سَرْد الأسطورة
عندما قدم باريس، سمحت له بالدخول. ما حدث بعد ذلك كلنا نعرفه؛ على الأقل، نعرف الأحداث، ولكن البعض منا في حيرة من أمرهم إذ لا يستطيعون تفسيرها. (هيلين في كتاب جون إرسكين، «الحياة الخاصة لهيلين طروادة»)
أن تروي حكاية فذلك يعني محاولة لفهم تلك الحكاية. (إتش بورتر آبوت، «السرد القصصي»)
الحكايات لا تحيا وحدها. إنها أفرع من عائلة يجب أن نقتفي آثارها في الماضي والمستقبل. (روبرت كالاسو، «زواج كادموس وهارموني»)
(١) حكاية من؟
حكاية هيلين هي حكاية عن الانسحاب. فالطفل باريس ينسحب من طروادة إلى جبل إيدا، ومينلاوس ينسحب من أسبرطة إلى كريت، وغيابه يُمكِّن هيلين من الانسحاب من أسبرطة إلى طروادة، وأخيل ينسحب من القتال، وأفروديت تهدد بالتخلي عن هيلين. في سردية عن الغياب والانسحاب، حتى السلبية (غياب الفاعلية) تصبح حاسمة من الناحية السردية: «أهم شيء فعله مينلاوس للملحمة كان فقدانه لهيلين» (كلادر ١٩٧٦: ٣٢). ولذلك فهذا الكتاب — كالمرويات الطروادية التي يستكشفها — هو دراسة عن الغياب، والافتقار، والثغرات، والغموض، والتصريح بالشيء ونقيضه والحافز السردي نحو الإكمال والاختتام.
(٢) الغياب
يقدم واحد من مترجمي النص إلى الإنجليزية — فريدريك كومبلاك عام ١٩٦٨ — ترجمة مفسرة للعنوان: «ما لم يقله هوميروس». لا يُبرز عنوان كومبلاك ما أكمله كوينتوس بل يُبرز أوجه إغفال هوميروس. وبقيامه بذلك، يسلط الضوء على المفارقة في عنوان كوينتوس إذ إن إثبات الاستكمال في حد ذاته يكشف عن إغفال خطير في الأصل. تنتهي «الإلياذة» ببقاء أخيل حيًّا وطروادة لم تزل سالمة، ولكن الإغفال منتشر من بداية القصيدة. فأخيل غائب عن النزال في الكتاب الأول، وتلاحظ هيلين غياب أخويها، كاستور وبولوكس في الكتاب الثالث، وأفروديت تبعد باريس عن القتال في الكتاب الثالث وتهدد بأن تنقطع عن رعاية هيلين، وحتى الشاعر يبعد نفسه عن وصف المعركة: «لقد كان عناءً لا طاقة لي به — وكأنني إله — أن أروي كل ذلك» (١٢. ١٧٦). قصيدة هوميروس التالية، «الأوديسة»، هي ملحمة بلا بطل، تسجيل للمعضلات التي تنشأ عندما يغيب رأس العشيرة. ويستمر الغياب في كونه سمة لكل الروايات عن حرب طروادة، ذلك جوهر أسلوبي ومبدأ موضوعي وليس نقيصة بنائية؛ من فقد هيلين، وغياب الريح في الخليج عند أوليدة، وفقد إفيجينيا، إلى عواقب الحرب: ملوك وقادة غير موجودين، وعروش خاوية، وبيوت فُقِد عائلها وخلت من ساكنيها، وفُرُش مُترمِّلة (مسرحية «أجاممنون» في إسخيلوس ١٩٦٨: ٥٢. ٥٨. ٦٥)، بعبارة أخرى ما يصوره عمل موسيقي في القرن العشرين تصويرًا مؤثرًا ﮐ «مقاعد خاوية وطاولات شاغرة» (كلود-ميشيل شونبيرج، «البؤساء»). مثل هيلين، يُشاع الغياب في كل أنحاء النصوص. الغياب يمثل هيلين؛ فهي غائبة وهي الغياب ذاته.
وإلى جانب هذه الفراغات البشرية والموضوعاتية ثمة فراغات لغوية: ما يتجنب المرء قوله، ما يأبى أن يفصح عنه أو لا يقدر أن ينبس به. الحزن الذي تتحدث عنه بينيلوبي «تلك المدينة، إيليوم الشريرة، التي أعاف عن ذكر اسمها» («الأوديسة» الكتاب ١٩، ص٣٠٣). مينلاوس في مسرحية يوربيديس يأتي ليجلب «المرأة الأسبرطية، التي كانت يومًا زوجتي، تلك التي أجد مجرد التفوُّه باسمها أمرًا كريهًا» («الطرواديات» يوربيديس ١٩٧٣: ١١٨). في مسرحية «أوريستيس» لا يُطيق بيلاديس أن يذكر اسم هيلين، فيدعوها «تلك المرأة» (يوربيديس ١٩٧٢: ٣٤٠). في الكتاب الثالث من «الإنياذة» تتحدث أندروماك عن «هيرميون، حفيدة ليدا» (فيرجيل ١٩٨١: ٨٥)، متجنبة تمامًا ذكر أم هيرميون، هيلين.
لا ينحصر هذا الجفاء في النصوص الكلاسيكية. ففي عمل سي إس لويس يتذكر مينلاوس زوجته المنفصلة عنه بوصفها «المرأة» (١٩٦٦: ١٢٩). وفي «حكاية طروادة» لجورج بيل (١٥٨٩، رُوجعت ونُقحت ١٦٠٤) تدخل هيلين إلى القصيدة كضمير غائب وليس كاسم علم: «هي» (البيت ١٣٧). شخصية لوسيِنتو لشكسبير — التي ليست شخصية كلاسيكية ولا متورطة عاطفيًّا مع طروادة، هي أيضًا تُسقِط اسم هيلين: «لقد كان لابنة ليدا الشقراء ألف خاطب» («ترويض الشرسة» ١. ٢. ٢٣٤).
