الابتهاج بالحياة (١)
لقد أكثرت في أحاديثي الماضية عن متاعب الحياة، فلأحدثكم اليوم عن الابتهاج بالحياة.
والحق أنَّا لو قارنَّا بين الغربيين والشرقيين وجدنا أن الشرقيين تغلِب عليهم طبيعة الحزن والاكتئاب، وهذا ما يلاحظه الغربيون على الطلبة الشرقيين الذين يتعلمون عندهم، وهذا أيضًا ما نلاحظه نحن على أنفسنا، فنحن إذا حدث ما يستوجب الحزن أفرطنا فيه؛ كما يحدث في الوفيات، نبالغ في البكاء على الميت، وننغص حياتنا لفقده مدة طويلة، ونقيم التقاليد الكثيرة من مآتم وخمسان وأربعين وحفلات تأبين ونحو ذلك، على حين أن الغربي يحزن ولكن في رفق وهوادة، ويرى أن الموت يكاد يكون أمرًا طبيعيًّا كالحياة.
وكذلك نبالغ في الحزن في النكبات؛ كالحزن عند الأمراض، والحزن عند خسارة مالية ونحو ذلك، وكثير منَّا إذا لم يجد سببًا من أسباب الحزن خلقه، فهو وأهله في صحة، وعندهم من المال ما يكفيهم، ودنياهم سائرة على ما يرام، ولكنهم مع ذلك يخلقون أسباب الحزن خلقًا؛ فيحملون همَّ المستقبل، وماذا سيكون فيه، أو يتنازعون على شيء تافه فيحزنون من أجله، وعلى كل حال فطبيعتنا يغلب عليها الحزن، ومَن فَرِح بالحياة وابتهج بها فابتهاج قليل يعقبه حزن طويل، أو إفراط في مباهج الحياة يسبِّب تنغيصًا وحزنًا وألمًا يعقبه أضعاف ما ناله من فرح وابتهاج.
ولعل السبب في انتشار طابع الحزن علينا يرجع إلى أمور كثيرة؛ أهمها ما مضى على الشرق من عصور كان فيها ظلم الحكام شديدًا قاسيًا، أمات روح الناس وقلَّل من ابتهاجهم، وتلا هذا الاستعمار وما فيه من ظلم واستغلال وضغط على الحرية جعل الناس يألمون ويكتمون ألمهم، والألم المكتوم أفعل في النفس من الألم الظاهر، وهناك سبب آخر، وهو أن الحياة في الشرق تسودها الفوضى وعدم النظام، والفوضى في الحياة تسبِّب المتاعب والألم، فإذا كان البيت فوضى تَعِب أفراد الأسرة، وإذا كانت الوظائف فوضى تعب الموظفون، وإذا كان الترام والسيارات فوضى تعب الراكبون، وإذا كان الطباخون وسائقو السيارات والخدم لا يسيرون في حياتهم على نمط معقول تعب من يعاملهم، وهكذا.
فالإنسان في استمرار يعامل طائفة كبيرة من أفراد المجتمع، فإذا لم تنتظم الحياة معهم سبَّبت الألم والمتاعب، وهيَّجت الأعصاب، وأورثت الحزن، وهكذا.
والحياة فن من الفنون، فإذا ضاع فن الحياة ضاع السرور بها، بل إن السرور بالحياة نفسه فن من الفنون، ويخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط لأجل أن يكون مسرورًا مالًا وبنين وصحة ونحو ذلك.
فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء، ومن الناس من لا يستطيع أن يشتري ساعة سعيدة ضاحكة مستبشرة بأغلى الأثمان، ومنهم من يستطيع أن يشتريها بأتفه الأثمان، وذلك لاختلافهم في الطبع والمزاج.
إننا نحتاج للابتهاج بالحياة إلى شيئين هامين؛ أولهما: تنظيم الحياة في أنفسنا وفي من حولنا؛ فالبيت إذا نُظِّم — أعني نظمت ميزانيته، ونظمت حياة صغاره وكباره، ونظمت العلاقة بين الزوجين، وبينهما وبين الأولاد — كان أهله أقرب إلى الابتهاج بالحياة، والموظف إذا نُظِّمت مصلحته — أعني حسنت علاقته بينه وبين رؤسائه ومرءوسيه — كان أهدأ بالًا وأسعد حالًا، وكذلك كل ما يتعلق بالإنسان من شئون إذا نُظِّمت كانت مبعث سعادة وابتهاج.
والأمر الثاني الشجاعة؛ فكثيرًا ما يكون سبب الحزن فقدان الشجاعة؛ يخاف من الموت، ويخاف من الفقر، ويخاف أن تنزل به كارثة، ويخاف من المستقبل، ويخاف أن يفشل في عمله، فهذا الخوف كله ينغص عليه حياته، ويجعله منقبضًا غير مبتهج.
