نهضتنا الفكرية ما زالت صراعًا بين القديم والجديد
إذا أردنا أن نجمع أسباب النهضة من عهد محمد علي إلى الآن في كلمة واحدة قلنا إنها: «اتصال الشرق بالغرب»، فكما انبعثت شرارة من الشرق إلى الغرب في القرون الوسطى سبَّبت نهضة الغرب، ردَّ الغرب ما اقترضه فبعث شرارة إلى الشرق ألهبت حماسته، وأشعلت غيرته، فبدأ يقلد الغرب في مناحي نشاطه، ويتبعه في اتجاهاته، حتى ليمكننا أن نلخِّص «منطق» قادة الفكر في الشرق في الجملة الآتية: «إن الغرب يفعل كذا فيجب أن نفعله، والغرب يترك كذا فيجب أن نتركه»، وكلما أريد وضع نظام أو سن قانون أو بدء بمشروع تساءلوا: ماذا تفعل أوربا في ذلك؟
وكان أسبق الأمم الشرقية إلى الاقتباس من أوربا «مصر»؛ لموقعها الجغرافي أولًا، ولسبقها في العمل على الانفصال من سيادة الترك ثانيًا، فأخذ محمد علي يحذو حذو أوربا في جميع مرافق الحياة، من علمية واقتصادية وحربية وسياسية وغير ذلك، وإذا كان موضوعنا النهضة العلمية فلنقتصر عليها.
استعدت مصر لأخذ هذا الدرس عن الغرب من عهد حملة نابليون على مصر، فكان في حملته علماء أعلام بجانب رجاله الحربيين؛ منهم الرياضي، ومنهم الطبيعي، ومنهم الأديب، ومنهم الاقتصادي، وقد احتكَّ بهم بعض المصريين وشاهدوا آثارهم العلمية، وقرأوا ما ألَّفوا، ونظروا فيما جرَّبوا، كما يحكي ذلك الجبرتي في تاريخه.
- (١)
إرسال البعثات للتعلم في أوربا؛ حتى يكونوا نواة لتعليم المصريين على النمط الأوربي، ولينقلوا إلى العربية أهم ما ألَّف في الغرب، فأرسل كثيرًا من الشبان إلى فرنسا، وبعضهم إلى إنجلترا، واستمرت حركة البعثات إلى مختلف البلدان الأوربية إلى اليوم، وقد حققت — إلى حد ما — الغرض الذي أسست لأجله، فقد نشر المبعوثون بين أفراد الأمة تعاليم أوربا ومناهجها، وتسلَّموا أهم الأعمال في المصالح المختلفة، فكانوا منارًا يتلقون ضياءهم من أوربا، ويعكسونه على مصر، كما قاموا بترجمة بعض الآثار الأوربية إلى اللغة العربية.
وإن وُجِّه نقدٌ إلى هذه الحركة فهي أنها لم تؤدِّ كل ما كان يُنتظر منها، فقد أُرسل إلى أوربا الألوف من المصريين، وعادوا بعد أن أتموا دراستهم، ونالوا أكبر الشهادات، ومع ذلك لم يكن مجهودهم في تنظيم الأعمال، وإدخال الأساليب الحديثة، ونقل المؤلفات القيمة يتفق وعددهم؛ فحركتهم في الترجمة حركة ضعيفة غير منظمة، وحسبك دليلًا على هذا أنه لم يقم من المصريين بعد رفاعة (باشا) ومدرسته من يسدَّ مسدَّه أو يغني غناءه، ولو سار من أتى بعده على نهجه لما رأيت كتابًا هامًّا أوربيًّا في مختلف العلوم والفنون لم يترجم إلى العربية، وهكذا قل في تنظيم الأعمال، وليس يصحُّ أن تلقي كل المسئولية على عاتقهم، فبعضها يرجع إلى أن الاحتلال الإنجليزي لم يكن يشجِّع على هذه النهضة، بل كان يعمل على إعاقتها.
وأيًّا ما كان فهو اتجاه علمي أدى بعض واجبه، وخدم الحركة العلمية خدمة لا تُنكَر.
