اختطاف هيلين
من البديهي أنه لا يوجد فتاة تسمح باختطافها إن كانت لا ترغب في أن تُختطف. (هيرودوت، «التاريخ»)
(١) اللحظات المفقودة
إذا كانت حكاية هيلين هي حكاية الجمال، فهي أيضًا حكاية الاغتصاب. كما تكتب ليندا لي كلادر: «أكثر ما تشتهر به هيلين هو الاغتصاب، وثانيًا … الزواج» (١٩٧٦: ٧١). مثل الجمال، ولكن لأسباب مغايرة، الاغتصاب هو موضوع لا يمكن تمثيله بسهولة. توضح سيليا ديليدر أن دراستها «الإثارة الجنسية في مرحلة النهضة» بدأت بفجوة في النص. أثناء قراءتها لمسرحية ميدلتون «فلتَحْذَر النساءُ من النساء» كانت ديليدر منزعجة من تسلسل الأحداث الذي يجسد «ذكرًا شهوانيًّا وأنثى مُقاوِمة يلتقيان على خشبة المسرح، فيتصارعان لهنيهة، ثم يغادران خشبة المسرح، ويعودان بعد حوالي ثلاث دقائق وبعد صرخة قصيرة مفاجئة واحدة، ولم يصرحا لا بكلمة «اغتصاب» ولا بكلمة «غواية»» (١٩٩٨: ١). هذا الغياب تتسم به كل سرديات الاغتصاب الأدبي فيما قبل القرن العشرين. في النصوص التي يغطيها هذا الفصل، يقع الاغتصاب خارج خشبة المسرح، أو في المساحة الفارغة بين المقاطع الشعرية، أو في عبارات مبهمة، أو يُعَبَّر عنه من خلال شخص أو مشهد بديلين. في مسرحية «تيطس أندرونيكوس»، على سبيل المثال، لا يستطيع شكسبير تقديم اغتصاب لافينيا ولكنه يستطيع أن يقدم لنا ما ينوب عنه: منظرًا طبيعيًّا مُوحيًا يُقَدَّم فيه على خشبة المسرح مشهد قتل بسيانوس، وهو عبارة عن حفرة مظلمة أو تجويف، تسترها شجيرة، ولُطخت الهوة/الحفرة بالدماء (بعد الفعل العنيف). أخذًا في الاعتبار أن الغياب هو سمة للسرديات التي تتناول هيلين؛ سواء غياب الفاعلية، غياب العمق، غياب التفصيل الجمالي؛ فأن يصاحب سمعتها (أو سوء سمعتها) فعل لا يمكن تصويره، هو أمر يضاعف من صعوبة رواية قصتها.
وهكذا فإن الاغتصاب يُجَسِّد المأزقين الروائيين الشائعين للسرديات التي تتناول هيلين — وهما الغياب والإبهام — في صيغة محددة. هذا الفصل سيستكشف غيابين محددين مرتبطين بالاغتصاب؛ هما غياب الموافقة وغياب الفاعلية، إلى جانب إبهام اللغة، من ناحية القواعد الأساسية والتراكيب الشعرية في محاولاتها لتجسيد أو إخفاء هذين الغيابين. كل هذه الاعتبارات متضحة في النصوص التي تتناول هيلين (تمامًا مثلما أن هيلين مستخدمة كمثال في النصوص القانونية) إلا أنها تُنقل من هيلين إلى نساء أخريات (بريسئيس، كريسيدي). ومن ثَمَّ فهذا الفصل ينفذ فعل الاختطاف الخاص به، مبتعدًا عن اغتصاب هيلين من حيث كونه حدثًا استهلاليًّا في حرب طروادة إلى النظر في النساء ووقائع الاغتصاب القريبة والمشتركة في السياق، والاستبدال الكِنائي، والعلاقة بين الأدب والقانون.
