التعب العصبي.. والخوف
وإنما الجديد هو التسمية فقط بالنرفزة، والجديد أيضًا أن حياتنا المعقدة المركبة التي خلَّفتها المدينة الحديثة، وزادت من أعبائها ومسئولياتها، زادت أيضًا في هياج أعصابنا، بدليل أن الفلاحين في القرى ومن عاشوا عيشة بسيطة أقل نرفزة من سكان المدن، وأن الطبقة الفقيرة من سكان المدن أقل من الطبقة الوسطى والعليا لقلة مسئولياتها.
والنرفزة أو هياج الأعصاب تنشأ من المجموع العصبي عند الإنسان، والمجموع العصبي يتكوَّن من المخ ومن النخاع الشوكي، وهو المادة الهلامية الموجودة في سلسلة العمود الفقري، ومن ملايين من الخيوط الدقيقة التي تتفرَّع من المخ ومن النخاع الشوكي، وتصل إلى كل خلية من خلايا الجسم، وهذه الأسلاك أو الخيوط من أهم وظائفها أنها ترسل الإشارات إلى المخ، وتتلقى منه الإشارات، فهي أكبر وأعقد من أي محطة للأسلاك التلغرافية؛ فمثلًا: إذا لمس إصبعك شيئًا ساخنًا جدًّا فجذبت يدك فمعنى هذا أن خلاياك التي في الإصبع لمست هذا الشيء الساخن، وأرسلت خيوط أعصابك إشارة إلى المخ بما وجدت وما أحسَّت، وتلقت إشارة من المخ بالانسحاب فانسحبت، وكل هذا يحدث في سرعة البرق، وهكذا إذا أردت المشي، أو تحريك يدك، أو الراحة، أو نحو ذلك.
والأعصاب من مخ ونخاع وأسلاك، شيء مادي يُرى بالعين أو بالميكروسكوب، ولكن التيار الذي يجري فيها كالتيار الكهربائي لا يُرى ولكن يُعرف بآثاره.
وتختلف هذه المجموعة العصبية عند كل إنسان عن الآخر، فكما أن كل فرد يختلف في ملامح وجهه، وقوة حواسه، وعضلاته، وبناء جسمه، عن الشخص الآخر قوة وضعفًا، وجمالًا وقبحًا، فكذلك المجموعة العصبية يختلف الناس فيها قوة وضعفًا، وهذا ما نشاهده؛ فنرى أشخاصًا قويت أعصابهم، فهم يتحملون المسئوليات وأحداث الزمان والشدائد في صبر وثبات، وهناك على العكس من ذلك من تهزُّهم هزًّا عنيفًا الأحداث الخفيفة والمسئوليات الطفيفة، بل هناك من تهزُّهم هزًّا عنيفًا أيضًا الأوهام المختلفة والخيالات المصطنعة، بل نرى أن الشخص الواحد يكون في حالة من الحالات قوي الأعصاب فيواجه الأحداث العظام في صبر وثبات، ثم تتعب أعصابه لسبب من الأسباب فيواجهها في قلق وجزع وثبات، ثم تتعب أعصابه لسبب من الأسباب فيواجهها في قلق وجزع واضطرب!
بل خذ مثلًا الطفل إذا مشى مشيًا طويلًا وتعب من الحركات، عاد إلى بيته هائجًا مضطربًا كثير الصراخ كثير البكاء، يتلمَّس أي سبب للغضب، حتى إذا نام وهدأ قام كالمعتاد هادئًا مطمئنًّا، وكذلك الرجل أو المرأة تتعب أعصابه فيغضب مما لا يُغضب منه، ويثور من أجل التافه من الأمور؛ يثور من أجل كسر طبق، ومن أجل قرش صاغ في غير محله، ومن فعلة صغيرة فعلها الموظف الذي معه، ومن زوجته إذا كلمته كلمة في غير محلها، ومن ابنه إذا طلب منه مصاريف المدرسة، مع أن هذه الأحداث نفسها وأكبر منها إذا حدثت وأعصابه غير متعبة قابلها مقابلة عادية ولم يعبأ بها ولم يهِجْ منها.
ومن أعجب ما لاحظه الأطباء في الأعصاب أن هناك سدودًا للتيارات التي تمرُّ في الأعصاب، وظيفتها أنها تقلِّل من قوة التيار حتى يصل إلى المخ هادئًا، فإذا ضعفت هذه السدود وصل الانتباه إلى المخ في قوة تسبِّب اضطرابًا، ومثله في ذلك مثل الأسلاك من الرصاص التي تركَّب في «الكوبس»، ينتقل فيها التيار من الخارج، وإذا زاد التيار احترق الرصاص ليمنع احتراق المنزل بالتيار القوي.
وتضعف هذه الأعصاب بالتعب المضني، وبالكوارث المتتالية، وبالهزَّات العنيفة المتتابعة، وهذا الضعف على درجات؛ فهو يبدأ بقلق وأرق، ويتدرَّج إلى عجز عن تركيز الفكر وإظلام نفس، ويزيد إلى يأس شديد وهيجان لأقل الأسباب، وعجز عن الراحة والهدوء، ونحو ذلك.
