النجاح في الحياة
كل إنسان في الوجود يأمل النجاح في الحياة؛ رجلًا أو امرأة، صانعًا أو زارعًا أو تاجرًا أو أديبًا أو عالمًا، وإن اختلفت الصورة التي يرسمها كلٌّ لغايته في النجاح.
وهناك صفات كثيرة لا بد منها في النجاح؛ بعضها خاص بنوع العمل الذي يعمله الشخص؛ فالتاجر تلزمه صفات خاصة لنجاحه قد لا يتطلبها نجاح العالِم أو الأديب، وهناك صفات عامة لا بد أن يتصف بها كل مريد للنجاح.
وقد دلت التجارب على أن النجاح في الحياة على وجه العموم يعتمد على الأخلاق أكثر مما يعتمد على العلم؛ ومن أمثلة ذلك: ما يُشاهَد من تجار كبار كانوا أميين أو شبه أميين بنوا لأنفسهم مجدًا في التجارة، ونجحوا فيها نجاحًا باهرًا بجهدهم واستقامتهم وحسن سمعتهم، ومعرفتهم بالسليقة نفسية الجمهور، ثم رُزقوا أولادًا أرادوا أن يكونوا خيرًا منهم في التجارة، فأرسلوهم إلى ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا، وعلموهم على آخر طراز، ونالوا الشهادات العالية في الاقتصاد وما إليه، ثم عادوا وحلُّوا محل آبائهم بعد وفاتهم، وكانت النتيجة أن خسرت تجارتهم، وأقفلت محالهم بعد إفلاسهم، وأصابهم الفقر بعد الغنى، وبين أن آباءهم الأميين أو شبه الأميين كانوا خيرًا منهم.
وليس المسئول عن نجاح الأولين وفشل الآخرين هو الجهل أو العلم، ولكن الأخلاق؛ فالأب — على أميته — كان يُحسِن الأخلاق التي تتطلبها التجارة فنجح، والثاني لم يحسنها ففشل، ولو كان الابن المتعلم في مثل أخلاق أبيه الجاهل لكتب له من النجاح أكثر مما كتب لأبيه، وهكذا في كل نواحي الحياة.
قد يضرب الناس أمثلة كثيرة بقوم فاسدي الأخلاق نجحوا في الحياة برذائلهم، حيث لم ينجح كثير من الناس بفضائلهم، ولديهم أمثلة كثيرة على ذلك؛ وخاصة في أيام الحرب؛ فالتاجر المستقيم ربح بحساب أو لم يربح مطلقًا، والتاجر الذاعر ربح من غير حساب، والموظف الأمين عاش على مرتبه الضئيل، والموظف الخائن حاز الأموال الطائلة حتى لم تعد تهمة الوظيفة، ثم الموظف المتملق لرؤسائه قد يرقَّى على أكتاف الموظف المستقيم، وهكذا.
قد يكون هذا صحيحًا، ولكن لا بد أن تحسب راحة الضمير للمستقيم وقلقه عند الخائن، وتحسب احتقار الرأي العام للخائن واحترامه للنزيه، وتحسب حساب المسئولية أمام الله، وتحسب حساب أن المال الحرام قلَّما يفيد صاحبه وأولاده لأسباب دينية ونفسية واجتماعية، وتحسب حساب من ضُبطوا في حياتهم فعوقبوا فخسروا الدنيا والآخرة، فلو حسبت حساب هذا لترددت كثيرًا في تسمية هذا نجاحًا، وهَبْهُ صحيحًا فأغنياء الحرب الذين اكتسبوا من طريق الرذائل استثناء من الحياة العامة، ومن نجحوا في السلم عن طريق غشهم وخداعهم وملقهم استثناء من الحياة العامة، أما القانون العام في كل زمان ومكان فهو أن النجاح في الحياة يتوقف كثيرًا على الأخلاق التي يستلزمها العمل من صفات خاصة وعامة؛ من اعتدال في الحياة، وضبط للنفس، وجد في العمل، وأمانة واعتماد على النفس وثقة بها، وإخلاص في العمل، وإخلاص لنفسه وللناس، وصدق في المعاملة، إلى غير ذلك من فضائل؛ وكلما رقيت الأمة كان من مظاهر رقيها نجاح الذين يعتمدون على أخلاقهم، وفشل الذين يعتمدون على رذائلهم.