(٢) هوميروس، «الإلياذة»
وهكذا تُستهَل «الإلياذة» بالعديد من موضوعات هذا الفصل وهي: الغياب، الإبهام، الاستبدال. إنها تبدأ باختطاف امرأة بيْد أن تلك المرأة ليست هيلين؛ فهي تُقدِّم لفكرة تضارب الفاعلية: فمفردات الاغتصاب منطبقة في هذا الموضع على أخيل الذي يتسم بالسلبية، كما أنه مُكره، ومنعدم الرغبة على الرغم من تعاونه. وتُحِل «الإلياذة» خريسيس محل بريسئيس، مُستخدمةً أسلوبًا سرديًّا سيصبح معتادًا في سرديات الاغتصاب اللاحقة التي تتناول هيلين: وهو الإحلال.
المؤرخ هيرودوت (المولود في نهايات القرن الخامس قبل الميلاد في آسيا الصغرى) يضم هذه الموضوعات في مقدمته لكتابه «التاريخ» بيْد أنه أيضًا يبسطها، مهيِّئًا تاريخًا سياقيًّا (يوضح الظروف والملابسات المحيطة) للاغتصاب. من وجهة نظره فإن اختطاف هيلين الذي يؤدي إلى حرب طروادة هو نتاج سلسلة من حالات الاختطاف. إذا زرت أي صالة عرض للفنون في وقتنا الحاضر، فهناك احتمالات كبيرة أن تعثر على منظر جماعي يحمل اسم «اختطاف هيلين»، بيْد أن احتجاز هيلين هو فقط حالة واحدة من سلسلة من حالات الاختطاف ذات الصلة، ولو أنه يصدف أن هذه أشهر تلك الحالات. يؤرخ هيرودوت هذه الحالات ذات الصلة وسياقها السابق على واقعة طروادة؛ وهو سياق يكشف عن أن الجريمة المرتكبة ضد هيلين/أسبرطة — مثلما هو الحال في حروب كثيرة — لم تكن حدثًا سببيًّا منفصلًا بل كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، والباعث (أو الذريعة) الذي تلا تاريخًا من الأعمال العدائية السابقة عليه. إلا أن المثير للاهتمام في هذه الحالة هو أن الأعمال العدائية السابقة — رغم تعددها — هي كلها من نوع واحد: وهو الاغتصاب.
(٣) هيرودوت، كتاب «التاريخ»
يحدد هيرودوت غايته السردية في الفقرة الأولى من كتابه «التاريخ»، مُقَسِّمًا غايته العامة («الاستجلاءات للتاريخ») إلى غايتين فرعيتين أكثر تحديدًا: أن يسجل الإنجازات «التي من جانبنا ومن جانب الشعوب الآسيوية على السواء»، والثانية «إظهار ملابسات تورطهم في النزاع» (١٩٦٥: ١٣). ويؤرخ في الصفحات التالية لسلسلة من اعتداءات «مُتبادَلة».
عند هذا الحد كان ينبغي أن ينتهي الأمر بهدف سُجِّل في كل فريق، فاختطاف اليونانيين لأميرة آسيوية يكافئ أو يُبطل اختطاف الآسيويين لأميرة يونانية. بيْد أن اعتداءً ثالثًا يستتبعهما، لا يبدؤه الفينيقيون (مثلما قد يتوقع المرء) بل اليونانيون؛ إذ يختطف بحارة يونانيون مسلحون ميديا، ابنة ملك كلوتشيز. وعندما يطلب الملك «تعويضات وعودة ابنته»، قيل له بشكل قاطع إن «اليونانيين لم يكن لديهم نية تقديم تعويض، كونهم أنفسهم لم ينالوا أي تعويض على اختطاف أيو من أرجوس» (١٩٦٥: ١٤). إن موازنة اليونانيين التي لا غبار عليها في هذا الشأن من الناحية النظرية — ميديا مقابل أيو — تُخفي بين طياتها تفكيرهم السفسطائي (القائم على الخداع والمغالطة): فعدم حصولهم على تعويض عن أيو هو اعتراض في غير محله؛ لأن اليونانيين في حقيقة الأمر قد حصلوا على التعويض جبرًا باختطافهم لأوروبا.