إن هيلين — المتسببة في الحرب — مُخفاة إخفاءً لغويًّا منتظمًا من الأعمال الأدبية التي تتناولها. على الرغم من أن «مجموعة» كاكستون (طبعة ١٤٧٤) — روايته النثرية لحرب طروادة — تفتقر إلى غلاف (لأنها مُصمَّمة لتبدو مثل مخطوطة)، فإنها تذكر «جاذبية» هيلين في مقدمتها (١٨٩٤: المجلد ١: ٧)؛ بحلول عام ١٥٩٧ تشكَّل لها صفحة غلاف ولكنها أغفلت ذكر هيلين. وتتضمن دراما توماس هيوود في نفس الموضوع، التي تحمل عنوان «العصر الحديدي الجزء الثاني» (١٦٣٢)، ذكر هيلين في صفحة الغلاف ولكنها تُغفِلها من قائمة الشخصيات الدرامية. في قصيدة شكسبير السردية «اغتصاب لوكريس» لا يُشار إلى هيلين إلا بوصفها «العاهرة التي بدأت هذا الهرج» (١٤٧١)، وهي ليست غائبة لغويًّا فقط ولكن لوكريس لا تستطيع أن تجدها في اللوحة. الإخفاء الأكثر إثارة للدهشة لهيلين يأتي على غلاف قرص فيديو رقمي (دي في دي) لفيلم وولفجانج بيترسن «طروادة» (٢٠٠٤) الذي لا يظهر عليه اسم ديان كروجر على الإطلاق. (أسماء براد بيت، وإريك بانا، وأورلاندو بلوم: أخيل، وهيكتور، وباريس على الترتيب، هي الأسماء الثلاثة المعلنة.) ومع أن هذا منطقي من ناحية قصة الفيلم، فمشاركة كروجر متواضعة في الحبكة، إلا أنه ليس منطقيًّا من ناحية العلاقات العامة؛ إذ إن البحث عن هيلين طروادة/ديان كروجر كان جزءًا من دعاية الفيلم دوليًّا، ولا من ناحية الظهور السينمائي؛ إذ إن كروجر تشغل قسطًا كبيرًا من وقت الفيلم.
إذا كانت سرديات هيلين تعطينا غيابات بنائية ولغوية، فإنها تعطينا أيضًا انفعالًا يسببه الغياب. ففقدان إفيجينيا يلازم كلًّا من كلتمنسترا وأجاممنون في المسلسل التليفزيوني «هيلين طروادة» على شبكة يو إس إيه (كلتمنسترا تثأر من أجاممنون على فقدان ابنتهما، وأجاممنون، في سياق ختامي عنيف، يثأر من هيلين). إن فقدان إفيجينيا بالغ الأهمية في سرديات طروادة لدرجة أن التراث الشعبي يؤكده بالتكرار. وثمة تراث مغاير يذهب إلى أن إفيجينيا كانت ابنة هيلين من ثيسيوس، وأنها طفلة غير شرعية أُعطيت إلى كلتمنسترا لتُربى كابنة لها. إفيجينيا على هذا النحو مفقودة مرتين. هذا التراث المغاير هو ما يُشكِّل قوام مسرحية مارك هادون الإذاعية «ألف سفينة» (٢٠٠٢)، التي يُلازِم هيلين فيها فقدان ابنتها البِكْر، وعند ولادة هيرميون كل ما يمكنها أن تشعر به هو غياب إفيجينيا.
(٣) القِطَع الأدبية والسرد
جرت العادة على النظر إلى الملحمة على أنها ضرب أدبي من الاكتمال، قالب يسعى إلى التمامية والنظرة الشاملة. هذه هي نظرة مايكل أونيل؛ فهو يجعل الملحمة نقيض القطعة الأدبية، التي «تحتفي بعدم الاكتمال» وتؤكد على «الاحتمالية اللانهائية» (أونيل ٢٠٠٥: ٢٧٨). بيْد أن القطعة الأدبية متغلغلة في الملحمة ويبدو لي أن هنالك توترًا مثمرًا في صميم أدب طروادة الذي تؤدي فيه القطعة الأدبية العرَضية دورًا ضد ومع الملحمة كنوع أدبي مستضيف لها. فالقطع الأدبية — كما تُبيِّن صوفي توماس — «تلعب بوضوح على زخم كمال النقص» (٢٠٠٥: ٥١١). هذا جانب سأستطلعه في الفصل الثاني فيما يتصل بحُسن هيلين، ولكن في الوقت الراهن يمكننا أن نلاحظ ببساطة أوجه التشابه بين القطعة الأدبية وبين الطبيعة المطلقة لجمال هيلين: كلاهما كامل في ذاته، ولكنهما يصنعان اشتياقًا إلى شيء أكثر. فالتوتر بين القطعة الأدبية والاكتمال، والرغبة والإشباع، والجزء والكل، والاشتياق والإحجام عن الاشتياق هو على السواء زخمٌ سردي وحسي.
لو أن هناك توترًا بين القطعة الأدبية وبين الملحمة، فهناك أيضًا توترٌ بين القطعة الأدبية والقصة. فالقطعة الأدبية «تعترض المعنى» لكونها تُبطِل الحدود في النصوص التي يعتمد عليها التأويل (توماس ٢٠٠٥: ٢١٢). لكن لو أن النصوص الطروادية هي قصص (اروي لنا هذه الحكاية، أيتها الإلهة ابنة زيوس، مبتدئةً من أي موضع تشائين)، فهي ليست قطعًا أدبيةً. كل الحكايات لها مقدمة ووسط ونهاية، وليست قطعًا أدبيةً إلا بنفس القدر الذي عليه كل الصيغ الأدبية، ما دام «لا يمكن لحكاية أن تُروى بتمامها» (إيزر ٢٠٠٦: ٦٤). وإذا لم يقدم الشاعر هذا البناء الثلاثي الأركان، فسيفعل القراء ذلك. هذا هو رأي إيزر في القراءة عمومًا حيث «تؤدي الفجوات في القطع النصية إلى عمليات توليف في ذهن القارئ» (إيزر ٢٠٠٦: ٦٦). وفي رأي مارجوري ليفنستون فيما يتعلق بقراءة القطع الأدبية الرومانسية التي تستدعي فيها القطعة الأدبية مشاركة القارئ التفاعلية: «يرغب القراء في اختبار حل العقدة من الشِّعر، وإن امتنع ذلك … فسيُنشِئون تأثيرًا ختاميًّا من المواد والمبادئ المتوفرة» (ليفنستون ١٩٨٦: ٢٥).
تبدأ محاولات سد الثغرات في الملحمة الكلاسيكية مبكرًا — كما رأينا سابقًا في حالة سلسلة الملاحم — مما يملأ ثغرات سردية كبيرة. وتعالج صيغ لاحقة أخرى التفاصيل المحلية. في القرن السادس قبل الميلاد يروي لنا داريس أن كاستور وبولوكس غرقا وهما في طريقهما إلى طروادة (فريزر ١٩٦٦: ١٤٢). ربما كانت هذه تفصيلة اختلقها داريس ليعطي تفسيرًا لعدم وجود دور للأخوين في حرب طروادة. فمن الغريب غيابهما عن طروادة نظرًا لدورهما السابق كمُنقذَي هيلين أثناء حبس ثيسيوس لها، وهو دور يتوقع المرء منهما تكراره على ضوء ولع الميثولوجيا بالتكرار. ومن الجلي أن اختلاق داريس قد قوبل بالقبول: فقد نُسِخ في «جيست هيستوريال» (القصة التاريخية لدمار طروادة) اللاحقة (مجهول، حوالي العقد الأول من القرن الخامس عشر).
