مظاهر الرقي في الأمم
كل أمة في حركة دائمة وتغير مستمر؛ فهي لا تعرف القرار والثبات على حال، غير أن هذا التغيُّر قد يكون إلى حال خير مما كانت عليه، وقد يكون إلى أسوأ، فإن كان الأول سمَّيناه رقيًّا وتقدمًا ونجاحًا، وإن كان إلى أسوأ سمَّيناه تدهورًا وتأخرًا وانحطاطًا.
- الأول: أن كثيرًا من المظاهر موضع خلاف، هل هي أسباب رقِّي أو أسباب انحطاط، أو هي ليست أسباب رقي ولا انحطاط، وقد يكون الشيء سبب رقيٍّ؛ كالحرية والمساواة، فإذا غلت فيه الأمم، وتجاوزت حدوده، انقلب إلى سبب انحطاط، وهذا يجعل حسبان التقدم والانحطاط عسيرًا.
- والثاني: أن كل أمة في الوقت الحاضر تتغيَّر من نواحٍ مختلفة تغيُّرات قد تعدُّ
بالمئات أو بالآلاف، وهذه التغيرات مشتبكة معقدة، متجهة اتجاهات متعاكسة،
بعضها يعد تقدمًا ورقيًّا وبعضها يعد تأخرًا وانحطاطًا، فعمليات الجمع
والطرح لتعرف النتائج في منتهى الدقة والصعوبة، بل العامل الواحد قد يسبب
رقيًّا في ناحية وانحطاطًا في ناحية أخرى؛ يسبب رقيًّا في الناحية
الاقتصادية وانحطاطًا في الناحية الخلقية، أو العكس؛ رقيًّا في الناحية
العلمية وضعفًا في الناحية الدينية، أو العكس؛ فحسابه إذ ذاك يكون عسيرًا،
والوصول إلى تصفية نتائجه في غاية المشقة، وهذا هو الشأن في عامل واحد،
فكيف يكون الشأن في آلاف العوامل والمؤثرات والأسباب؟ فلأكتفِ الآن بجزء من
الموضوع، وهو الإجابة عن السؤال الآتي:
ما أهم مظاهر الرقي في الأمم؟
لعل أهم ما يعد فاتحة لتقدم، وإرهاصًا لنجاحها ورقيها، تقارُب أفرادها في العقلية والعاطفة، وتوحدها في المثل الأعلى الذي تنشده، واشتراكها في العادات والتقاليد، وشعور كل فرد أنه جزء من أمة يعمل لنفسه ولها، ولخيره وخيرها؛ ذلك أن الركن الأساسي في تكوين الأمة هو وحدة المصالح، ووحدة العواطف ووحدة اللغة … إلخ، فكلما أمعنت الأمة في هذا التوحد كانت أشد استحقاقًا لاسم الأمة، ومن أجل هذا حافظت الأمم على أن يكون لكل منها قانون يعمُّ جميع أفرادها، وتعليم متحد في الأساس يتثقف به أبناؤها، ونظم عامة يخضع لها شعبها، وأهم غرض لذلك كله تدعيم هذه الوحدة؛ فإذا كانت الأمة منقسمة انقسامًا كبيرًا إلى بدو وحضر، أو تنازعتها الأديان المختلفة في شكل قوي واضح، أو تقسَّمتها صنوف التعليم؛ فمدارس فرنسية تتبع برامج فرنسا، ومدارس إنجليزية تتبع مناهج إنجلترا، ومدارس أهلية تتبع نظامًا خاصًّا، وتعليم ديني من أول الأمر، وتعليم مدني من أول الأمر؛ أثَّر هذا كله في وحدتها، وخالف بين نزعات أفرادها، وأصبح تسميتها أمة مجازًا لا حقيقة، وعاق ذلك رقيها وتقدمها.
قد تختلف الأمة في ثقافة أفرادها — وهذا ما يحدث بين كل الأمم الراقية — ولكن أسس الثقافة عندها واحدة، والاختلاف في الكمية فقط لا في النوع؛ كشأنها في اللباس، كل رجل فيها من فلاح إلى ملك يلبس ملبسًا يتكوَّن من «بنطلون وجاكته»، ولكن الاختلاف في نوع الصوف وجودة الصناعة وإجادة الخياط.