بعد حوالي أربعين إلى خمسين عامًا، أوحت هذه القصص لباريس بن بريام أن يستلب لنفسه زوجة من اليونان، وهو متيقن من أنه لن يكون مجبرًا على أن يلقى جزاءً على المجازفة أكثر مما كان اليونانيون قد لقوا. وهكذا انتهى به الأمر لأن يخطف هيلين. (١٩٦٥: ١٤)
يعيد التاريخ نفسه ثانيةً؛ إذ يُقابَل طلب اليونانيين بعودة هيلين وبتعويضات بالرفض مع الإشارة إلى واقعة سابقة: «اختطاف ميديا والضيم الناتج عن انتظار تعويض من أناس كانوا هم أنفسهم قد رفضوا أن يقدموه، فضلًا عن حقيقة أنهم كانوا قد احتفظوا بالفتاة» (١٤).
إن هيرودوت متفائل بشأن هذه الوقائع السياسية الدولية: «حتى الآن لم يكن هناك أمر أسوأ من استلاب النساء من الجانبين» (١٤). يوحي موقفه الإيجابي إلى معادلة ذات أربعة اتجاهات: فأوروبا تكافئ أيو، وهيلين تكافئ ميديا. إلا أنه كما يشير تيموثي لونج (١٩٨٧: ٤٨)، فإن أوروبا، وأيو، وميديا هن جميعهن أميرات عذراوات غير متزوجات، بينما هيلين هي زوجة وملكة. من ثم تصبح المعادلة غير متوازنة عندما يستلب باريس هيلين.
إن كتاب هيرودوت هو قصة عن أصول الصراعات. وهي كذلك قصة القصص. فاختطاف باريس (لهيلين) «مستوحًى من هذه القصص» من أيو وأوروبا. ومما أوحى إليه أيضًا هو حقيقة أن هذه القصص بلا نهاية، وبلا عاقبة (أخلاقية كانت أو أدبية)؛ فهو «متيقن من أنه لن يكون مجبرًا على أن يلقى جزاءً على المجازفة أكثر مما كان اليونانيون قد لقوا.» تظهر رواية هيرودوت للوقائع ما يرويه الفرس والفينيقيون على السواء. فأيو قد جرى اختطافها في رواية الفرس عن العداوة بين اليونان وآسيا. بيْد أن الفينيقيين لديهم رواية مختلفة، وهي رواية تُنكر حكاية الاختطاف: «على النقيض، فبينما كانت الفتاة ما زالت في أرجوس أقامت علاقة مع قبطان السفينة، واكتشفت أنها حبلى، ثم خجلًا من مواجهة والديها، أبحرت بمحض إرادتها بعيدًا هربًا من افتضاح أمرها» (١٩٦٥: ١٥). في هذه الفقرات القليلة السريعة يوجز هيرودوت ثلاث موضوعات متكررة في السرديات التي تتناول هيلين. فهذه قصة اختطاف. لربما كان الاختطاف عن إرادة أو بإكراه. واختطاف هيلين ليس هو الاختطاف الوحيد.