- (٢)
وكان يقابل هذا الاتجاه ويكمِّله حركة أخرى ترمي إلى بعث الأدب القديم، وقد بدأ هذه الحركة المستشرقون، فبذلوا جهدًا كبيرًا في جمع الكتب القيمة في مكاتب، كما بدأوا في نشر أهمها، ثم قلدتهم مصر في هذا العمل، فبدأت مطبعة بولاق في عهد محمد علي تنشر الكتب العربية القديمة، ثم تأسست المطابع الأهلية تنشر ما لا يحصى من الكتب.
وهي مع كثرة ما تُخرِجه مقصِّرة عما يُخرِجه المستشرقون؛ لا من ناحية العدد، بل من ناحية المنهج؛ ذلك أن أكثر ما يُطبع في مصر من الكتب القديمة ينشره التجار، أما في أوربا فينشره العلماء، وفرق كبير بين منهج العالم ومنهج التاجر؛ فالعالم الأوربي إذا نشر كتابًا رجع إلى أهم النسخ الموجودة في العالم وقابل بعضها ببعض، وتحرى الأمانة في الأصل، وبذل الجهد في المراجعة، ثم فهرس الكتاب بأعلامه وبلدانه، ونحن — إلى اليوم — لم نبلغ هذا المبلغ في إخراجنا إلا في القليل النادر.
وألاحظ في هذا الاتجاه أن حركة النشر زادت في مصر وغيرها من البلدان العربية بقدر ما نقصت بين المستشرقين، وهي حالة تغتبط بها لو أضيف إليها العناية بالنشر.
•••
وقد أصبح لنا من هاتين الحركتين ثروة واسعة من الأدب الغربي والعلم الغربي، وثروة واسعة من الأدب العربي والعلم العربي، ونشأ عنهما، وإن شئت فقل إنهما كانا رمزًا لتيارين مختلفين.
وهذان التياران المتحاذيان أحيانًا، المتعاكسان أحيانًا، قسَّما الناس في مصر إلى أقسام، ووجهاهم وجهات مختلفة، وطبعاهم بطوابع متباينة؛ منهم المغالي ومنهم المعتدل، منهم من لم يلتفت إلى التيار الآخر أي التفات، ومنهم من اغترف منه غرفة بيده، فنشأ من ذلك تبلبل في الألسنة، واختلاف في الأفكار والآراء، وتنازع في مناهج البحث وطرق التفكير.
هذان التياران يتنازعان الشعراء والكتاب والمؤلفين، ويتنازعان مناهج التعليم، وطرق التفكير، وكل مظهر من مظاهر الحركة العلمية.
فمن الشعراء من مَثَله الأعلى امرؤ القيس أو بشار أو أبو نواس، ومنهم من مثله الأعلى شكسبير أو جوته.
ومن الكتَّاب من مثله الأعلى ابن المقفع أو الجاحظ أو الحريري، ومنهم من مثله فيكتور هوجو أو فولتير أو نحوهما.
بل مناهج التعليم في مصر مضطربة بين التيارين؛ فهي تعلِّم النحو والبلاغة على نمط سيبويه والسكاكي ونحوهما، وإن اختلفت عنهما ففي الأمثلة ووضوح العبارة، وتعلِّم الطبيعة والكيمياء والجغرافية على نمط الكتب الإفرنجية.
ومن المقنِّنين من يرى خير مثل هو القانون الفرنسي أو الألماني أو السويسري، ومنهم من يراه الشريعة الإسلامية.
ويمثِّل هذين التيارين الجامعة المصرية، ومثلها الأعلى التعليم الأوربي، والجامعة الأزهرية، ومثلها الأعلى الآداب والعلوم الإسلامية، على أن الجامعة الأزهرية بذلت بعض المحاولات في إدخال عناصر التجديد.
وهذان الاتجاهان في الشرق؛ وخاصة مصر، أوضح منهما في الغرب؛ نعم، إن في الغرب محافظين وأحرارًا، ولكنهما معًا يدوران حول مبادئ واحدة كل فريق يرى فيها رأيًا، أما في الشرق فالآراء متعاكسة، وموضوعات الاتجاهين ليست واحدة؛ ذلك أن الغرب قد نظر طويلًا في التراث القديم وصفَّى مركزه فيه، وأخذ منه ما يستحق الأخذ، وسار به على النهج الجديد، ولم تبقَ للقديم دراسة إلا للتخصص فيه على أنه أثر من الآثار.
