعمال، ويدعون إلى النظرات الواسعة، ولكنهم — مع الأسف — ليسوا القابضين على زمام الأمور، ولا هم المتصرفين في شئون الدول، فقلَّما تجد دعوتهم سميعًا، والسبب في تفوق رأي الساسة على رأي الفلاسفة أن الساسة لا الفلاسفة هم ظلُّ الرأي العام ولسانه الناطق، والفلاسفة يحتاجون إلى زمن طويل حتى تتقطَّر آراؤهم إلى الشعب، والرأي العام — كما لاحظ بعض الفلاسفة — أكثر أنانية وكبرًا وتعصبًا من الفرد.
ومن أهم شرور هذه الأخلاق السياسية — بالمعنى الذي شرحنا — ما تستلزمه من نفاق؛ وذلك أن هذا النوع من الأخلاق مؤسَّس — كما ذكرنا — على الشعور القومي الوطني، والأمم مهما خلت من شعورها الوطني لا يمكن أن تنسى عقلها ولا دينها ولا إنسانيتها؛ فقدر كبير من النفاق لا بد منه للساسة ليوائموا بين الشعور والفكر وبين الوطنية والإنسانية، وبين حكم العواطف وحكم العقل، وأشد أوقات الحاجة إلى ذلك النفاق الأزمات وأوقات الحروب؛ لأن الأمم في مثل هذه الأوقات تغلي مشاعرها الوطنية، وتهتاج عواطفها حفظًا على كيانها، والساسة مضطرون إلى إيقاد هذا الشعور حتى تتقدَّم الأمة بما يجب من تضحية، ولكن في مثل هذه المواقف يستيقظ العقل أيضًا فيكثر التساؤل: ما فائدة هذه الحروب للإنسانية، وماذا يكسب العالم، وماذا يخسر منها؟
وليس يمكن التوفيق بين هذه المشاعر اليقظى والعقول الصاحية إلا بضروب كثيرة من الخداع والنفاق، فتُدَّعى الدواعي العريضة — عند ذاك — في أن الحرب لخير الإنسانية، ولنشر المدنية، ولمحاربة الهمجية، ولإذاعة الثقافة، ولتمدين الشعوب البربرية، ونحو ذلك، والغرض من هذا كله محاولة إقناع مشاعر الشعوب وعقولهم معًا، وأحيانًا تُستغل العاطفة الدينية أيضًا من هذه الناحية، فيُدَّعى أن الحرب لنشر الدين الصحيح في العالم وهكذا، والناظر في الأدب الذي تنتجه الحروب يرى مصداق هذا في وضوح وجلاء، والتاريخ السياسي للأمم المختلفة مملوء بالدعاوى من هذا القبيل.
والمتفائلون من الفلاسفة وعلماء الأخلاق والاجتماع يرون أن العالم سائر من هذه الأخلاق السياسية التي أساسها الوطنية، إلى الأخلاق العامة التي أساسها الإنسانية، ولكن يقلل من تفاؤلهم ما يرون من أنه كلما سنحت فرصة للقرب من هذه الغاية استطاع رجال السياسة أن يحولوها لخدمة الوطنية لا الإنسانية، كما فعلوا في «عصبة الأمم»؛ فقد كانت أسسها التي رمى إليها واضعوها إنسانية بحتة، فما زال الساسة بها يعدِّلونها ويحوِّرونها حتى سلبوا روحها، وقلبوا وضعها، وجعلوها حزبية لا عالمية!
وكان المتفائلون من هؤلاء الفلاسفة يرون، قبل الحرب العظمى، أن المبادئ والأفكار العامة التي انتشرت بين الناس تبعد احتمال وقوع حرب كهذه، فلما وقعت على حال أسوأ مما تخيلوا، شعروا بخيبة الأمل وبُعد الرجاء، ولكنهم مع هذا كله لم يفقدوا أملهم، ولم يعدلوا عن نظريتهم، ورأوا أن هذا هو الطريق الطبيعي للإنسان، وأن ما قطعه في الماضي يدل على اتجاهه في المستقبل، فهو من حين إلى حين يتسع أفقه؛ فقد كان لا يرى إلا نفسه، ثم صار لا يرى إلا قبيلته، ثم صار لا يرى إلا أمته، فسيأتي عليه زمن يرى عالمه، ويقوِّم الأخلاق تقويمًا عالميًّا لا تقويمًا قوميًّا، كما تتطلَّب الفلسفة والأديان.
ومشكلة المشاكل في هذا الصراع من الناحية السياسية والأخلاقية أن الأخلاق القومية والنزعة الوطنية أفادت العالم فوائد لا تنكر، فهذا التسابق إلى المجد بين الأمم، وهذا التناحر المستمر، والصراع الدائم، وحب الغلبة، كان له أكبر الفضل في المخترعات التي اخترعت، وفي النظريات العلمية التي استكشفت، وفي جميع التحسينات التي أُدخلت على الشئون الاقتصادية والاجتماعية إلى غير ذلك؛ فهذه كلها إنما تقدمت هذا التقدم السريع بفضل العداء لا بفضل المسالمة، وبفضل التعصب القومي والتحزب الوطني، فلو أننا أحللنا مكان هذه النزعة نزعة إنسانية عامة، وأسسنا الأخلاق على أسس عالمية، وطالبنا الساسة أن ينظروا في قراراتهم ومعاهداتهم وجميع شئونهم إلى الناحية الإنسانية الصرفة، فهل يظل العالم في تقدمه السريع ونجاحه المستمر أو تقل الحماسة وتفتر الهمم؟
والحق أنها مشكلة كبيرة، وهي وإن كانت صعبة الحل فليست مستعصيته، وكل ما في الأمر أنها تحتاج إلى مجهود عالمي جبار يُصرَف في وضع التربية على أسس جديدة يكون محورها الإنسانية لا الوطنية، والعالمية لا القومية، وتكون غايتها تعويد الفرد أن يتحمس للأخلاق العامة، وأن يقيس الخير والشر بمقياس النفع للإنسانيته لا لأمته، وأن يغار على الخير للناس أكثر مما يغار على الخير لأمته، وأن يقدم في ثبات على فعل ما يضر أمته إذا كان فيه نفع للإنسانية؛ على أن الناس إذا بلغوا منزلة عالية سامية زال كثير من التعارض، ورأوا أن الخير لأشخاصهم والخير لأمتهم والخير للإنسانية شيء واحد، وأن التعارض إنما ينشأ من ضيق الأفق وقصر النظر.