بعبارة أبسط، حكاية هيلين هي في كل قرن محاولة لملأ الثغرات. هل اختُطِفت أم ذهبت طوعًا؟ بماذا أحست في أسبرطة تجاه مينلاوس وكيف أحست في طروادة وسط الطرواديين؟ كيف كانت تبدو أكثر نساء الأرض حُسنًا؟ الثغرة الأكثر وضوحًا تتصل بحياتها في أسبرطة بعد خراب طروادة، تلك التي يدعوها روبرت بروك، منتقدًا، «أعوام الزواج الطويلة» (١٩١٨: ٩٣). وهذا يثير التساؤل حول الاستنتاجات السردية والخاتمة الموضوعاتية.
(٤) الخاتمة
عندما يخفق السرد في إدراك الخاتمة، يتولى النقد الأدبي هذه المهمة. يقدم التأويل واحدًا من أقوى صيغ الخاتمة، محولًا المساحات الشاغرة والفجوات إلى معنًى متصل. وأحيانًا تقدم النصوص نقدها الأدبي الداخلي. نرى هذا في مسرحية إسخيلوس «أجاممنون» عندما يقدم الرسول معلومة مبهمة إبهامًا مخيبًا للآمال: «لقد اختفى مينلاوس، سفينتُه وكل شيء!» إن إنباء الرسول هو حرفيًّا «غير مُرْضٍ»: ليس كافيًا. وليست مصادفة أن أنباءه هي عن الغياب. كما رأينا، يمقت المراجعون والقراء الفراغات السردية ويضطرون لشغل المساحة. لقد نصبت جوقة إسخيلوس بالفعل نفسها كنقاد أدبيين («فأسلوب كلتمنسترا يتملص منك. ونحن نفسر قولها») والآن يقدمون ثلاث تفصيلات أسقطها الرسول، وهم في الواقع يتكلمون بلسانه: «أتعني: (١) أنه أبحر معك من طروادة، ثم (٢) هبَّت عاصفة على الأسطول و(٣) فصلت سفينته عن البقية؟» («مسرحية أجاممنون» لإسخيلوس ١٩٦٨: ٦٤، الإدخالات الرقمية من عندي). يردون بدأب على المساحات الشاغرة في كلام الرسول أو إجاباته الناقصة «تلك الأخبار الطيبة التي تطلبها، لا أستطيع أن أمنحك إياها»، («لا أحد يستطيع أن يخبرك، لأنه لا أحد يعرف»، ٦٤) بأن يطالبوه بإعطائهم تفصيلات أكثر، وإدخالهم بأنفسهم لتلك التفصيلات: «أتعني، أظن، أنه …» (٦٥). ومن ثَمَّ فإن التأويل الأدبي، كاستجابة القارئ على العموم، تُكْمِل القصة. وفي ظل جهودهم الساعية للفهم، يقدم النقاد خاتمة، وفي المقابل في سعيهم لخاتمة، يقدمون فهمًا.
بيْد أنه لا يمكن للمرء أن يعرف أو يفهم هيلين. ذلك سببه جزئيًّا أنها توجد فقط كأداة للسرد. يلاحظ نورمان أوستن في «الإلياذة» أن هيلين «تفهم أن دورها هو … أن تكون أولًا وقبل كل شيء قصة» (١٩٩٤: ١). في مسرحية يوربيديس «الطرواديات» تتأمل في «كيف تجري القصة»؛ قصة دورها كمتسببة في حرب طروادة (١٩٧٣: ١٢٠). وفي العمل المسرحي «هيلين» للكاتب نفسه تروي لنا عن مولدها، مختتمةً «تلك قصة منشئي، لو أنها حقيقية» (١٩٧٣: ١٣٦). في سائر أنحاء العالم القديم يجري تذكيرنا بقيمة قصة من ناحية كونها مُبرَّرة، أو ملائمة، أو مُناسِبة وليس من ناحية كونها حقيقية. في مسرحية «أجاممنون» تقول كلتمنسترا: «منذ وقت ليس ببعيد، قلت أمورًا كثيرة تتناسب مع الوقت الذي قيلت فيه/وأنا هنا — إذ قد مر الوقت — أتراجع دون خجل عما قلت» (إسخيلوس ١٩٦٨: ٩٠). هيلين أيضًا لديها في «الأوديسة» قصة مُناسِبة: «القصة المناسبة للمَقام» (الكتاب ٤، ص٥٢).
الحقيقة هي أنه لا أحد يهتم من أنا. أنت تقرأ القصص. وتقرأ القصائد. ولكنك لا تفقه عني شيئًا. لا شيء مناسب. لا شيء منطقي. لا شخصية لي. لا تدخل أبدًا داخل رأسي. أنا ساحرة، وضحية، وعاهرة، وزوجة. أنا الشيطان. أنا ملاكٌ. أنا كل النساء الذين عاشوا منذ البدء. أنا لا أحد، أنا لوح كتابة فارغ لتكتب عليه ما شئت.
إن هيلين هنا تتهمنا بإحداث خوائها لإرضاء أهوائنا في التأويل. وحتى الشخصيات بداخل سرديات هيلين تُعلِّق على استغلاقها ومجهوليتها الوجدانيين. يشعر باريس ببعده عن شخصية هيلين المستهزئة في «هيلين في مصر» لإميلي بوتمان (١٩٢٦)، وتشعر ليلي بريسكو بالإحساس نفسه من ناحية السيدة رامزي (وهي شخصية تشبه هيلين، تُدعى «أسعد هيلين لهذه الأيام») في رواية فيرجينيا وولف «إلى الفنار» (١٩٢٧). بهذا المعنى تعليق ليلي بريسكو عن المتوفاة السيدة رامزي/هيلين — أنه بدونها حيواتهم تستمر حول «محور من فراغ مطلق» (١٩٩٢: ٤١٧) — ينطبق على هيلين سواء أكانت حية أو ميتة؛ هي على الدوام محور فارغ. الغياب هو جوهرها؛ فلا وجود داخلي (أو سالف).
أن تعرف وتروي قصة هيلين فذاك يقود إلى الخطر؛ فللمعرفة اتصال طويل بالخطر، الذي يعرفه العالم المسيحي حق المعرفة في هيئة شجرة معرفة في عدن. ويتجلى خطر هيلين نصيًّا في سلسلة من الاختلاجات.
(٥) الاختلاجة النصية
يختتم ييتس بالتساؤل «تُرى أبلغ إلى (ليدا) علمه كما بلغتها قوته/قبل أن يدعها المنقار اللامبالي؟» يفصح ييتس إفصاحًا جليًّا (وإن كان استفهاميًّا) عما هو ضمنيٌّ في الأمثلة السابقة، أن بداية سياق تاريخي جديد (المُمَثَّلة عند ييتس بالحَبَل بإنسان، وعند ميلتون بالسقوط، وعند فيرجيل بمستقبل وطني، وعند آياس في ملحمة هوميروس بتهديد الخسارة العسكرية) يجب أن تُصاغ في إطار مسألة المعرفة.