أما أمم الشرق، فالاختلاف في كل أمة منها في الأسس؛ تعليم ديني من أول أن يسلم الطفل للمكتبة، وتعليم مدني من يوم أن يسلم لروضة الأطفال، وتعليم أجنبي من يوم أن يدخل مدرسة الفرير أو الجزويت، فيخرج المتخرجون أنواعًا مختلفة في مثلهم العليا، وفي عاداتهم وتقاليدهم، وشأننا في هذا الاختلاف أيضًا كشأننا في الملابس تختلف نوعًا لا صنفًا فقط؛ فمعمَّم، ومطربش، ولابس جلبابًا، ولابس لباسًا إفرنجيًّا، إلى ما لا يعد ولا يحصى، ثم ما شئت من ضروب الاختلاف في العادات والتقاليد والمثل العليا، مما لا تجد له نظيرًا في الأمم الراقية.
فالقرب إلى توحد الأمة في ذلك كله مظهر من مظاهر رقيها، والبعد عن ذلك مظهر من مظاهر انحطاطها، وكما أن توحيد الله أرقى مظاهر الديانة، وتوحيد الزواج وعدم التعدد أرقى مظاهر الأسرة، فتوحيد الأمة — في كل ما ذكرنا — أرقى مظهر لها، ولعل هذا ما حدا بقادة الفكر في تركيا يوم عملوا على ترقية أمتهم أن يوحدوا زيهم، ويوحدوا أسس تعليمهم ونظام مدارسهم، ويوحدوا قوانينهم وجيشهم، وكل شيء لهم.
وشيء آخر من مظاهر الرقي في الأمة، أعني به انقسام الأمة إلى جماعات حسب تعدد الأعمال وتعدد الوظائف، وقيام كل جماعة بوظيفتها، على أن يكون الغرض الأخير لكل جماعة مصلحة الأمة.
لقد كانت الجماعة في حالة بداوتها، وفي حالة عيشتها القبلية، تتركَّز سلطتها في يد فرد واحد، وهو شيخ القبيلة، فلمَّا تكوَّنت الأمم وارتقت أخذت تتوسَّع الأعمال، وتتعدد الوظائف، ويتعدد القائمون بها؛ فبرلمان ومحاكم وجيش ورجال دين ورجال تعليم وصناع ونقابات … إلخ، وكلما تقدمت الأمة اتسعت أعمالها وتعددت وظائف القائمين بها، وعهدت لخير رجالها تنظيمها وإدارتها.
وليس رقي الأمة الذي نعني بكثرة الأعمال وتعدد القائمين بها فحسب، بل أهم من ذلك تنظيم العلاقات بين الجماعات المختلفة العامة، حتى كأن الأمة كلها آلة ميكانيكية، وكل جماعة فيها تعمل وفقًا لسير هذه الآلة، حتى تنتظم كلها في عملها، فليس كل جزء من الآلة يعمل عمله مستقلًّا، وإنما يعمل وفق سير الآلة كلها، وليحقق الغرض الذي ترمي إليه كلها.
وهذا ضرب آخر من ضروب التوحيد الذي أشرت إليه قبل، فإن الأمة بذلك يكون لها أغراض معينة لا تتعارض ولا تتعاكس، والقوى العامة على اختلاف أنواعها من قوى اقتصادية وأخلاقية وتعليمية واجتماعية، تعمل متساندة متفاهمة لتحقيق هذه الأغراض، أما إن هي لم تتفاهم ولم تتساند، هدم بعضها ما يبني الآخر، ونقض بعضها ما غزل الآخر، فضاعت قواها بين بناء وهدم وغزل ونقض، وكانت كما قال الشاعر:
ثم لكل ناحية من النواحي الاجتماعية مظهر واضح يدل على الرقي؛ فمن الناحية السياسية، مظهر الرقي تحقُّقُ العدل الاجتماعي وقربه من الكمال، وأكبر مظهر لذلك أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فيختار المشرِّعين له والمنفذِّين لقوانينه ونظمه، اختيارًا تراعى فيه الحرية التامة، وليس هذا فحسب، بل يجب أيضًا أن يفسح الطريق لكل فرد ليصل إلى هذه الوظائف السياسية ما سمحت له مقدرته وكفايته؛ أعني ألا يدخل عامل من العوامل في الرقي إلى المراكز السياسية غير الكفاية وحسن الاستعداد، فلا الغنى ولا الجاه ولا البيت الرفيع ولا المحسوبية مما يصح أن تكون عاملًا من عوامل المناصب؛ فالأمة الراقية حقًّا من الناحية السياسية هي التي سهَّلت الفرص لكل الناس على السواء، وعدلت بينهم عدلًا مطلقًا، وأزالت كل العقبات من طريق السباق حتى يكون الفائز فيه من أعدَّته الطبيعة والمران ليكون الفائز.
