كيف ترقى الأمم
أعتقد أن الأمم في حركة مستمرة دائمًا، وهي أما حركة تقدمية أو رجعية، ولكن لا وقوف، وهذه الحركات كثيرة جدًّا تعد بالآلاف، وهي حركات معقدة لا تتجه اتجاهًا واحدًا دائمًا، بل قد تتجه اتجاهات متعاكسة، فالحركة تكون مربحة ماليًّا وغير مربحة أدبيًّا، وقد تساعد التجارة، ولكنها تضعف الخلق، وقد تغير الرجال، ولكنها تضر النساء، والعكس وهكذا، ومن أجل ذلك فالحكم على الحركات إجمالًا بالنفع أو الضر يحتاج إلى عين ماهرة فاحصة، ثم إن الحركات التي تصدر عن الأمة اليوم لا بد أن يدخل في نسيجها أعمال الأمس، بل يدخل فيها أيضًا رغبات الناس في المستقبل؛ من آمال وسعادة وغنى ونحو ذلك، فهي أشبه ما تكون بالسوائل المائعة، تقبل التقدم والتأخر والاستقامة والاعوجاج في سهولة ويسر، لا كالأشياء الجامدة المتحجرة.
وهذه الحركات دائمًا في تغير مستمر، فكل يوم تظهر قضايا لم تكن موجودة، وتختفي قضايا كانت موجودة، والاختلاف في قضية قد يستتبع خلافًا في قضايا أخرى، فالمرأة لما سفرت استتبعت تغييرًا في نظام الزواج والطلاق، وتغييرًا في تفصيل الملابس وخياطتها، ورواجًا للقبعات بدل البراقع ونحو ذلك.
والمجتمع لديه شعور طبيعي، مجهول لنا سببه، وهو الميل دائمًا إلى التوازن؛ فحيث تجد حرارة في ناحية تجد برودة تقابلها في ناحية أخرى، ويتجلى ذلك في الثورة الفرنسية — مثلًا — والثورة الصناعية، فقد خلقت نظامًا خاصًّا، فاستتبع هذا النظام تغييرًا في الأنظمة الأخرى تناسبه وتلتئم معه، وتكوِّن توازنًا لا بد منه.
ويحدث عادة أن كثيرًا من الناس قبل البدء في الرقي تظهر عليهم أعراض السخط على الماضي، ومن هؤلاء من يزيد سخطهم فيتشاءمون، ولا يعودون يصلحون لعمل إيجابي، ولا يكون أمامهم إلا إظهار العيوب ونقدها والتحسر عليها، وبجانبهم — عادة — يكون قوم آخرون إيجابيون، يتألمون من الماضي، ولكن يحفِّزهم ألمهم على البحث عن طريق الخلاص منه، فيضعون برنامجًا لذلك الخلاص، ويرسمون خطة للعيش اليوم في ضوء المستقبل، ويعيشون عيشة يعدلون فيها حياتهم وفق آمالهم ومثلهم العليا على قدر الإمكان.
ولكن مع الأسف لم يخلق الله شخصين متحدين في المزاج والعقلية والتجارب، حتى يضعا برنامجًا واحدًا للمستقبل، بل لكل إنسان برنامجه؛ نعم, قد يتفقان في الغرض؛ كأن يتفقا على القضاء على الفقر المدقع، وعلى وجوب تقارب الطبقات، وعلى أن يكون لكل فرد من الملك ما يعيش به عيشة سعيدة، ولكنهما إذا أخذا في التفاصيل اللازمة لتنفيذ هذا الإصلاح فسرعان ما يختلفان، على أنهما كثيرًا ما يختلفان في الأساس نفسه؛ فقد يكون المثل الأعلى لأحدهما سعادة الأفراد سعادة مادية؛ من أكل ولبس ومسكن ونحو ذلك، على حين أن الآخر يرى المثل الأعلى في هذا أيضًا، وفي السعادة العقلية والنفسية من رقي في الفنون والعلوم والأخلاق والدين ونحو ذلك.
ومهما كان الاختلاف فقد اتفق المفكرون تقريبًا على أن أسس الإصلاح التي ينبغي أن تُطلب وتُحقَّق ثلاثة: النوع الأول: الإصلاح المالي للدولة، ويشتمل على أشياء كثيرة سنتعرض لها بعد، والإصلاح الثاني: تنظيم المعاهد والمرافق، وتوجيهها وجهات متعاونة لا متعاكسة، والأساس الثالث: تعديل حالة الأمة وتسييرها، مع مراعاة ما يحيط بها من ظروف خارجية وعلاقات بالدول الأجنبية، مع العلم بأن كل أساس من هذه الأسس يؤثر نظامه على الأساسين الآخرين جودة أو رداءة، فإذا حسن تنظيم أحدها ساعد على تنظيم الآخر، وإلا لا.