ومما يلاحظ أيضًا أن هذا التعب العصبي يتبعه دائمًا الخوف، وهذا الخوف يتخذ أشكالًا مختلفة حسب ظروف كل شخص، فمن نما عنده الشعور الديني تمثَّل خوفه في الموت، فهو يخاف الموت ويخاف العقاب بعد الموت، ويخاف الخطايا التي ارتكبها والمعاصي التي وقع فيها في شبابه، وتتجسَّم هذه المعاني في نفسه، وتكبر حتى تقلق باله وتعكر صفو حياته.
ومن كان شديد الشعور بالمال خاف الفقر؛ إن كان غنيًّا فألجأه ذلك إلى شدة الحرص والهياج عند كل قرش يُصرف، والغضب الشديد عند كل ما يعرض من مطالب مالية، ومن كان رحيمًا شديد العطف على أولاده ظهر خوفه من هذه الناحية، فهو يخاف على أولاده من الترام والسيارات، ويقلق أشد القلق إذا تغيبوا عن البيت ساعة، وكلما قرأوا أو سمعوا عن حمى أصابت ولدًا أو شابًا أو شابة مات في ريعان شبابه زاد خوفهم واضطرب حالهم، ومن بلغت سن الزواج ولم تتزوج خافت أن يمر موسم زواجها، وإذا خُطبت خافت أن تفشل في زواجها، وهكذا وهكذا الخوف فنون.
وقد يزيد الخوف حتى يكون خوفًا من أوهام، فهو يتخيَّل أن دسائس تحاك حوله، وأن له أعداء يتربصون له، وأن بعض أقربائه يكيد له، وأن له في المصلحة من يُفسد الأمر بينه وبين رؤسائه، وهكذا، فيخلق أوهامًا يخاف منها، وفي الناس ألوان شتى من هذه المخاوف، وعددهم ليس بالقليل، وكلما عظمت المدنية زادت ضحايا ضعف الأعصاب؛ وخاصة أيام الحروب، فيقول طبيب أمريكي إنه في أوائل الحرب العالمية الثانية كان عدد سكان أمريكا ١٣٠ مليونًا، وكان عدد ضحايا الأمراض العصبية يقرب من ١٣ مليونًا بين مجنون ومضطرب ومختل التوازن، وقد كان كثيرًا جدًّا عدد الشبان الذين يتقدمون للجندية، فيُردُّون عنها بعد الكشف الطبي عليهم؛ لاختلال توازنهم العصبي.
•••
- أولهما: الراحة الجسمية، فقد رأينا أن الخوف يتبع التعب الذي ينال المجموع
العصبي، كما ينال الشخص عقب مجهود كبير بذله، أو تفكير طويل فكَّره، أو
حادثة جليلة هزته.
فهذه الأشياء وأمثالها تُضعِف المجموع العصبي، وتضعف السدود التي تحجز بعض التيار عن المخ، فإذا استرد الإنسان راحته قويت هذه السدود، كالشأن في الإنسان يتعب ثم ينام نومًا عميقًا، فيسترد ما فقده من خلايا؛ ومن وسائل هذه الراحة تغيير البيئة والمكان، والرياضة المعتدلة، والرحلات الخفيفة اللطيفة، ونحو ذلك؛ فإنها تفعل في النفوس ما لا تفعله الأدوية، ومن ذلك أيضًا عدم التعرض لما يهيج الأعصاب، فمن عرف أن شيئًا معينًا يهيجه فليبتعد عنه، وليبتعد عن الأوساط التي تخلقه، وليرأف به أهله فلا يسببون له متاعب في النواحي التي يعرفون أنها تقلقه وتزيد اضطرابه، فإذا تمت راحته رأينا أنه قد زال خوفه، وتلك نتيجة طبيعية لما رأينا من أن التعب يتبعه الخوف.
- والأمر الثاني: الإيحاء الذاتي، فهو يفعل في النفوس فعل السحر، فليكرر المريض على نفسه الإيحاء بأن جسمه سليم، وأنه يستطيع التغلب على هذا الخوف، وأن يومه خير من أمسه، وأن غده سيكون خيرًا من يومه، وأن ما هو فيه أوهام تزول بقوة إرادته، وليعرف منتحى خوفه فليعالجه من الناحية التي توائمه، فمن كان يخاف الموت، ويخاف ما ارتكب من المعاصي، فليكرر على نفسه أن الله غفور رحيم، وأنه يغفر الذنوب جميعها، وأن ما ورد في القرآن من آيات الرحمة أكثر مما ورد من آيات العذاب، وأن الله أحنى على العبد من الوالد على ولده، فإذا ردَّد هذه المعاني كلها، وكررها كل يوم، انتعشت نفسه، وأحس أنه يتقدم تقدمًا عظيمًا.
ومن كان يخاف الفقر فليكرر على نفسه فلسفة المال، وأن المال عَرَض من أعراض الحياة، وأنه ليس هو السعادة، وإنما هو وسيلة السعادة، وأنه لا يحق على نفسه الخوف من الفقر قبل حدوثه، وهكذا الشأن في الخوف على الأولاد وكل نوع من أنواع الخوف، فكل إنسان بقليل من التفكير يستطيع أن يكون له فلسفة تشجعه ضد خوفه، وتملأه غبطة وطمأنينة.
هذان في نظري هما العلاجان الطبيعيان للأعصاب، وهما في يد كل إنسان إذا صحَّت عزيمته وقويت إرادته.