إن أي رواية عن الاغتصاب هي أيضًا قصة فاعلية (مثلما في الوقت الحاضر، حيث يكون السؤال الرئيسي في محاكمات الاغتصاب هو: هل وافقت المرأة؟) أود أن أركز على نقطة واحدة فيما ذكره هيرودوت: وهو تأكيده على الفاعلية الأنثوية في الاختطاف المزعوم؛ فهو يتحول إلى زمن المضارع ليخبرنا أن النساء لا يمكن أن يُختطَفن بغير إرادتهن. ويخبرنا أن — من وجهة نظر الفينيقيين — هناك امرأة واحدة على الأقل (أيو) غادرت اليونان «بمحض إرادتها» لإخفاء حقيقة كونها مارست الجنس بطريقة محرمة. أيضًا يضفي الفينيقيون الفاعلية على نسوة أيو اللواتي ينخرطن في تمضية الوقت في الشراء في السوق الفينيقي، «يشترين ما استهواهن» (١٩٦٥: ١٣). هؤلاء النسوة «يتعاملن فيما يرغبن» (لونج ١٩٨٧: ٤٦). ولكن ما أنواع البضائع التي نحن بصددها؟ إن الفاعلية في هذا الموضع تُؤَوَّل على أنها فاعلية في موضع آخر.
إن موضوع موافقة الأنثى، ودوره في القصص التي تتناول هيلين بالنسبة لحالات الاغتصاب المتعددة، هو ما سنركز عليه في بقية هذا الفصل.
(٤) تشوسر والثغرات السردية
أحد هذه المواقف يحدث في حفلة عشاء في منزل الأمير ديفوبوس، شقيق ترويلوس المفضل (ولاحقًا زوج هيلين بعد موت باريس). السبب الظاهر للعشاء هو أن كريسيدي — كضيفة — قد تفاتح مضيفها ديفوبوس وتطلب حمايته في دعوى قضائية رُفعت ضدها. (كريسيدي تنعم بالثراء، كونها أرملة، وهذه الدعوى القضائية المرفوعة ضد حيازاتها لأراضٍ من الواضح أن لها وجودًا سابقًا، إلا أن التهديد الحالي الواقع منها هو اختلاق من باندار.) أما السبب الحقيقي للعشاء فهو تهيئة فرصة لترويلوس لمقابلة كريسيدي في خلوة. يتغيب ترويلوس الذي يعاني من الحمى عن الطعام ويذهب إلى الفراش. تزوره عائلته ولكن لأن «الغرفة صغيرة» (٢. ١٦٤٦) يستبعد باندار ابنة أخته/أخيه. بعد ذلك يبعث ديفوبوس وهيلين إلى الحديقة ليَقْرَآ خطاب عمل يحتاج هيكتور النصح بشأنه، ويحمل كريسيدي على الموافقة على زيارة ترويلوس المريض والتسرية عنه بعد أن انتهت زيارة العائلة.
هيلين طوال العشاء المتقدم الذكر هي مثال للكياسة والعطف. هذه هي هيلين في البيت: مُضيفة، وتبتدئ الأحاديث (٢. ١٦٠٥، ١٦٢٥–١٦٢٧)، وتمسك يد كريسيدي (٢. ١٦٠٤)، وتُسرِّي عن ترويلوس (٢. ١٦٧٢-١٦٧٣)، وتُشِع تعاطفًا (٢. ١٥٧٦-١٥٧٧). بيْد أن هناك تيارًا خفيًّا من التوتر الجنسي، باديًا لأي قارئ يعرف بزواجها الذي سيقع في وقت لاحق من ديفوبوس. عندما يقترح ديفوبوس العشاء مساندةً لكريسيدي، تكون أول خاطرة تراوده هي أن يدعو هيلين لأن لديها نفوذًا على باريس. ولكن كما يتساءل باسويل وتايلور: «لماذا لا يدعو باريس نفسه فحسب؟» (١٩٨٨: ٣٠٧).
يتشكك أنتينور تشككًا فطنًا عما إذا كان ممكنًا لأسيرة أن «تلقى سرورًا من آسرها»، إلا أن تيلامون «وهو ينتزع قبلةً غير مرغوب فيها من هسيونيه الباكية»، يجيب قائلًا: «إنني استحققت بسيفي الحق في الاستمتاع بمعانقتها» (٨٥).
