القوى الضائعة في الأمة
إذا نحن نظرنا إلى ماكينة من الماكينات وجدنا أنها إنما تكون صالحة وفي حالة جيدة إذا أدَّت الغرض منها كاملًا في الزمن المعقول، وبنفقات معقولة؛ فالسيارة — مثلًا — إنما تكون في حالة جيدة إذا قطعت المسافات المقررة لها بمقدار من البنزين يناسب سرعتها، ويناسب حجمها، ونحو ذلك، فإذا أنفقتْ بنزينًا كثيرًا في مسافة قصيرة دلَّ ذلك على فسادها، وأن قوتها لم تؤدِّ واجبها.
كذلك الشأن في الأمة، تعمل فيها قوى كثيرة: قوة لتحصيل الغذاء وتوفير وسائل العيش من زراعة وتجارة وصناعة، وقوة لتوفير الأمن والرفاهية، وقوة لأداء مصالح الناس، وقوة للتعليم والتثقيف، وقوة للإنشاء والتعمير، وغير ذلك من القوى؛ والأمة تعد راقية تمام الرقي، إذا كانت كل قواها تعمل لتحقيق أغراضها في أقصر فرصة ممكنة وبالمجهود المناسب.
فإذا عُطِّلت بعض القوى فلم تعمل، أو أنتجت إنتاجًا صغيرًا في زمن طويل، أو عملت القوى أعمالًا متعاكسة بعضها يهدم بعضًا، أو بعضها يعوق بعضًا، دل هذا على تأخر الأمة وانحطاطها.
ولم تصل أمة من الأمم إلى حد الكمال في هذا، بحيث تعمل كل قواها متعاونة متناغمة، وتعمل لتحقيق غايتها في أقرب وقت بأقل جهد، ولا يكون منها قوى تالفة أو متعاكسة، ولكن الأمم على العموم تتفاوت في هذا تفاوتًا كبيرًا بمقدار التآلف ومقدار التعاون أو التجاوب، ومقدار المجهود الذي يُصرف والزمن الذي يُنفق.
فلننظر الآن في القوى الضائعة في الأمة …
فمن الناحية المادية، نرى أراضي كثيرة صالحة للزراعة ولم تزرع، وصحراء وجبالًا ووديانًا وبحارًا وأنهارًا مملوءة بالمعادن والزيوت والقوى الكهربية ونحو ذلك، وهي صالحة لأن تدرَّ كثيرًا من المنافع ثم لم تستخدم، فهذه قوى ضائعة، ومن ناحية أخرى نرى كثيرًا من الناس يستهلكون ولا ينتجون، فأفراد الأمة الذين لم يعلموا ولو علموا لأنتجوا نتائج عظيمة، والمرضى الذين يقعد بهم مرضهم عن العمل ولو عولجوا لصحوا وأنتجوا، والذين يكسبون من الوسائل الدنيئة كالقمار والغش والخديعة … كل هؤلاء وأمثالهم قوى ضائعة لو وُجِّهت الوجهة الصحيحة لأنتجت نتاجًا حسنًا، كذلك الكسالى، والذين يكسبون من الإجرام، والذين لا يعملون ولكن يأخذون مجهود غيرهم ويتلفون في ترفهم وسرفهم وشهواتهم، والذين يدمنون على الخمر والمكيِّفات المختلفة من حشيش وأفيون وكوكايين مما يضعف الصحة ويضيع المال، هي قوة ضائعة.
كذلك من القوى الضائعة إتلاف المال في المظاهر التي لا قيمة لها ونحو ذلك، كلها قوى ضائعة كان يمكن استخدامها في النفع لا في الفساد.
ومن هذا القبيل الكفاءات الضائعة، ومن أمثلة ذلك: أن الطلبة في المدرسة الثانوية والعالية لا يعرفون نوع كفايتهم، وليس هناك من يوجههم، فطالبٌ استعداده نظريٌّ ويُوجَّه وجهة عملية، وطالبٌ استعداده عمليٌّ ويُوجَّه وجهة نظرية، ومن يَصلُح للقوانين يدرس تجارة، ومن يصلح للتجارة يدرس هندسة؛ وحسبك دليلًا على ضياع هذه القوى أن تنسب إلى عدد من يتخرج في هذه المدارس العالية إلى عدد من تخلَّف في الطريق وضاعت كفايتهم، ولو كانوا وُجِّهوا وجهة صحيحة لكثر لإنتاج، وكان نتاجًا طيبًا تبرز فيه الكفايات.
