الحياة النيابية
- (١)
مراقبة الحكومة في أعمالها: فالوزراء يقومون بأعمال الدولة، ولكنهم قد يصيبون وقد يخطئون، فواجب كل حزب وكل عضو في البرلمان أن يتتبع أعمال الوزراء في وزاراتهم، ويدرس ما يعملون، ويكوِّن رأيًا في تصرفاتهم؛ أأخطأوا أم أصابوا، فإن رأى خطأ استفسر عنه وبحثه مع أهل الاختصاص، فإن اقتنع بعد كل هذا بخطأ الحكومة رفع صوته في البرلمان بنقدها؛ مثال ذلك: أن عضوًا بلغه سوء حال التموين في بلد، وحصول الظلم في التوزيع، فليبحث ذلك، وليسافر إلى حيث يقع الظلم، وليتحقق مما قيل، وليجمع الأدلة والبراهين على هذا الظلم، ثم ليتكلم في صراحة، وليستمع للرأي المعارض، فإن تبيَّن الحق بجانبه وجب على الحكومة أن ترفع هذا الظلم وإلا صوَّت البرلمان ضدها وأسقطها.
والفكرة الأساسية في هذا البرلمان معناه حكم الشعب نفسه بنفسه، فكلٌّ له نصيب في الحكم: هذا عن طريق العمل، وهذا عن طريق المراقبة والإشراف، فإذا شعر المنفِّذ أن وراءه قوة كبيرة تراقبه فتح عينيه وتحرَّى العدل وخشي الحساب العسير، فسارت العدالة في الأمة سيرًا حسنًا، وإلا تخلت الحكومة عن الحكم لمن يقوم بصالح الأمة خيرًا منها.
- (٢)
والأمر الثاني: تشريع القوانين: وذلك أن الأمم في تطور مستمر، والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حركة مستمرة، فلا بد أن يتنبَّه البرلمان والحكومة لكل ما يجري حولها، وتواجه كل ما يعرض من المسائل الهامة بتشريع جديد.
إن حالة الأمة كحالة السيارة يجب أن نصلحها إذا فسدت، ونغيِّرها إذا تلفت، ونأتي بنوع جديد منها إذا أدى أغراضًا خيرًا من النوع القديم، وكل أمة لها تشريع يناسبها؛ فالتشريع في البلاد الزراعية غيره في البلاد الصناعية، وفي البلاد الغنية غيره في البلاد الفقيرة، وفي البلاد التي قطعت شوطًا بعيدًا في المدنية غيره في البلاد نصف المتمدنة، وهكذا.
والمسئول عن التشريع الصالح في البلاد الحكومة والبرلمان معًا، والمصدر دائمًا هو البرلمان، وواجبه أن يتعرَّف ما يناسب الأمة وما لا يناسب، وما هي في حاجة إليه من التشريع وكيف يكون، وهذا عمل هام من أعمال البرلمان؛ لأن كل إصلاح في الأمة يرجع إلى التشريع، كيف يوضع، وكيف يسار فيه حتى يحقق الغرض منه وهكذا؛ إن أردت مكافحة الأمية أو معالجة الفقر أو إصلاح الزراعة أو ترقية التعليم أو القضاء، وجب التشريع لكل ذلك، وكلما قطعت الأمة مرحلة من مراحلها ودخلت في مرحلة جديدة وجب أن يسايرها التشريع المناسب؛ فقد كنا ننظر — مثلًا — إلى التعليم على أنه من واجب الآباء، إن شاءوا علَّموا أبناءهم وإن شاءوا أهملوا، ثم ارتقت الأفكار وأصبحنا نرى أن واجب الحكومة أن تزيل الأمية بتاتًا، وأن من لم يطِع يُعاقَب، فكان لا بد من تشريع جديد.
- (٣)
الأمر الثالث: الإشراف على ميزانية الدولة: وذلك لأن المال عصب الحياة، ووسيلة الإصلاح في كل ناحية من نواحيها، فإن أردت التعليم فبالمال، وإن أردت الجيش فبالمال، وكذلك الشأن في أمور الزراعة والأشغال والتجارة وما إلى ذلك، فمن غير المال الكافي تُشلُّ حركة الحكومة، ويستحيل أي ضرب من ضروب الإصلاح، ومن أجل هذا كان من أهم أعمال البرلمان الإشراف على ميزانية الدولة، فبهذا الإشراف يتحكَّم البرلمان في كيف يجمع المال من الضرائب وغيرها، وكيف ينفق.
وكان للبرلمان هذا الحق لأنه يمثل الأمة، والأمة هي التي تدفع الأموال، فيجب أن تسيطر على طرق إنفاقها بواسطة ممثليها.