يقدم تشوسر في الكتاب الثالث من مسرحية «ترويلوس وكريسيدي» لحظة ذات صلة عن التوتر الجنسي والإرغام: هذه اللحظة ليست بين ترويلوس وكريسيدي ولكن بين كريسيدي وخالها/عمها. فعلى النقيض من نص جوزيف، يتصف نص تشوسر بالإبهام والإغفال، وتحديدًا ما لا يبوح به هو ما يثير انتباهي في هذا الموضع. فلنتأمل في كيفية تمهيد تشوسر للحدث.
في الكتاب الثالث يبدو وكأنه هو نفسه يخوض في مغازلة أو نشاط يرتبط بسفاح القربى مع ابنة أخته/أخيه كريسيدي. لا يقول تشوسر أي شيء عما حدث بين الخال/العم وابنة أخته/أخيه في الفراش مثلما لم يقص علينا ما حدث بين ديفوبوس وهيلين في العريشة. ولكنه يلفت انتباهنا إلى ما لا يقوله («إنني أغض الطرف عن كل ما ليس منوطًا بي قوله»؛ ٣. ١٥٧٦)، أو إلى ما لا يمكن قوله.
إن وجهة النظر المنتشرة في الوقت الحالي أن بانداروس في هذا الموضع يغوي كريسيدي أو يغتصبها، أو أن تشوسر يلمح إلى هذا الفعل، هي وجهة نظر لا أساس لها وغير معقولة. على سبيل المثال، الملاحظة المنشورة في عام ١٩٧٩ التي يرد فيها أن «النقد قد تجاهل إلى حد بعيد أو فشل في تقدير إيحائية هذا المشهد» هي ملاحظة مغلوطة؛ فالكثير قد كُتِب عن «إيحائية» هذا المشهد. (تشوسر ١٩٨٧: ١٠٤٣، ملاحظة عن «ترويلوس وكريسيدي». ٣. ١٥٥٥–١٥٨٢.)
إن بارني لشديد الحماسة في اعتراضه، وشديد الإصرار على أنه ليس هناك شيء، حتى إنه يفشل في أن يورد تنويهًا إلى المصدر المقتبس منه رأي عام ١٩٧٩ الذي يحتج عليه. إن هذا المزيج بين الحضور التحريري (النبرة الصاخبة) وافتقاد الأسلوب الأكاديمي (الافتقار إلى مرجع) لا يشير إلى الإنكار فحسب بل إلى فشل من الناحية التحريرية (ترنر، بناءً على اتصال شخصي).
إن كريسيدي (التي سيُطلَق عليها لاحقًا كريسيد أو كريسيدا في أوائل العصر الحديث) ذات صلة بأي استكشاف «لاغتصاب» هيلين طروادة لأنها ترتبط ارتباطًا مستمرًّا باسم وسلوك هيلين طروادة. وفي الواقع إنه في أوائل العصر الحديث كان اسما «كريسيدا» و«هيلين» اختزالًا باستخدام أسماء أعلام بطريقة تبادلية للدلالة على نوعية المرأة الخليعة جنسيًّا. في «قصر بيتيت لمتعة بيتي» (١٥٧٦) لجورج بيتيت، تصد بروكريس المتزوجة متوددًا غير مرغوب، متحديةً افتراضه أنها متاحة جنسيًّا قائلةً: «إنك لا تصاحب «كريسيد»، وليس في متناولك «هيلين».» والأكاديميون المعاصرون — شأنهم في ذلك شأن بيتي — ينظرون إلى كريسيدا وهيلين على أنهما شخصيتان متشابهتان أو مرتبطتان، سواءٌ أكانوا يكتبون عن تشوسر أو شكسبير. فمن وجهة نظر صندوول، أن هيلين عند تشوسر هي «شخصية معاكسة لكريسيدي» (١٩٧٥: ١٥٥)، وهي من وجهة نظر باسويل وتايلور «مرآة» و«مثال» لكريسيدي (١٩٨٨: ٣١٠)، ومن وجهة نظر رتر هي «توءم كريسيدا المشوه» (٢٠٠٠: ٢٢٩). في مسرحية شكسبير «الأمور بخواتمها» يقرن المهرج بين البطلة التي تحمل اسم هيلين وبين سميَّتها هيلين طروادة، مغنيًّا أغنية شعبية مشهورة: («قالت «أكان هذا الوجه الجميل هو السبب»، «في أن اليونانيين خربوا طروادة».» ١. ٣. ٧٠-٧١)، لكن نديم الملك لافو يقرنها بكريسيدا (تاركًا إياها مع الملك، يقول معلقًا: «أنا (مثل) خال/عم كريسيد، الذي لا يقلقه أن يترك الاثنين معًا») (٢. ١. ٩٧-٩٨). إن هيلين وكريسيدا مرتبطتان باستمرار.