في قصيدة ويليام موريس «مشاهد من سقوط طروادة» هيلين ذاتها هي (على غير العادة) التي تختلج. تُعطي هيلين في قصيدة موريس (وهو ثانيةً أمر غير معتاد في السرديات عن هيلين) عمقًا فائِقًا وبصيرة تحليلية: فهي تتوقع العواقب (١٩١٥: ٣)، وتتقبل رغبة اليونانيين في موتها وتتخيل ثلاث طرق محتملة لتنفيذه (١٩١٥: ٤)، وتدرك أن بوليكسينا أصغر سنًّا وأكثر جمالًا منها (١٩١٥: ٥). ترتبط اختلاجتها بالمعرفة: إدراكها أن الجنود اليونانيين يحيون بلا حب لوطنهم، فقط بالكراهية التي يحملونها لها (١٩١٥: ٦-٧).
في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب جورجياس أن الشِّعر يتسبب في «اختلاج مُفزِع وحسرة دامعة واشتياق موجع» (سبراج ١٩٧٢: ٥٢). قد لا تكون مُصادفة أن وصف جورجياس ينبثق من دفاعه عن هيلين. إن صياغته تصف الشِّعر بيْد أن هذه الاستجابات للشعر مُطابِقة للاستجابات للجمال: الاختلاج المفزع من الرهبة، والتعاطف الوجداني، والاشتياق. نحن نرى ردات الفعل هذه نحو الجمال عند أفلاطون (أو سقراط من وجهة نظر أفلاطون): ذلك الذي يرى «وجهًا كوجه الآلهة أو بنية جسدية قد أسرت الجمال كما ينبغي … فيختلج» («فيدروس» (المحاورة) القسم ٢٥١ في أفلاطون ١٩٩٧: ٥٢٨). الشِّعر أيضًا هو تكوين لا يتجزأ استأسر الجمال جيدًا.
«لا يمكن الوثوق به»، تبدي ملاحظة للمرأة … «لا يمكن الوثوق به»، ليس جديرًا بالثقة.
تهز المرأة كتفيها ثانية: «دائمًا ما يكون الزمن قصيرًا. لا يمكنكِ الحصول على كل شيء.» هناك توقف. تتحدث المرأة ثانيةً: «حتى صوته. إنه يصنع بي ذلك الشيء …»، تبحث عن الكلمة: «إنه يجعل المرء يختلج.»
يختلج. الصوت يجعل المرء يختلج …
الصوت. تعود بها أفكارها إلى كوالالمبور، عندما كانت شابة، أو تقريبًا شابة، عندما قضت ثلاث ليالٍ متتالية مع إيمانويل إيجودو، الذي كان شابًّا أيضًا في ذاك الحين. قالت له، مُداعِبةً: «الشاعر الشفاهي، أرني ما يستطيع شاعر شفاهي فعله.» وأرقدها، واستلقى فوقها، ووضع شفتيه بالقرب من أُذنيها، وفتحهما، وتنفس نَفَسه فيها، وأراها. (٢٠٠٤: ٥٧-٥٨)
الاختلاج هنا هو ردة فعل للشعر، للشعر الشفاهي، لصوت إيجودو.
يصنع كويتزي وحدة بين جمال الشعر والجمال الجسدي عبر التأمل في الخلود والزمن. وعلى الرغم من المادية الدنيوية لذكرى إليزابيث كوستيلو، فالحدث الجنسي مصبوغ بصبغة المقدس. فالشاعر — لسبب واضح — يُسَمَّى (إيمانويل (عمانوئيل) = الرب معنا)، وينام مع إليزابيث كوستيلو «ثلاث ليالٍ متتابعة» نمطية، وينظر إلى الجنس باعتباره خَلْقًا روحيًّا («تنفس نَفَسه فيها»)، وفتحة الخلق — كما في العهد الجديد والفن المسيحي — هي الأُذن. ويحرِّض كويتزي حنين كوستيلو إلى الماضي بمعيار زمني مُصاغ صياغةً شاذة («القرب» يدل على التحرك تجاه شيء ما، وليس بعيدًا عن الشيء. تقنيًّا لا يمكن أبدًا للمرء أن يكون «تقريبًا» شابًّا). هنا كويتزي، كما هو الحال في الملحمة، وفي الشعر عمومًا، يرفض خَطِّيةَ الزمن. ليس الحدث ذكرى جنسية، ولكنه وصف لتأثير الشعر الشفاهي.
ترتبط هيلين ارتباطًا منتظمًا بالشعر الملحمي الشفاهي: مثلما في واقعة نسجها في «الإلياذة»، وفي تأثير الأدوية التي تركِّبها في «الأوديسة» التي تعيد الزمن إلى الوراء وتجعل المتلقين ينسون الألم (كلادر ١٩٧٦: ٣٣). بيْد أن الشعر الملحمي، كما رأينا، مليء بالفراغات. إن محاولة تفصيل هذا الفراغ هي ما تؤدي إلى الاختلاج النصي. مثلما يكتب بارت: «رغم كونها عاجزةً عن أن تكون «منطوقةً» هناك (في النص)، مع ذلك تبث النشوة اختلاجة فنائها» (١٩٧٥: ٦١؛ الأقواس في النص الأصلي). إن مفرداته نصية وجنسية في الوقت ذاته: فالاختلاجة هي ذروة النشوة وهي بالمثل تبدد اللذة. يؤثر جمال هيلين في النصوص بنفس الطريقة، فهو مثير ومثبط في آن واحد.
(٦) الأسطورة والتكرار
ما تتفرد به قصة هيلين هو أنها ليست متفردة. فالعناصر التي نفترض أنها قاصرة على حرب طروادة عادةً ما تكون أشياء معتادة في الأساطير والحكايات الشعبية في العالم التقليدي والشرق الأدنى القديم. كما يكتب روبرتو كالاسو في واحدة من الفقرات المقتبسة بهذا الفصل: «القصص لا تحيا وحدها أبدًا. إنها أفرع من عائلة يجب أن نقتفي أثرها في الماضي والمستقبل» (١٩٩٤: ١٠). وشجرة عائلة هيلين ممتدة الأفرع.
إن حكم باريس علي جمال الإلهات الثلاث يبدو أنه كان تطورًا عن الحوريات الثلاث حاملات الهدايا اللواتي رافقن هيرميس بالإضافة إلى الولع الهيليني (اليوناني) بمسابقات الجمال (ليندساي ١٩٧٤: ١٩٣). وتتكرر أيضًا المنافسات بين النساء في الأسطورة ومثال ذلك: أطلانطا، جوكاستا، هيبوداميا.
