الابتهاج بالحياة (٢)
أكرر القول بأن حياة الناس في الشرق يغلب عليها طابع البؤس والحزن، إذا قارناها بالحياة في الغرب، وأزيد اليوم القول بأن من أسباب ذلك أن عواطفنا حادة لا معتدلة؛ فنحن نبالغ في الغضب إذا غضبنا، ونبالغ في الحزن إذا حزنَّا، ونبالغ في الفرح إذا فرحنا، وأسباب الحزن عندنا أكثر من أسباب الفرح؛ لذلك يغلب علينا الحزن والإفراط فيه، وقلَّ منَّا من مُنح الاعتدال في عواطفه، وضبط نفسه عند تعرضه لأسباب الحزن أو لأسباب الفرح.
يتجلَّى ذلك في كل مظاهرنا؛ فخير الأكل عندنا ما كثرت فيه الأقاوية والبهارات والدسم، فإذا خلا من ذلك، أو قلَّت كمية توابله ودسمه عددناه أكلًا تافهًا! والموسيقى لا ترضينا إلا إذا تناغمت مع عواطفنا الحادة؛ فكانت إما حزبية باكية أو مرحة صاخبة، والممثل لا يرضينا إلا إذا بالغ في الانفعال، وصخب في الأقوال، وأكثر من الحركات، وهكذا، ولما كانت أسباب الحزن كثيرة ونحن نبالغ فيها ونطيل زمنها، كانت أكثر أوقاتنا حزنًا.
إن أسباب الحزن تقع للشرقيين والغربيين، ولكن الغربي معتدل في عواطفه، يؤمن بأن العزم وقوة الإرادة تستطيع أن تتغلب على الحزن والألم، فينجح في ذلك — أعرف كثيرًا من الحوادث يظهر فيها الغربي بمظهر الجلد الصبور الشجاع المحارب للأحزان لا المستسلم لها.
كان عندنا في كلية الآداب أستاذ ألماني مستشرق شهير اسمه الأستاذ برجستراسر قضى عام دراسته في مصر، ثم ذهب لقضاء إجازته في ألمانيا، فحدَّثني صديق له أنه خرج يومًا للنزهة يتسلق جبلًا عاليًا، حتى إذا بلغ القمة زلَّت قدمه، فظل يهوي حتى وصل إلى القاع ميتًا، فأُخذ إلى المستشفى وأُخبرت زوجته بالحادث، وكان أبوها يزورها هذه الليلة قادمًا من الريف، فأبت أن تزعجه، وصمَّمت أن يبيت عندها ليلة سعيدة هانئة، فكتمت عنه الخبر، وكانت تدخل الحجرة وحدها فتدمع على زوجها، ثم تخرج إلى أبيها تحدِّثه كأن لم يكن شيء، حتى أصبح الصباح فأخبرت أباها بالخبر في هدوء، وذهبت إلى المستشفى تقوم بواجب الوفاء لزوجها!
وحدث في الحرب العالمية الأخيرة أن عميد معهد علمي في بيروت، وهو أمريكي الجنس، فقد ابنه في الحرب، فذهب بعض أصدقاء الأسرة من بيروت يعزونه حينما قرأوا الخبر في الجرائد، فاستقبلهم الرجل وزوجته بالبشر والترحاب على عادتهما، وأخذ الجميع يتحدثون في المسائل العامة والجو وما إلى ذلك، كأن لم يحدث شيء، فشك الزائرون في صحة الخبر، ولم ينبسوا بكلمة في العزاء، حتى إذا انصرفوا تأكدوا من صحة الخبر!
وهكذا من كثير من الحوادث والأخبار التي تدل على اعتدال في المزاج وضبط للنفس، وأخذهم بمبدأ مات الميت فليحيى الحي، ولعل من الأسباب في ذلك أنه قد مضى علينا قرون طويلة من غير أن ندخل حربًا، فأصبحنا نستعظم الموت ونبالغ في نتائجه، والأمة الحربية عادة لكثرة ما تلاقي من الشدائد وويلات الحروب ونكباتها تعتاد أحداث الموت، وتتلقى الكوارث بصبر وثبات.
إن الابتهاج بالحياة فن من الفنون جهلناه، فأصبحت حياتنا كالماكينة التي وُضع جزء منها في غير موضعه، فسبَّب ذلك خراب الماكينة كلها وضوضاءها في سيرها وعدم انتظامها، والذنب ذنبنا لا ذنب أي شيء آخر؛ خذ — مثلًا — الأسرة، فكل أسرة غالبًا لها أوقات فراغ تقضيه في البيت مجتمعة، وهذا الوقت عند الأمم الراقية من أسعد الأوقات؛ يقضونه إما في حديث ممتع، أو في لعب فنية، أو نوادر طريفة، أو (فوازير) جميلة، فتنتعش بذلك النفس وتبتهج الحياة، وينسى كل فرد ما لقيه من متاعب عمله خارج البيت، فماذا نصنع نحن في مثل هذا الوقت؟ لم نتقن فن اللعب الظريف ولا النوادر اللطيفة، وإنما أتقنَّا فن المشادة والغضب لأتفه الأسباب، وتنغيص الحياة بما لا يحصى ولا يعد من أسباب!