وسبب آخر، وهو عدم تنظيم أسباب السرور، وهذا أمر يحتاج إلى مهارة؛ فالزوج أو الزوجة في البيت إذا مهرا في خلق أسباب السرور جعلا البيت جنة، ونحن تنقصنا هذه المهارة في خلق السرور مع مهارتنا الكبرى في خلق المنغصات؛ فاجتماعات المنزل كثيرًا ما تنتهي بنزاع، حتى الملاهي العامة كثيرًا منها لا يُرضي الذوق السليم ولا الفن الرفيع، وكثيرًا ما تكون تافهة لا يجمِّلها فن ولا يرقِّيها ذوق، ومن أجل هذا كان أشد الناس بؤسًا في الحياة هنا من رقي ذوقه ونبلت نفسه.
إن الناس يختلفون في قدرتهم على الابتهاج بالحياة اختلاف المصابيح الكهربائية؛ فمنها مصباح محترق لا ضوء فيه، ومنها مصباح يضيء بقوة عشر شمعات أو خمس عشرة أو عشرين أو مئة أو مئتين، وهكذا الناس طبيعة منيرة مضيئة مشرقة، وطبيعة حزينة أسيفة مكتئبة مظلمة.
وجزء من هذا الاختلاف طبيعي في خلقة بعض الأفراد، ولكن الجزء الكبير يرجع إلى العادة، فمن السهل تعويد النفس النظر إلى الحياة نظرًا بهيجًا مفرحًا.
ومن الملاحظ أن الذين يغلب عليهم الحزن هم الذين يكثرون التفكير في أنفسهم، والتفكير في مستقبلهم، فإذا اعتدل الإنسان في التفكير في نفسه، ووسع أفقه، وفكَّر في غيره، وفكَّر في العالم، كان أقل حزنًا وأكثر ابتهاجًا، وهذا الفن — فن الابتهاج بالحياة — يتطلَّب أن يقبض الإنسان على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء، فإن رأى نفسه قد تعرض لموضوع مقبض؛ كميزانية بيته، أو سوء مصلحته، أو متاعبه في وظيفته، فليحول تفكيره إلى أخرى، ويثير مسألة من المسائل التي تجلب السرور عليه.
ومن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقيع الشر، والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت — لا قدر الله — فليقابلها بشجاعة وحكمة واعتدال.
إن الرجل المبتهج بالحياة يزيده الابتهاج بالحياة قوة، فيكون أقدر على الجد وحسن الإنتاج ومقابلة الصعاب، من الرجل المنقبض الصدر الممتلئ بالهم والغم، وكما أن كل عادة تكتسب بالتمرين، فالصانع يكتسب صناعته من التمرين، والموظف يتقن عمله بالتمرين، والنظافة والقذارة حسب الاعتياد، والأخلاق الفاضلة أو الرذيلة حسب الاستعداد، فكذلك الشأن في مقابلة الحياة بالحزن والألم، أو الابتهاج والسرور.
وما الحياة؟ مرحلة عابرة لا تستحق أن ينغص الإنسان على نفسه فيها بكثرة الألم، وكل ما يُطلب من الإنسان فيها أن يقضيها على أحسن وجه مبتهجًا مسرورًا فعالًا للخير، يشعر بالفرح لفرح الناس، وبالخير يصلون إليه، ويبتهج بجمال الطبيعة وجمال ما فيها، فإن صادفه ما يؤلم نحَّاه جانبًا إن أمكنه، ورضي مطمئنًا بما لم يمكن تغييره، وبهذا يعيش عيشة راضية، عيشة سعيدة موفقة.
إن أردت أن تعرف شيئًا صحيحٌ هو أو فاسد؛ سواء كان هذا الشيء عادة من العادات، أو خلقًا من الأخلاق، أو فنًّا كأدب أو موسيقى أو تصوير، فانظر هل هو مما يزيد الحياة قوة، ويُكسب الحياة صحة، فاحكم عليه — إذن — بأنه عمل نافع وفن نافع، وإن كان يضعف الحياة ويجعلها مريضة فاحكم عليه — إذن — بأنه عمل ضار وفن ضار، ولا شك أن الهمَّ والاستسلام للحزن، والخوف من توقُّع المكروه، والإفراط في تقدير الآلام، مما يضعف الحياة ويضعف الإنتاج، ويزيد الآلام والبؤس والشقاء.
فحارب الكآبة في نفسك، وابتسم للحياة وابتهج بها في غير إسراف، تَزِدْ حياتك قوة، وتشعر بالسعادة، وتُشعِر بها مَن حولك.