إن عقْد الحرب — وسقوط طروادة في العام العاشر من الحصار — مستمد من تقليد أسطوري يرتبط بمجموع الأعداد تسعة-زائد-واحد. في «الأوديسة» يضل أوديسيوس لتسعة أيام قبل أن يصل إلى اليابسة في اليوم العاشر (الكتاب ١٤، ص٢١٦). في «الإلياذة» يرقد أبناء نيوبي الميتون في الدماء تسعة أيام، «ولكن في اليوم العاشر دفنتهم الآلهة الأورانوسية [السماوية]» (٢٤. ٦١٢). في «أنساب الآلهة» يبين هيسيود أنه عندما تُعاقِب آلهة الأوليمب أحد الخالدين، فإنه يُنفى تسع سنين وينضم ثانيةً إلى الخالدين في السنة العاشرة (هيسيود ١٩٨٨: ٢٦). ربما عانت طروادة من حصار طويل ولكنه لم يمتد بالضرورة عشر سنوات.
خدعة الحصان الخشبي لا تتفرد بها حرب طروادة. عندما شُغِفت باسيفاي (زوجة الملك الكريتي مينوس) حبًّا بثورٍ، وتمكنت من أن تقترب منه مختبئةً داخل بقرة خشبية (كان نتاج هذا الاتحاد هو المينوطور الذي كان ثورًا من جهة، ومن جهة إنسانًا).
الشبح هيلين — الذي يقدمه ستسيكورس في القرن السادس قبل الميلاد — ليس الشبيه الوحيد الذي اصطنعته الآلهة. فأثينا تصنع شبحًا لإبثينا شقيقة بينيلوبي وترسله إلى إيثاكا لتبعث الراحة في نفس شقيقتها («الأوديسة» الكتاب ٤، الصفحات من ٦٨ إلى ٦٩). في «الإلياذة» يصنع أبوللو شبيهًا لإنياس (٥. ٤٤٩-٤٥٠)، وتصنع جونو نفس الأمر في «الإنياذة» (الكتاب ١٠)، محولةً قطعة من السحاب «إلى هيئة إنياس … معطية إياه كلمات لم تكن أبدًا حقيقية، وصوتًا بلا فكر، وشَكَّلَت بإحكامٍ هيئةَ مشيه» (فيرجيل ١٩٨١: ٢٧٠).
البعض يقول إنها ذهبت إلى هناك وذهبت كذلك إلى طروادة، آخرون يقولون إنها ذهبت إلى هناك بدلًا من الذهاب إلى طروادة: الجميع يقول إنها ذهبت إلى هناك. البعض يقول إنها ذهبت مع باريس، والبعض يقول إنها ذهبت مع مينلاوس، والبعض يقول إنها ذهبت وحدها: الجميع يقول إنها ذهبت. (١٩٧٥: ٥)
الاختفاء (تحديدًا الاختفاء الموسمي: غياب الشمس، غياب الأوراق، غياب الأزهار) والعودة إلى الوضع الأول هما سمة للأسطورة. فباريس على جبل إيدا يبدو في ظاهر الأمر ميتًا لطروادة، ويولد ثانيةً كأميرٍ طرواديٍّ. أوديب كذلك يُنبَذ ويُنقَذ. ديونيسوس الذي لم يُولد بعد يتهدده الموت عندما يُفنيِ البرق أُمه سيميلي، ولكن زيوس ينقذ طفله غير المولود من الرماد ويضعه في فخذه حتى يحل الموعد المناسب لولادته. ديميتر تنقذ ابنتها بيرسيفوني من العالم السفلي ولكن احتيال هاديس عليها يجبرها على أن تعيدها ستة أشهر من كل عام. يرى فرانسيس إم كرونفورد (١٩٣٤) أن هذه التركيبة تجسيد وثني للفصول مع نمط إحلال أو (في بعض الأحيان) الغياب المتكرر والعودة.
اسم هيلين يعني «المُشرقة» ويصنع رابطًا بينها وبين الشمس. إحدى الجدليات الأنثروبولوجية تفترض أن هيلين كانت في البدء إلهة للشمس (ويست ١٩٧٥: ٧–١٣). ربما يكون مُقامها القصير في مصر، أرض الشمس، هو محاولة لتأويل ليس فقط «لماذا» تختفي الشمس (كما يفعل مُنشد «الإنياذة»، كما ذُكر سابقًا) ولكن «أين» تذهب. في هذا السياق لا يهم كثيرًا ما إذا كانت هيلين تذهب إلى مصر قبل، أو أثناء، أو بدلًا من حرب طروادة. النقطة الهامة هي أنها تعود من مصر إلى أسبرطة (ويست ١٩٧٥: ٥). يخاطب الشاعر محبوبته بطريقة استعارية في سونيتة ٩٧ لشكسبير: «لشد ما يشابه الشتاء غيابي عنك» [ترجمة بدر توفيق]. في الميثولوجيا لربما كان غياب هيلين شتاءً بالمعنى الحرفي للكلمة. تتوافق الاختطافات المتكررة والأزواج؛ ثيسيوس، ومينلاوس، وباريس، وديفوبوس، وأخيل (الأسماء الخمسة الثابتة من مجموع عشرة أو أكثر) مع هذا المنطق. الشمس تختفي وتُستعاد، مرة تلو مرة (كلادر ١٩٧٦: ٨٢). الأسطورة على هذا النحو هي شكل من الأشكال المبكرة لعلم السببية.
جان بول سارتر يعتبر أنه لا وجود للحكايات الحقيقية (لأن كل الحكايات تُروى عبر وسيط. وهي تمثيلات، ويمكن للتمثيلات أن تبدو عبر التقليد كالحقيقة ولكنها لا يمكن أن تكون الأصل). إلا أن رؤية سارتر — كما يختلف إتش بورتر آبوت — لا تعني أن الحكايات زائفة (٢٠٠٢: ١٩). إن حكاية هيلين هي وصف حقيقي للقوى التي تدمر المدن والحضارات وتوحِّد المجتمعات والمجموعات. تذكر باربرا تكمان: «ما ترويه لنا عن الإنسانية هو أمر جوهري … إنها تحدثنا عن أنفسنا، بخاصةٍ عندما تغيب عنا العقلانية» (٢٠٠٥: ٤٣)؛ ويلحظ مايكل وود أن «الحكاية تؤثر فينا تأثيرًا كبيرًا إلى حد أنها يجب أن تكون صحيحة» (٢٠٠٥: ٤٦). يوضح آرثر في رواية «أيام دراسة توم براون» رأي وود: عندما طُلِب منه أن يترجم قِسْمًا من «الإلياذة»، وهو القسم الذي يصور نحيب هيلين على جسد هيكتور، لمرتين يتلعثم التلميذ عند السطرين الأخيرين من حديثها قبل أن يجهش بالبكاء (هيوز (بلا تاريخ): ٢٤٤-٢٤٥). إن دموعه هي إثبات لمقدار «تأثير الحكاية فينا» وانهياره مقبول عند المعلم وعند الراوي كاستجابة ملائمة للسطور معرِض السؤال. إن آرثر يستجيب لحقيقة هوميروس البشرية، لا التاريخية: للجزع، والخسران، والموت، والخوف، واللوعة. إن دموعه توضح قصد أرمسترونج من أن الأسطورة لا تنجح من خلال كونها حقيقية؛ إنها تنجح من خلال كونها مؤثرة (أرمسترونج ٢٠٠٥: ١٠).