إن أهم ما في الحياة معرفة طرق المعيشة، وكان من الطبيعي وقد كانت حياتنا أعز شيء علينا أن نبذل جهدًا كبيرًا في البحث عن أسباب سعادتها والابتهاج بها، فإذا خرجنا عن الأسرة إلى الحياة خارج البيت وجدنا الرجل يضيع أكثر أوقاته في الجلوس على مقهى ولعب شطرنج أو نرد أو نحو ذلك، أو جلس مع أصدقاء يتحدثون حديثًا سخيفًا في العلاوات والدرجات، وتركوا أسرتهم تضيع الوقت أيضًا في توافه الأمور، فلا الرجل يفكر كيف يسعد أهله، ولا المرأة تفكر في كيف تسعد أسرتها، وقلَّ من استفاد من الحياة كما ينبغي، فلا المناظر الطبيعية الجميلة تجذب أنظارهم، ولا القراءة اللذيذة الممتعة تستدعي انتباههم، ولا تخصيص وقت للخدمة الاجتماعية العامة تنال حظًّا من أوقاتهم؛ فمن أين يفرحون، وبأي شيء يبتهجون؟
فالحق أن الحياة رواية في استطاعة الإنسان أن يجعلها رواية ضاحكة مبتهجة، وأن يجعلها مأساة حزينة مكتئبة.
إن أهم سبب في الابتهاج بالحياة هو أن يكون للإنسان ذوق سليم مهذب، يعرف كيف يستمتع بالحياة، وكيف يحترم شعور الناس ولا ينغص عليهم، بل ويُدخِل السرور على أنفسهم، فالذوق السليم قادر على استجلاب القلوب وإدخال السرور على نفس صاحبه ونفس من حوله، وكما قال قائل: «ما تريد نيله بالتخويف والإرهاب يمكنك أن تناله بالابتسام».
تصوَّر أسرة ساد فيها الذوق السليم؛ نرى كل فرد فيها يتجنَّب جرح إحساس غيره بأي لفظ أو أي عمل يأباه الذوق، بل إن ذوقه يرفعه إلى حدِّ أنه يتخيَّر الكلمة اللطيفة والعمل الظريف الذي يُدخِل السرور على أفراد أسرته؛ إن الذوق السليم في البيت يأبى النزاع، ويأبى حدة الغضب، ويتطلب النظام وحسن الترتيب، والاستمتاع بجمال الزهور وجمال النظافة وجمال كل شيء في البيت، فلسنا مبالغين إذا قلنا إن رقي الذوق أكثر أثرًا في السعادة من رقي العقل.
إن الذوق إذا رقِّي أَنِف من الأعمال الخسيسة، ومن الأقوال النابية، ومن الأفعال السخيفة، والذوق السليم إذا رقِّي في الأمة رقَّى موسيقاها ورقى أغنانيها ورقى رواياتها وتمثيلاتها، وكل هذه مباهج للحياة تزيل غمومها وهمومها، ولو استطعتُ لجعلت جزءًا كبيرًا من مناهج التعليم في المدارس لتربية الذوق بجانب المناهج المكتظة بتربية العقل.
كل إنسان في الدنيا يضع على عينه منظارًا حقيقيًّا أو مجازيًّا، وأكثرنا مع الأسف يلبس منظارًا أسود يريه كل شيء أسود؛ فإذا نظروا إلى الأشياء نظروا معايبها ولم ينظروا إلى محاسنها، ولم يعجبهم حاضرهم، ورأوا السعادة في غير ما هم فيه؛ ولذلك يكثرون من إذا … ولو … ولعل … وعسى … ولو حصل كل ما يتمنون ما زادوا شيئًا، وما تغيَّرت حالتهم ما دامت على أعينهم هذه النظارات، وتغييرها بنظارات بيضاء ترى الحياة على حقيقتها، وترى الدنيا مملوءة بالمسرات، مع قليل من الأحزان وكثيرًا من النعم مشوبة بقليل من النقم، وهذه الأحزان وهذه النقم قليلة القيمة إذا تسلَّح الإنسان بالشجاعة في مقاومتها، وفي استطاعة الإنسان أن ينصب في نفسه سرادقًا كبيرًا، إما لمأتم كبير أو لفرح كبير.
ويخطئ كثير من الناس فيظن أن الابتهاج بالحياة معناه اللذة الحادة الجامحة، ويظنون السعادة في الإفراط في الملاهي على اختلاف ألوانها؛ إما في سُكْر مفرط، أو غشيان دار من دور اللهو الخليعة أو نحو ذلك، وليس هذا ابتهاجًا بالحياة، وإنما هو إبادة للحياة، وهذه اللذات الحادة كنار القش تلتهب سريعًا وتخمد سريعًا، وقد يكون من أضرار التهابها وآلامها ما يساوي أضعاف لحظات لذتها.
إنما نعني بالابتهاج بالحياة موقف النفس إزاء الحياة، والاستمتاع بها استمتاعًا معتدلًا لا إفراط فيه ولا تفريط … نريد بها حالة من أحوال النفس تهيِّئ ذوقًا للاستمتاع بمحيطنا استمتاعًا أطول ما يمكن وأقوى ما يمكن، استمتاعًا يقوينا على الجد في الحياة، ويجعلنا أقدر على إسعاد أنفسنا وإسعاد من حولنا، أما اللذات الحادة الوقتية فلذات وهمية يتبعها من الألم أكثر مما تستوجب من اللذة.
إن راحة الضمير، ولذة العقل، ولذة الروح، ولذة النفس، واللذة التي يشعر لها المرء أنه مصدر للخير يشعُّه على الناس كما تشع الشمس ضوءها، كل ذلك ابتهاج بالحياة لا يعادله التمرغ في اللذات الدنيئة الوقتية التي تسبِّب لذة عارضة تعقبها حسرات دائمة.