ونعني بالتنظيم المالي جملة أشياء: مثل تنظيم معاهد العمال ونقاباتهم وشركاتهم، ووضع ما يكفل نشاطهم وجدهم وأمانتهم في العمل وإتقانه ونحو ذلك، ومثل تنظيم المعاهد العلمية ومعاهد الأبحاث ونحو ذلك، وقد يكون غريبًا أن نعد هذا من ضمن التنظيم المالي، ولكنه هو الصحيح؛ لأن الأبحاث العلمية ونتائجها قد تدرُّ على الدولة من الأموال ما ليس له حد؛ خذ لذلك العلم الذي يبحث في معرفة الأرض، وهل فيها بترول أو لا؟ وكيفية استخراج البترول والانتفاع به … فإن هذا يفيد الدولة اقتصاديًّا ما لا يفيده أي شيء آخر.
ومثل تنظيم الضرائب على الشعب، وإلى متى يتحمل، وكيف تضرب الضرائب على الكماليات أكثر مما تضرب على الضروريات، وكيف تختلس الضرائب اختلاسًا حتى لا يتألم منها الجماهير ونحو ذلك، ومثل التنظيم الزراعي، ودراسة الأرض، وما تحسن وما لا تحسن، وكيف تستغل الأراضي بالآلات الحديثة، لنستخرج منها أكبر محصول بأقل مجهود، وهكذا، ومثل تعاون النقابات وكيفيته وتنظيمه، فيساعد بعضها بعضًا لخير الأمة، ومساعدة الفلاحين بواسطتها حتى تسهل أمورهم ومعاشهم؛ هذه هي أهم التنظيمات المالية التي يجب أن تحققها الدولة إذا أرادت الرقي.
أما الأساس الثاني، وهو تنظيم الحياة العلمية والفنية وترقيتها، ووضع البرامج لهما، وإمدادهما بالمال اللازم لهما؛ فإنه مهما صُرف عليه من المال فإنه سيعوض أضعاف ما صرف عليه، وأهم شيء في ذلك اختيار الصالحين لهذا العمل اختيارًا صحيحًا، وقد وزع الله المَلَكَات على الناس؛ فمنهم من ملكته في يده، وهؤلاء يكون منهم الصانعون، ومنهم من ملكته في رأسه، وهؤلاء يكون منهم العلماء والباحثون، ومن ملكته في قلبه، ومن هؤلاء يكون الفنانون، وإنما يصلح كل شخص إذا أُسند إليه عمل يناسب ملكاته، وإلا كان الشأن شأن كتاب فقه يوضع في يد أديب، وكتاب شعر يوضع في يد فقيه.
وأما الأساس الثالث، وهو معرفة الظروف الخارجية، وتسيير الأمة وفقها فأساس لا بد منه لهدوء بال الأمة، وإمكان السير في حياتها الداخلية سيرًا هادئًا مطمئنًّا، فقد تعتري الأمة هزة فظيعة من جراء جهلها بالظروف الخارجية، وقد تفوت عليها مصالح هامة من جراء جهلها أو عدم انتهازها للفرص، مما يؤثر في مجرى حياتها الداخلية.
هذه الأسس الثلاثة متى أحسن تدعيمها تقدمت الأمة بمقدار هذا التحسين، ويجب أن ننبه هنا على شيء هام، وهو أن القائمين على تنظيم هذه الأسس يجب أن يكونوا مرنين متأقلمين، لا جامدين متزمتين، فإذا ظهرت بوادر تغيير في الظروف غيروا في التنظيم، وساروا مع الأحوال الجديدة سيرًا جديدًا، ولا يفعلون ما يفعل الساسة الأجانب، تمر عليهم الأجيال وتتغير الأحوال، ثم هم يعاملون من يعاملونهم كأن الدنيا ما تغيرت، وكأن الزمان ما حال.
إن الفتاة الباريسية التي تتغير كل حين في بدعها (مودتها)، ولا تلبس اليوم ما كانت تلبسه بالأمس، ولا في الصيف ما كانت تلبس في الشتاء، أعقل من العلماء الجامدين ومن الساسة المتزمتين؛ إن الأمة إذا وجهت عنايتها لهذه الأمور الثلاثة، ووجهت عنايتها أيضًا إلى توحيد هذه الاتجاهات التي تعاكسها، ضُمِن لها النجاح، ومن حسن الحظ أن الدولة الناشئة لم تثقل أكتافها التقاليد القديمة ولا الأساليب العتيقة، فهي حرة في التجديد أكثر من حرية من أثقلها الماضي وغلَّها بقيده، والفرق بينهما كالفرق بين فتى انفتلت عضلاته واشتد ساعده ومرن عقله، وبين شيخ أقعدته السنون وأثقلته الهموم وقيدته أحداث الزمان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.