(٧) الأصول
إذن من أين تجيء حكاية هيلين؟ أو، لنصوغها بطريقة أخرى، كيف تبدأ؟ لنجيب على هذه الأسئلة يتطلب الأمر استطرادًا في عوالم علم الأنثروبولوجيا وعلم الاشتقاق. يجب أن يُكتفى بتلخيصٍ موجزٍ هنا.
يُسمح لإلهات الخصوبة برفقاء وأزواج متعددين، إلا أنه مع تضاؤل العلاقة بين الأسطورة والدين (مما قاد إلى نظرية «الإله المتضائل» الملحمية، التي تقول بأن الأبطال المهجنين (نصف فانٍ، ونصف خالد) كانوا يومًا آلهة أدنى) فإن السمات الإلهية يُعاد استخدامها. هيلين ما زال لديها رفقاء متعددون ولكن يجري تبريرهم عبر سلسلة من الاختطافات ومحاولات الإغواء. خمسة هو عدد الرفقاء الذين كان لهم حظ منها إلا أنه — كما رأينا في الفصل السابق — هناك من يضاعف هذا الرقم.
فإن اخْتُطِفت هيلين باعتبارها ملكة (وليس كإلهة) و/أو ضُيِّق الخناق عليها جنسيًّا، فينبغي الآن إنقاذها. من المحتمل أن أخوي هيلين، الديوسكوري، كانا يومًا ما زوجيها: قد يكون دورهما كمغتصبين لخطيبتيهما في «الملحمة القبرصية» هو بقية باقية لدورهما الأسبق كزوجين لهيلين. عندما أصبحت هيلين — ابنة الشمس — ابنة زيوس (الذي هو أيضًا والد الديوسكوري)، لم يعد ممكنًا للديوسكوري أن يصبحا زوجيها. ويصبح مينلاوس وأجاممنون — اللذان ربما كانا في روايات سابقة زوجين، أو توءمين، أو شخصية واحدة — زوجًا وشقيقه. (تدعوهما الجوقة في مسرحية «أجاممنون» لإسخيلوس «التوءمان الملكيان لعِرْقنا المحارب، قائدان اثنان متحدان في المبتغى»؛ إسخيلوس ١٩٦٨: ٤٥.) يتوافق اتحاد هيلين السابق للبلوغ بثيسيوس مع هذا النمط. نشاط ثيسيوس السائد هو اختطاف أو اغتصاب النساء (وفي بعض الأحيان الزواج منهن) ومثال ذلك: أريادني، أنتيوب (أو هيبوليتا)، بيرسيفوني، هيلين، فايدرا. إلا أن صلة ثيسيوس بهيلين وبحرب طروادة هي صلة هامشية، ومن المحتمل أنه في وقت ما في القرن السادس قبل الميلاد — مع تمتع أثينا بمكانة بارزة كعاصمة للطوائف اليونانية الموحدة — كان ثَمَّة رغبة في إشراك أثينا وملكها الأكثر شهرة (من ناحية الأسطورة في الواقع ولكن يُعتقد أنه كان من القادة الأوائل) في حرب اليونانيين الأُممية الأكثر شهرة.
ليس لتطور الأسطورة وتطويعها تقدم خطيٌّ يمكن التحقق منه. وعلى الرغم من أن ثَمَّة صلة منطقية بين هيلين المختطفة وبين إلهة الخصوبة، فلا يوجد ارتباط معقول بين هيلين، إلهة الأشجار، وبين هيلين التي اختطفها باريس. لربما كانت أسطورة هيلين (في أيٍّ من تنويعاتها) سردية منفصلة وأصبحت بعد ذلك مرتبطة بأسطورة حرب طروادة. إضافةً إلى أن كل الشواهد على عبادة هيلين تلي زمنيًّا هوميروس (بولارد ١٩٦٥: ٢٢)، وفي هذه الحالة يجب أن نعرض كيف تطورت بطلة ملحمية إلى رمز ديني، وهذا تطور أكثر صعوبة في تفسيره عن تطور إلهة تتضاءل حتى تصير زوجة. مقصدي هنا يتمثل ببساطة في إيضاح الطبيعة الديناميكية للأسطورة، وهي ديناميكية تعوق دقة الدراسات النصية لمخطوطات متعددة لنفس النص.
(٨) الأسطورة والمغزى
نحن — حسبما تشير كارين أرمسترونج — مخلوقات باحثة عن المغزى (٢٠٠٥: ٢) والتساؤل الذي تطرحه أرمسترونج عن الأسطورة — ليس «ماذا حدث» ولكن «ماذا كان المغزى من حدثٍ ما» — هو التساؤل الذي أطرحه في هذا الكتاب من خلال التنقيحات الأدبية لحرب طروادة. وهو كذلك التساؤل الذي طرحه بومونت وفليتشر في «مأساة العذراء» (١٦١٠-١٦١١)، عندما تعيد واحدة من البطلات، أسبياشا، تأويل صياغة أسطورة ثيسيوس تأويلًا سافرًا لتلائم أهدافها.
رد أنتيفيلا هو كما قد نتوقع: الإنكار اللبق المشوب بالحذر «ليس كذلك بقدر ما أذكر» (٢. ٢. ٤٨).
تعترض أنتيفيلا قائلةً: «إن هذا سيُجْحِف بالقصة.» ولكن أسبياشا ترد: «بل ستجعل القصة، التي أجحف بها الشعراء العابثون، تحيا طويلًا ويصدقها الناس» (٢. ٢. ٥٨-٥٩).
يوضح هذا الحوار التصورات المتنازعة للقصة. فمن وجهة نظر أنتيفيلا أن القصة صادقة (فهي شيء يمكن أن يُجحَف به). من وجهة نظر أسبياشا أن القصة كاذبة، لقد سبق وأُجحِف بها، إذا كانت تتجنب الخاتمة الأخلاقية: فهي تعجز عن معاقبة غدر وخيانة ثيسيوس. ترغب أسبازيا في تحويل «الابتسامة الزائفة» التي لاحظتها على وجه ثيسيوس إلى البحر، ليصبح «مياهًا ضحلةً أَشِرة» فوق «رمال متحركة»، وهي، مع ذلك، لا تقول إن هذا «سيصوب» القصة (رغم أن ذلك هو المُتضمَّن) ولكن النهاية الجديدة ستجعلها تدوم و«يصدقها الناس». إن أسبياشا تتطرق إلى لب الأسطورة: لا يهم إن كانت حقيقية أم لا ولكن ما يهم هو إن كنت تؤمن بمصداقيتها.
