متاعب الحياة (١)١
الحق أن هناك صنفين من المتاعب: متاعب حقيقية، ومتاعب وهمية، وربما كانت الأخيرة أكثر من الأولى؛ فمن كان فقيرًا لا يجد ما يسد رمقه ورمق أسرته، فهذا مصدر تعب حقيقي، ومن رُزقت بزوج غير صالح فتعبُها منه تعب حقيقي، ولكن هذا وأمثاله قليل بجانب المتاعب الوهمية التي يخلقها الإنسان خلقًا، والتي تعود إلى حالة مرضية في نفسه، أكثر مما تعود إلى سبب خارجي متعب حقًّا.
ولنستعرض الآن نماذج من الناس يتعبون متاعب جمة، ومصدر تعبهم هم أنفسهم، وكان في إمكانهم أن لا يتعبوا إذا غيَّروا نفسيتهم، وأصلحوا من نظرتهم إلى الحياة.
هنالك الرجل الذي لا يعمل عملًا إلا وأغضب من حوله، فإذا وُظِّف أتعب زملاءه بما يجرحهم من كلام، أو ما يصدر عنه من تصرف، وإذا ساق سيارة لم يبالِ بما يصنع في الطريق، وإذا أشرف على أسرة لم يعبأ بزوجته ولا ولده، وإذا تصرَّف أي تصرف في الحياة، استطاع بقدرته العجيبة أن يحوِّل تصرفه إلى معركة مهما كان نوع العمل بسيطًا.
وهناك المرأة التي تخلق من كل شيء سببًا للنزاع؛ حول ما تشتري، وحول ما تلبس، وحول ما تسكن، ولا يعجبها أي تصرف من تصرفات زوجها، ولا يعجبها أي عمل من أعمال أولادها، فهي ناقمة أبدًا، ساخطة أبدًا، متعبة لنفسها ولأسرتها أبدًا.
وهناك الرجل الذي حطَّم أعصابه بسلوكه، وتوقَّع الفشل في كل شيء سيحدث؛ فهو إذا تزوج اعتقد أنه سيفشل في الزواج، وإذا رُزق أولادًا توقع أنهم لا ينجحون في مدارسهم، وإذا سار في الطريق توقع أنه ستصدمه سيارة أو ترام، وإذا عهد إليه عمل توقع أنه لن ينجح فيه، وهكذا؛ فنظرته إلى الدنيا نظرة تشاؤم مستمر، وهذه النظرة كفيلة بأن تنغِصَّ عليه وعلى من حوله معيشتهم.
وهناك العيَّابون والظنَّانون الذين لا يعجبهم العجب، فلا أسرتهم تعجبهم، ولا حكومتهم تعجبهم، ولا الجرائد إذا قرأوها، ولا المجلات إذا تصفحوها، ولا التعليم إذا عرضت عليهم أساليبه، ولا أي نظام في بلدهم يعجبهم، ثم هم يعيبون ولا يقترحون، ويهدمون ولا يبنون، فاسودَّ العالم أمامهم، وسوَّدوه مِن حولهم.
هذه بعض أمثلة من متاعب الحياة الوهمية التي أوجدها الإنسان بنفسه، وخلقها بأوهامه أو أعصابه أو تشاؤمه، ثم رمى نفسه فيها وتعب منها وأتعب من حوله بها، والعالم مملوء بهذه المتاعب الوهمية التي ليس لها علاج خارجي، وإنما علاجها ليس إلا في إصلاح النفس ونظرتها إلى الحياة.
والناس في هذه المتاعب الوهمية كلابس المنظار، فمن لبس منظارًا أسود رأى الدنيا كلها سوداء، ومن لبس منظارًا أبيض رأى الدنيا كلها بيضاء.
وفي استطاعة الإنسان إذا ربَّى نفسه تربية صحيحة أن يتغلَّب على المتاعب الوهمية، بل وكثير من المتاعب الحقيقية؛ نعم، إن هناك متاعب خارجة عن إرادته؛ كمتاعب الغارات الجوية، وكوارث الحرب، وبعض ما أنتجته المدنية الحديثة من شرور، ولكن هذه نادرة الحصول في الحياة العامة للإنسان.
أما المتاعب اليومية الكثيرة الوقوع فيمكن التغلب عليها بتسليح النفس وتقويتها، وأهم سلاح للنفس تستطيع به التغلب على المتاعب قدرتُها على تعديل نفسها على وفق الصعاب التي تعترضها؛ فإذا كانت متاعب الحياة من قلة دخل البيت أمكن بالحكمة في الإنفاق التغلب على الصعاب، وإذا كان التعب من غضب الزوجة أو الزوج، فالعلاج أن يتعوَّد الحلم ويقابل الإساءة بالإحسان، وكلما استطاع الإنسان أن يعدل نفسه وفق الظروف التي حوله كان أسعد حالًا وأقل متاعب.
يروى أن ستة أشخاص قضت عليهم الظروف السيئة أن يُحبسوا في حجرة ضيقة مغلقة ستة أشهر، ومعهم طعام قليل، وماء قليل، فأما اثنان منهم فتبرَّما أشد التبرم من هذه الحياة، ولم يريا بصيصًا من الأمل يسرِّي عنهما، فأصيبا بالجنون، وأما ثلاثة آخرون منهم، فنظروا إلى هذه الحياة بمنظار أقل سوادًا من الأولَيْن، فأصيبوا بنوبات عصبية متقطعة، وأما السادس، فأبعد عن ذهنه ما استطاع فكرة البؤس الذي هو فيه، والتفكير في ما سيحدث، وشغل نفسه بتأليف كتاب يستمده من أفكاره وآرائه ومعلوماته، فلما فُتح عليهم الباب ليطلق سراحهم كانت حالتهم ما شرحنا، ولا فرق بينهم إلا من نجا منهم، عدَّل نفسه وفق ظروفه، وأما الخمسة الآخرون فلم يستطيعوا ذلك.
إن كثيرًا من متاعبنا تنشأ من جبننا، واستسلامنا للمتاعب تطغى علينا وتخيفنا وتحاربنا فتهزمنا، أما من شجَّع قلبه وصمَّم على أن يتغلَّب على المتاعب مهما كثرت وكبرت، فإنه يغلبها ويظفر بها، وينجو من أضرارها.
إن موقف الإنسان أمام المتاعب كموقف الجنود في ميدان القتال؛ إن فرُّوا هُزموا وتغلَّب العدو عليهم، وإن صبروا واحتملوا وصمَّموا على أن يغلبوا العدو، فازوا وظفروا.
من أراد أن يعالج نفسه علاجًا حقيقيًّا ليخفف عنه وعمن حوله ما يصدر عنه من متاعب، فليعرف نفسه أولًا.