والمسئول عن ذلك أولياء أمور الطلبة، ونظام التربية الذي لا يستكشف الكفايات ولا يوجِّهها وجهة صحيحة، ثم ما نرى من رجال يعملون عملًا غير الذي أُعِدُّوا له؛ فمتخصص في الطب يشتغل سياسيًّا، ورجل أعمال يشتغل موظفًا في الحكومة، وذو كفاية ممتازة في الإدارة يعمل في وظيفة كتابية، إلى جانب ذلك عدد كبير يشتغل — مثلًا — في المحاماة، والأمة أحوج إلى أطباء، أو عدد كبير يزدحم على مكاتب الحكومة والأعمال الحرة مقفرة … وهكذا من آلاف الأمثلة التي تضيع فيها الكفايات، والأمة الصالحة هي التي تكتشف الكفايات وتعرف كيف تستغلها.
والذي يوجِّههم إلى ذلك ليس الكفايات، ولكن الرغبات الكاذبة في المنصب أو الجاه، ويوجِّههم إلى ذلك أيضًا الرغبات الفردية لا مقدار حاجة الأمة إلى النوع.
وبالأمس قرأت لكاتب أمريكي يروي أنه راقب قطع أشجار في شارع من شوارع مصر استغرق ثلاثة أشهر، وكان يمكن أن يُعمَل في ساعة أو ساعتين!
ولو حسبت حساب ما تنتجه من العمل عامة، وما يصرف من الزمن، لراعك مقدار الوقت التالف، ثم لو نظرت إلى مقدار قوتهم وما يمكن أن ينتجوه لكانت النتيجة مريعة.
كم من الناس لا عمل لهم في الحياة؟
فكم من النساء لا عمل لهن في البيت ولا خارج البيت؟ وكم من المتعطلين الذين يتسكعون في الشوارع أو يقضون أوقاتهم في المقاهي والأندية؟
وكم من المتخاصمين الذين يقضون سنين في المحاكم في نزاع وخصام، ولو حُكِّم العقل لانفض النزاع في ساعة.
إلى جانب ذلك، كم من ملايين الفلاحين يعملون في الأرض بوسائل الزراعة القديمة، ولو استخدمت الآلات الحديثة لعملت في يوم ما يعمله الفلاح في أسابيع؟
وكم من الصنَّاع يشتغلون في الصناعات اليدوية، والآلات الحديثة تنهج أضعاف ما يعملون بأيديهم، ولو استخدمت هذه الآلات لانتفعنا بهؤلاء الفلاحين وهؤلاء العمال وهؤلاء الصناع في أعمال أخرى؟
فهذه أيضًا كلها قوى ضائعة.
ومن القوى الضائعة في الأمة المنافسات الحزبية حول الأمور التافهة، والمهاترات السياسية بدون جدوى، وما يتبع ذلك من خطب واجتماعات وملء فراغ في الصحف، وإفساد لعقول الشبان وسوء توجيههم، وصرفهم عن النزعة القومية النبيلة إلى النزعة الحزبية الضيقة، فكل ما يبذل في هذا الباب قوى ضائعة.
ومن القوى الضائعة المجالس واللجان تثار فيها المسائل، فيطول الجدل العقيم حولها، ويكثر الكلام فيها، وتستغرق مناقشاتها الساعات والأيام والشهور والسنين، وكان يكفي المنطق الصحيح والعقل السليم للبت فيها بسرعة، لولا ما يحيط بها من حب للكلام، وتظاهر بالفصاحة، ولعب المصالح الشخصية الخفية في توجيه المناقشة والجدل واصطناع الحجج.
هذه بعض مظاهر القوى الضائعة في الأمة، وما أكثرها! والناظر إليها يأخذه الرعب من كثرة ما يرى من القوى مع قلة الإنتاج؛ لضياع أكثرها، فمَثَل الأمة في هذا الموقف مَثَل سيارة تستنزف كثيرًا من (صفائح البنزين) لتسير بضع خطوات، أو كوابور مياه يحرق مقدارًا كبيرًا من البترول لاستخراج حفنة من الماء!
حتى لو قلنا إن تسعة وتسعين في المئة من قوى الأمة ضائعة أو مهملة من مثل الذي ذكرنا وأشباهه، وإنها تعيش على واحد في المئة فقط، لم نكن مبالغين ولا مجافين للحق.