بيد أن هذه الرؤية تُناقض المغزى من وصفها السابق لقصة أريادني/ثيسيوس بأنها شيء «مُجحَف به من قبل الشعراء العابثين.» فإن كان الشعراء قد زيفوا القصة، إذن كان ثَمَّة بالفعل شيء حقيقي ليُحرَّف. لربما يكون ذلك «الشيء» هو المصداقية الشعورية: فهي لاحقًا تنتقد أنتيفيلا لأنها لم تجعل أريادني شاحبة وحزينة، وتوجهها قائلة «اصنعيها على مثالي؛ اصنعيها ثانيةً على مثالي … وستجدين كل ذلك حقيقيًّا» (٢. ٢. ٢٥٦-٢٥٧). ترى أسبياشا حياتها كقصة، قصة شدتها الشعورية مقروءة بوضوح: «احكي عني كل شيء، اروي أنني منبوذة» (٢. ٢. ٧٠-٧١).
تنشغل أيضًا مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» بالتعديلات اللاحقة والسابقة للأسطورة. يقول أنطونيو، متطلعًا إلى اجتماع شمله مع كليوباترا في إليسيوم، إن حاشية دايدو وإنياس ستلحق بأنطونيو وكليوباترا بينما يهيمان في مروج أسفوديل (٤. ١٤. ٥٩–٦٢). هذا تعديل صارخ للأساطير. لا لأن دايدو وإنياس لم يلتقيا مطلقًا في إليسيوم فحسب، بل أيضًا لأن إنياس عندما يزور العالم السفلي في «الإنياذة»، تنبذه دايدو نبذًا واضحًا (مثلما نبذها سابقًا في قرطاج).
في مسرحية مارلو «تامبرلين (الجزء الأول)»، تُعَدِّل شخصياتُ المسرحيةِ الأسطورةَ تعديلًا إما بارعًا أو أخرق لتلائم أغراضهم. يُحوِّل تامبرلين أسطورة إيكاروس — وهي تمثيل مجازي نموذجي من عصر النهضة للرعونة والفشل — إلى صورةٍ للشموخ والجرأة (٤. ٢. ٤٧–٥٢)، ومن ناحية أخرى يقارن ميسيتيس محاولته لهزيمة تامبرلين بأسر باريس ﻟ «السيدة اليونانية» (١. ١. ٦٦)، وهي صورة مُسِفَّة وغير ملائمة من الناحية الجنسانية. تُظهر المسرحية أنك لا تستطيع استخدام الأسطورة استخدامًا ملائمًا (كحال ميسيتيس)؛ إذ ينبغي ببساطة أن تعيد صياغتها (كما يفعل تامبرلين)، وكما — لاحقًا — يفعل أنطونيو وأسبياشا. تشبه الأسطورة تعريف ساعي البريد للشِّعر في فيلم «ساعي البريد» (إل بوستينو): ليس ملكًا لمن يصنعه بل هو لمن يحتاجه. وقد تستلزم الحاجةُ التبديلَ؛ فالفرد يُؤَوِّل القصة ويستعملها ويعدلها، فيصوغ (أو يعيد صياغة) معناها.
(٩) المسببات
إلى أن يحافظ على تابعيه العسكريين عن طريق السخاء وذلك يعني تقديم الهدايا، والطعام، والضيافة، وقد يكون بالعطايا من الأراضي. استوجب عليه إطعام بلاطه الملكي وضباط هذا البلاط، وأن يجهز ويكافئ جيشه … ليفعل كل هذا، وليحافظ على ولاء جيشه، وعلى أصدقائه راضين وأعدائه مقهورين، احتاج لأن يستولي على أراضٍ، ورقيقٍ، ونساءٍ، وثروات، ومغانم. (وود ٢٠٠٥: ١٨٠)
كانت الحرب الميسينية بالأساس عملية قرصنة: فكان مبتغاهم المناوشات المصحوبة بالنهب. كانت النساء والرقيق مآرب وأغراضًا هامةً؛ إذ عززت أعمال السخرة من الاقتصاد الداخلي. اشتهرت طروادة بالصوف، والغزل، والمنسوجات، وتربية الخيول، وصناعة الفَخَّار (وود ٢٠٠٥: ١٩٠). احتاجت موكناي اقتصاديًّا للحرب. وكانت طروادة هدفًا بديهيًّا. قصائد العصور الوسطى المدونة عن طروادة تُظهِر، بواقعية تفصيلية، كيف يمكن لمثل تلك الحرب أن تدوم عشرة أعوام: فالقتال لا تتخلله فترات راحة، وتَعافٍ، وتفاوض على الشروط بشأن الأسرى، والطقوس الجنائزية فحسب، ولكن أيضًا تتخلله غارات يونانية إلى آسيا الصغرى للنهب والسلب (ماشية، ومحاصيل، ونساء). حرب طروادة بوصف أدق كانت حصارًا (كما يشير عنوان قصيدة العصور الوسطى «حصار طروادة»)، يتخلله معارك من حين لآخر.
أدرك أن قراءة واقعة حرب طروادة بمجملها قد تغيرت.» أقول لها أن تخلع بعضًا من رداء الكِبْر والخُيلاء. «يظنون في الوقت الحاضر أنك كنتِ مجرد أسطورة. وأنها كانت تتمحور برمَّتها حول طرق التجارة. ذلك ما يقوله الباحثون. (أتوود ٢٠٠٥: ١٨٧)
إن هيكتور في مسرحية جيرودو ملتزم بإعادة هيلين إلى اليونانيين. ومثل شخصية أسبق لهيكتور — هيكتور الشكسبيري في «ترويلوس وكريسيدا» — هو لا يريد الحرب. وبينما تُظهر مسرحية شكسبير بجدية ضآلة قدرتنا على منع الحرب عن طريق رفضها (هيكتور في مسرحية شكسبير مُذعنٌ لارتكاب أعمال تخالف معتقداته الأخلاقية منذ الفصل الثاني)، يحاول هيكتور في مسرحية جيرودو باستمرار أن يعيد هيلين حتى تتصاعد الأحداث إلى ما يفوق سيطرته في الفصل الأخير.