وبمقدار قرب الأمة من هذا المثل الأعلى، وبُعدها عنه، يُحكَم عليها بالرقي السياسي أو الانحطاط السياسي، فإن حكمها غيرها أو حكمت نفسها واستبدت بالحكم فيها طبقة خاصة تعتز بالنسب أو بالمال، واعتز ذيولها بالمحسوبية لها، فما أبعدها إذن عن مظاهر الرقي!
ومن ناحية «الثروة»، مظهر الرقي أن يتجه الأفراد والحكومات بنظرهم في تحصيل الثروة، وإنفاقها إلى الخير العام للأمة، فإذا أنفق الفرد ثروته في تقوية نفسه وأسرته فهذا من مصلحة الأمة، وإذا نظم حياته بماله تنظيمًا يدعو إلى رقي نفسه وأسرته؛ فعرف كيف يدخر، وكيف ينفق، وإذا أنفق أنفق في تقوية بدنه وعقله وروحه، وأسبغ على حياته وحياة أسرته القوة من جميع نواحيها، فذلك في مصلحة الخير العام، ومثل هذا إذا خصص جزءًا من فضل ماله لما يرى من وجوه النفع العام التي تلائم ذوقه وتتفق مع ميوله.
أما إذا أنفق ثروته فيما يضعف نفسه وأسرته، من انهماك في نوع من أنواع اللذائذ المنهكة للقوى المتلفة للمال، من ميسر أو إدمان مسكرات أو نحو ذلك، فمظهر من مظاهر الانحطاط؛ لأنه يضعف بذلك نفسه وأسرته، وفي ذلك إضعاف للأمة؛ لأن الأسرة وحدة الأمة، وكذلك الشأن في ثروة الحكومة من حيث الدخل والخرج، فإذا راعت في فرض الضرائب مصلحة المجموع، وراعت في وضع ميزانيتها ووجوه إنفاقها مصلحة المجموع كذلك، فذلك مظهر رقيها، أما إن هي راعت في ضرائبها مصلحة فئة من الناس، وراعت في ميزانيتها طبقة من الطبقات، وأنفقت على المدن وضنَّت على الفلاح، وأسرفت في الكماليات وشحَّت في الضروريات، وبالغت في توسيع الشوارع وغرس الأشجار قبل أن يجد الفلاح ماءه النقي الذي يشربه، ومسكنه الصحي الذي يسكنه، ونوره الذي يستنير به، فمظهر من مظاهر الضعف والانحطاط.
ولتنظيم الثروة أهمية كبرى لا من الناحية المالية فحسب، بل إن أثرها يتعدى — تقريبًا — كل مناحي الحياة؛ فالثروة هي عماد رقي الصحة، ورقي العقل، ورقي الروح، والرقي في تنظيمها يستتبع رقيًّا في جميع هذه النواحي، كما أن الانحطاط فيها يستتبع الانحطاط في جميع هذه النواحي.
وهناك نواحٍ أخرى لا يتسع لعدها مقال، ولكن يمكننا أن نُجمِل القول فيها وفيما ذكرنا قبل بأن «خير مقياس لرقي الأمة أن تنظر الحكومات في تصرفاتها لمصلحة المجموع، وأن تنظر الأفراد في تصرفاتها لمصلحة الأمة».
وهذا هو مظهر الرقي من الناحية المجردة، وهناك مقياس لرقي الأمة نفسها؛ أعني أننا إذا تساءلنا هل هذه الأمة بعينها تسير نحو الرقي أو نحو الانحطاط، فبمَ نجيب؟
أظن أن الإجابة عن ذلك سهلة، وهي أن الأمة — في كل ما ذكرنا — إذا كانت في يومها خيرًا من أمسها، وأقرب إلى المثل الذي ألممنا بوصفه، فسائرة إلى الرقي، وإذا كانت في يومها شرًّا من أمسها، وكانت أبعد عن المثل الذي وصفنا، فسائرة إلى الانحطاط، وإن كانت في يومها خيرًا من أمسها في بعض النواحي وشرًّا في البعض الآخر، وجب أن نعمل عمليات دقيقة لتقويم الحسن والقبح، وعمليات جمع وطرح دقيقة نعرف بها ما يتبقى بعد ذلك من ضعة أو كمال، ثم الحكم بعد ذلك حسب نتائج هذه العمليات.