ومن عهد محمد علي إلى الآن والحرب مستعرة بين الاتجاهين، وهي حرب هادئة أحيانًا، عنيفة أحيانًا، تظهر في الآداب بين دعاة القديم ودعاة الجديد، وتظهر في الدين فيقوم لها الرأي العام ويقعد؛ كالثورات التي قامت على السيد جمال الدين ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين، وتظهر في التقنين؛ كالثورات التي قامت من قديم حول المحاكم الشرعية وتنظيمها واختصاصها.
•••
وهنا يجب أن نتساءل: هل من مصلحة مصر والشرق عامة أن يظل فيها هذان الاتجاهان، أو أن تخنق القديم وتعيش بالجديد وحده؟
لقد سارت تركيا على المنهج الثاني، فأبادت القديم ولم تحفل به، ولم تعبأ برجال الدين، ولا برجال الأدب القديم، ولا بحروفها القديمة، ولا بزيِّها القديم، ولا بقوانينها القديمة، وعلى الجملة، فقد أرادت أن تقضي على القديم في كل شيء، وعزمت أن تسير بالأمة نحو الجديد البحت، وبدل أن يكون مثلها الأعلى مشتقًّا من الاتجاهين أرادت أن يكون مثلها الأعلى مقتبسًا من أوربا وحدها، ونزعاتها وحدها، فهل من مصلحة الشرق أن ينهج هذا المنهج؟
أظن أن الجواب بالسلب، وأن من مصلحة الشرق بقاء الاتجاهين معًا؛ ذلك أن في القديم ثروة لا تقدَّر، وفي الجديد ثروة لا تقدَّر، كما أن في كل من القديم والجديد بذورًا سامة يجب إعدامها، كما أن في أجسامنا وألواننا وعقولنا نتيجة وراثتنا وبيئتنا، وهي تختلف عن القديم البحت والجديد البحت، فيجب أن يكون غذاؤنا منهما معًا.
أهم واجب على قادة الرأي عملية «التنقية»؛ تنقية القديم لنعرف خيره وشره، وتنقية الجديد لنعرف خيره وشره.
ولكن يجب أن يسير المجددون أمام الجمع، وخلفهم أنصار القديم، ويجب ألا يخفَّ المجددون خفة تدعو إلى التهور، وألا يثقل أنصار القديم ثقلًا يعوق المجددين عن السير.
ثم إن أنصار القديم لا يصح أن يستمروا على نمطهم القديم بحال من الأحوال، فهم مكلفون كل التكليف أن يعرضوا قديمهم في شكل جديد؛ فالأدب القديم لا بد أن يعرض عرضًا جديدًا، وأؤكد أن انصراف الناس عن الأدب العربي والعلم العربي والدين، أكبر سبب له سوء العرض، فتذوُّق الناس الآن غير تذوقهم فيما مضى، قد كان الناس يتذوقون طريقة «الأغاني» في ترجمة امرئ القيس، فأصبحوا لا يتذوَّقونها ويودُّون عرضًا جديدًا، يتفنَّن فيه كما يتفنَّن في عرض الثياب في مخازن البيع، وكان الناس يتذوَّقون كتب الفقه على نمط حاشية ابن عابدين، فأصبحوا يمجُّونها، وأسلوب كتب الدين القديمة لا تجاري أذواق الناس في العصر الحاضر، فيجب أن يدخل التجديد في القديم، وهذا ما فعلته كل الأمم في تراثها، كما يجب أن يلوَّن جديد الأوربيين عند نقله إلينا بما لنا من منطق خاص، وأسلوب في التفكير خاص.
إنَّا إن فعلنا ذلك نلنا الحسنيين، وأخذنا خير ما في الذخيرتين، ووصلنا إلى الغرض من غير ثورة، وأدركنا الغاية في غير عنف.