لقد عاد هيكتور إلى الوطن منتصرًا إلى زوجته التي يعشقها. يبتدئ النمر أن يستفيق، ويفتح عينًا واحدةً. يرقد المعضولون خارجًا في الشمس على أرائكهم ويشعرون أنهم خالدون. يتمطَّى النمر. اليوم هو الفرصة «للسلام» لتتوج نفسها على العالم أجمع. النمر يلعق شفتيه. وأندروماك سيصير لها ابنًا! والفرسان قد بدءوا يميلون من سروجهم ليداعبوا ذكور القطط على شرفات الحصون! بدأ النمر يجوس. (جيرودو ١٩٥٥: ٣)
لا يقتصر الأمر فحسب على أن الأنشطة والتصرفات الطروادية لا صلة لها بالحرب، بل إن الطرواديين أنفسهم عازمون على السلم. حب الزوجات، الاستلقاء في الشمس، الحمل، جنود يداعبون القطط. والدافع للحرب يتخذ مسارًا ذاتِيَّ التَّحْفيز. وحتى قبل نهاية المسرحية باثني عشر سطرًا لا يزال هيكتور يقول مصرحًا: «الحرب لن تحدث.» وعلى الرغم من أن مدير خشبة المسرح يتقبل جليًّا هذا كتكليف (إذ يبدأ في إنزال الستار، مُؤَوِّلًا إعلان هيكتور على أنه الجملة الأخيرة للمنتصر)، يتمكن ديموكوس المحتضر وهو في النفس الأخير من أن يُلقي بإفكِ تبعةِ قتله على اليونانيين، ضامنًا بذلك، كما يقول هيكتور الآن بعدم اكتراث: «الحرب ستحدث» (٧٤).
إن افتقار هيلين للحب تجاه باريس مُسلَّم به عمليًّا طوال المسرحية وتقر به جميع الشخصيات (عدا باريس). تقول كساندرا موضحة: «لقد أصبحا الآن نوعًا من رمزية التفاني في الحب. لكن لم يعد يتعين عليهما أن يتبادلا الحب» (جيرودو ١٩٥٥: ٢٣). مقاربات ترويلوس الخرقاء المراهِقة لهيلين تُصور على أنها ولع بالحرب. يستهزئ باريس بالمراهق لافتتانه بهيلين، ويعرض عليه خيارَ أن يصبح مشهورًا بأن يُقَبِّل هيلين في العلن. يرفض ترويلوس على نحو أخرق غير أنه لاحقًا يتقبل الخيار. في نهاية الفصل الثاني، ومع توقف ستار المسرح النازل في منتصف المسافة، تُشرَّع بوابات الحرب لتنكشف عن ترويلوس وهو يقبِّل هيلين. وجه التشابه مع نهاية الفصل الأول واضح. ترويلوس لا يُقبِّل هيلين كامرأة: إنه يُقبِّل الحرب وفرصة الشهرة. لا يستطيع هيكتور أن يمنع الحرب لأن الناس مغرمون بها.
(١٠) الإنهاء (التطويق)
لا تعيش الأساطير حياة منعزلة أبدًا: كما يقول كالاسو «القصص لا تحيا أبدًا وحدها.» أريد أن أتناول سعي مينلاوس من أجل زوجته في طروادة كتنويع على بحث ثيسيوس (العرَضي، وليد الصدفة) عن عروس في كريت. يجب على ثيسيوس هزيمة المينوطور، المخلوق الموجود في وسط المتاهة الكريتية، وهي مهمة مستحيلة، لأسباب من أهمها صعوبة عثوره على طريقه للخروج من المتاهة. تعطيه أريادني ابنة مينوس — التي وقعت في حب ثيسيوس — حبلًا رفيعًا ليجد طريق العودة، وقد «تزوجها كمكافأة» (كما يقول فابيان شخصية شكسبير في مسرحية «الليلة الثانية عشرة») (٥. ١. ٣٦٤). تتجاوز الروابط مع كريت مجرد كونها ذات صلة بالموضوع: كلمة «طروادة» يمكن ربطها (عن طريق السمع إن لم يكن من الناحية الاشتقاقية) بكلمة تعني «متاهة». تظهر تلك الكلمة على إبريق نبيذ يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد ﮐ «عنوان لتصوير المتاهة» (هابينيك ٢٠٠٥: ١٨).
تشتهر أسماء المكان بصعوبة الاشتقاق منها والاشتقاق من كلمة «طروادة» غير واضح. في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أُجريت محاولات لربط «طروادة» بكلمات لاتينية تعني تطويق أو التفاف («تروا» و«ترويلا»: تعنيان «مغرفة»، «تجويف»، «حوض»). يلخص جاك ليندساي هذه الحجج ويطورها (١٩٧٤) وعلى الرغم من أن جهوده لربط «طروادة» بالالتفاف والتطويق الجنسي والمعماري معًا ليست دائمًا مقنعة من الناحية الاشتقاقية غرائزه مثيرة للاهتمام من ناحية الصلة بالموضوع الرئيسي ويحتمل صحتها: إذ تلقت مؤخرًا دعمًا مستقلًّا من توماس هابينيك (٢٠٠٥). يبدو أن مدينة الملك بريام كانت مشيدة على هيئة صفوف من الشوارع والبوابات والطرقات والأبراج. الأسطورة الطروادية هي تكرار معدل لأسطورة المينوطور. كلمة «ترويا» الإتروسكانية (لا ذكر لها عند ليندساي) تعني متاهة (انظر أيضًا واسو ١٩٨٨: ٥٤٩). قد لا «تعني» «طروادة» هذه الكلمات ولكنها ترتبط بهم سماعيًّا.
تربط الألواح البابلية — التي ترجع إلى حوالي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد والتي بحثها ليندساي وهابينيك — بين الأشكال الحلزونية المتداخلة وبين الأمعاء والعكس صحيح. وينتقل هذا الارتباط بالأحشاء إلى جزء داخلي آخر من الجسد: المهبل. فاختراق طروادة من أجل جلب (استرجاع) زوجة هو طقس انضمام، انخراط في الرجولة. وهذا صحيح ليس فقط فيما يختص بالانتصار الجنسي لمينلاوس المنتصر ولكن من ناحية موت العديدين الذين ساعدوه؛ فالحرب والجنس هما من الناحية الثقافية طقسان متماثلان للانتقال، حلبتان مزدوجتان يصبح فيهما الصِّبية رجالًا.
الرابطة الصوتية هي بالتالي بين كلمات تعني يحيط، ويلتف، ويطوق، ومتاهة، وتيه، وأروقة وممرات جنسية ومعمارية. الرأي القائل بأن كلمة «طروادة» ترتبط بالإنهاء (التطويق) يعيدنا إلى بداية هذا الفصل والمناقشة التي وردت فيه حول محاولة إغلاق الفجوة السردية؛ في سلسلة الملاحم وفي القراءة عمومًا. إن أخذ هيلين إلى طروادة يعني حرفيًّا نقلها إلى موقع إنهاء. لقد قدمت الحجج التي تفيد أن محاولات رواية حكاية هيلين هي دائمًا محاولات لإيجاد نهاية، إلا أنه في هذا الموضع يبدو أن إبعادها إلى طروادة لا يمثل إنهاءً لحكايتها ولكن لشيء آخر. فالأساس الذي يتطلب أن يُحتوى يسبق في وجوده الاختطاف. ذلك الشيء الآخر في رأيي هو الجمال؛ موضوع الفصل الثاني.