وهكذا الشأن في الأمم؛ تنجح الأمة في عالم التجارة إذا أحسنت سمعتها، وحسنت معاملاتها، وحسن إنتاجها، وتفشل إذا انهارت هذه الأخلاق، وتنجح في السياسة إذا صدقت وعودها، وشرفت في معاملاتها، وخدمت الإنسانية بأغراضها، فإن نجحت بغير ذلك فنجاح مؤقت، ونجاح كنجاح الموظف الخائن، ومؤرخو الدولة الرومانية — مثلًا — مجمعون على أن نجاحها في عصر ازدهارها كان مؤسَّسًا على أخلاقها، فلما تدهورت أخلاقها تدهورت أملاكها.
ثم قد ينجح المرء في الحياة بسبب النبوغ العلمي النادر، أو الذكاء العقلي اللامع، أو القدرة الفائقة على إدارك الفرص وانتهازها ولو لم تدعمها الأخلاق الفاضلة، ولكن حتى في هذه الأحوال النادرة لو كان لهذه المزايا الفائقة مستند من أخلاق فاضلة لكان صاحبها أكثر نجاحًا؛ فالأخلاق الفاضلة تقويه وتقوي نجاحه، والأخلاق السيئة تضعفه وتضعف نجاحه.
إن الذكاء اللامع والعقلية القوية والقدرة على انتهاز الفرص ونحو ذلك، لو دعَّمتها أخلاق فاضلة لتوجَّهت إلى خير صاحبها وخير الناس، وإن هي لم ترتكز على الأخلاق الفاضلة كانت عرضة لأن تتجه للعمل لشر الناس، وفي ذلك من الخطر ما لا يخفى، والنابغ والذكي أقدر على الخير والشر من الرجل العادي.
وهناك أمر لا بد من التنبيه إليه، ويقع في الخطأ فيه كثير من الناس، وهو أن الأخلاق الفاضلة التي تسبب النجاح يجب أن تصحبها اللباقة، أو الأدب في المعاملة، أو حسن المجاملة، أو ما شئت من أسماء؛ فالأخلاق الفاضلة وحدها لا تكفي في النجاح إذا هي اصطُحبت بجفاف في المعاملة، أو خشونة في الطباع، أو عدم ظرف ولباقة؛ قد يكون التاجر أمينًا مستقيمًا ولكنه خشن غير لبق، وقد يكون الموظف مستقيمًا أمينًا جادًّا في عمله قائمًا بواجباته، ولكنه جاف غليظ سمج في معاملاته لرؤسائه وللناس، وقد يكون الأديب أو العالم مستقيمًا في سلوكه مخلصًا لأدبه أو علمه، ولكنه غير لبق في معاملته لمن حوله؛ كل هؤلاء قد يفشلون في الحياة ولا ينجحون، ثم هم يخطئون إذ يظنون ويظن بعض الناس معهم أن فشلهم أتى من استقامتهم وجدهم وإخلاصهم، والحقيقة أن فشلهم أتى من قلة لباقتهم وعدم ظرفهم، لا من حسن أخلاقهم.
واللباقة والأدب والظرف في المعاملة لا تكرهه الأخلاق، بل تدعو إليه الأخلاق، وهذه اللباقة غير الكذب وغير الملق، فقد يكون الإنسان صادقًا ومع ذلك فهو مؤدب لبق، وقد يكون الإنسان صريحًا غير متملق ومع ذلك مؤدب لبق، وعدم اللباقة قد يهدم الصداقة، وقد يسبب كثيرًا من العداوة، وقد يسيء إلى السمعة، وكل ذلك يعرِّض للفشل، وليس المسئول هو الأخلاق الفاضلة، ترى هذا في التاجر والعالم والموظف والمحامي وعضو البرلمان وجميع صنوف الناس، إذا خلوا من اللباقة سبَّبوا لأنفسهم وأهلهم من حولهم متاعب تؤدي إلى الفشل والخيبة، مع ما قد يكون لهم من كفاية نادرة وأخلاق فاضلة، على حين أن من دونهم كفاية قد يكونون أكثر نجاحًا للباقتهم وظرفهم.
وشأن المرأة من ذلك شأن الرجل؛ فالمرأة الفاضلة اللبقة أكثر نجاحًا في الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية، وقد تكون الحياة جحيمًا؛ وليس لذلك من سبب إلا أن المرأة مع استقامتها وسمو أخلاقها قد حُرِمت اللباقة والظرف، فهي تسبِّب بعدم لباقتها كل يوم مشكلة جديدة قد يصعب حلها.
وبعد، فالأخلاق الفاضلة مع اللباقة والظرف والكياسة عُدَّة النجاح.