والبرلمان الراقي الناجح هو الذي يستطيع بثقافته ودقته وسعة إطلاعه وخبرته ودراسته أن يعرف أي النواحي أحوج إلى المال من غيرها، ومقدار ما تحتاجه كل ناحية على حسب ما يصدر عنها من خير، وكيف يفرِّق بين ضروريات الأمة وكمالياتها، فلا ينفق على الكماليات قبل الضروريات، فإن كان ولا بد فتجب مراعاة النسبة بين الضروريات والكماليات؛ فكما أنه من العبث أن يشتري رب البيت أزهارًا إذا لم يكن عنده خبز، كذلك من العبث أن تنفق الأمة الأموال الطائلة على أنواع الزينة والترف وفلَّاحُها لا يشرب ماء صافيًا، ولا يأكل أكلًا كافيًا.
هذه هي الأركان الثلاثة التي بني عليها البرلمان، وما عداها فثانوي لها، وقليل الأهمية بالنسبة إليها، والبرلمان الحق هو الذي يرعى مسائله بحسب أهميتها، ويعطيها من المجهود والعناية والدرس حسب استحقاقها.
- (١)
فمن أهم العيوب أن يتنحَّى البرلمان عن واجبه في الرقابة، ويشغل نفسه بتوافه الأمور؛ كأن ينقسم أعضاؤه إلى قسمين: قسم يهتم بتأييد الحكومة مهما أخطأت، وقسم يهتم بالعمل على إسقاطها مها أصابت، وبذلك يجعلون الأمر أمر من يتولى الحكم بدل أن يكون الأمر في وضعه الصحيح، وهو كيف توجَّه سياسة الحكم إلى وجهتها الصالحة، وبهذا تتبخر كل قوى الحكومة وقوى المعارضة وقوى التأييد إلى نزاع حول الحكم من يتولاه، والوظائف من يشغلها، وتضيع الدراسة الحقة والتوجيه الصالح والنقد البريء، وينقلب الأمر إلى مهاترات ومؤامرات وتهريجات، ويوجِّه خصوم الحكومة كل جهودهم لخلق العقبات، وتوجِّه الحكومة وأنصارها كل جهودها لإحباط المؤامرات، وتكون النتيجة صفرًا دائمًا، فلا الحكومة فرغت لدراسة شئون الدولة وواجب الإصلاح، ولا المعارضة فرغت للدرس النزيه لمعرفة فوائد المشروعات المعروضة ومضارها، ويصبح الأمر كمن يبني كل يوم جديدًا، وغيره كل يوم ينقض ما بناه صاحبه، فمحال أن يكون مع ذلك بناء.
ويستتبع ذلك أن تُصرف الأموال هباء في سبيل خلق المؤامرات وإحباطها، وشراء الذمم بالرشا وما إليها، واستخدام الأبرياء؛ كالطلبة، والزج بهم في أهواء الحكم بين تأييد وتفنيد، وهكذا من مضار لا تحصى، ومرجع ذلك كله إلى الغفلة عن الغرض من البرلمان.
- (٢)
جهل العضو البرلماني بواجبه الذي أشرنا إليه، وأنه أمانة في عنقه، ودرس لما يُعرض عليه، وتفكير في وجوه الإصلاح ينشدها ويتقدم بالتشريع لها، وسماع صوت ضميره عند التصويت، وتحويل ذلك كله إلى وجاهة يستعملها في قضاء مآربه الشخصية، وسلعة يبيعها لمن أراد حسب الثمن الذي يعرض لشرائها، وتضييعه النهار والليل في اللف على الوزارات ومقابلة رجال الدولة، يرجوهم في نقل موظف أو تعيينه أو ترقيته أو نحو ذلك من الشئون الخاصة، وينسى بذلك أول واجب عليه، وهو أنه يمثل الأمة لا بلدته ولا مركزه ولا فلانًا وفلانًا.
- (٣)
كذلك من أهم ما يفسد البرلمان لعب التيارات الخفية التي توحي باتجاهات خاصة للظروف والمناسبات والملابسات، ومحاولة صياغتها في شكل مصلحة عامة طاهرة بريئة، فالبرلمان الحق هو الذي يرعى مصلحة الأمة وحدها، ويدرس المسائل كما يدرس القاضي قضيته، كل شيء فيها على المكشوف، المدعي يدعي دعواه والخصم يفندها، والقاضي يقدِّر قول الخصمين التقدير القانوني العادل، وينطق بحكمه بناء على ذلك فقط، فإن هو راعى تيارات خفية من وجاهة أحد المدعين، أو أي اعتبار آخر غير ما ذكرنا، كان قضاؤه فاسدًا، وبعث بذلك الفزع في نفوس المتخاصمين، فكذلك الشأن في البرلمان، ما لم يدرس مسائله على المكشوف، ولم تلعب به التيارات الخفية، وما لم يتجرد من كل اعتبار إلا مصلحة الأمة، فبرلمان مزيف.