باستثناء كتب العصور الوسطى عن طروادة — التي تعرض اللقاء بين هيلين وباريس في أسبرطة (أو كيثيرا) بتفصيل وافر — نجد أن معظم السرديات التي تتناول هيلين تضعها في طروادة. وذلك هو الموضع الذي تبدأ فيه قصتها عند تشوسر، وهو الموضع الذي تبدأ فيه قصص «الاغتصاب» من الناحية القانونية: «أعْنِي «بعد» الفعل» (كانون ٢٠٠١: ٧٨). ليس القانون مهتمًّا بالدافع، أو العاطفة، أو الإقناع، أو الغواية، أو التردد، أو تعارض الولاءات الشخصية، أو الممانعة، أو الخوف، أو الندم، أو السعادة (بأي ثمن كان)، أو الموافقة أو الظروف التي قد تكون مُنِحت بموجبها أو أُخِذت قسرًا. أما شكسبير فهو مهتم بكل تلك الأمور. ونجد أن مسرحيته «ترويلوس وكريسيدا» التي تعالج حرب طروادة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأعمال الأدبية بدءًا من هوميروس ومن تلوه، لا تصور البدايات؛ إن مسرحيتنا «تضرب صفحًا عن المناوشات الأولى لتلك المعارك وما أثمرت من نتائج./مبتدئة من عباب الملحمة» (الاستهلال ٢٧-٢٨) [ترجمة د. عبد الحميد يونس]. بيْد أن ذلك لا يعني أن شكسبير يهمل تلك البدايات. فمن خلال شخصية كريسيدا، نجده يستجلي موقف هيلين، كاتبًا مشهدًا فيه تُنزَع امرأة من أحد الرجال في مدينتها (ترويلوس في طروادة) وتئول إلى آخر (ديوميديس في المعسكر اليوناني). وهو بذلك يقدم إعادة تمثيل للظروف التي قد تكون غيرت فيها هيلين ولاءها نحو الاتجاه الآخر، من اليونان إلى طروادة.
(٥) هيلين وكريسيدا
منذ البدء تُعادل شخصيتَي شكسبير هيلين وكريسيدا: فبانداروس يقول إن كريسيدا «جمالها يوم الجمعة كجمال هيلين يوم الأحد» (بعبارة أخرى، إن هيلين في أفضل أيامها وهو يوم الأحد تماثل في جمالها كريسيدا في كل الأيام) (١. ١. ٧٦). عندما يصف خادم باريس هيلين في المشهد الأول من الفصل الثالث، يفترض بانداروس من الوصف أنه يتحدث عن كريسيدا:
يشير ترويلوس إلى كلٍّ من المرأتين بوصفها «لؤلؤة». وفي إنتاج ١٩٦٨ لفرقة شكسبير الملكية، كان يصعب التمييز بين المرأتين بصريًّا، وكانتا تسخران من حرب خيضت من أجل واحدة منهما، وتوضحان افتراض المسرحية وهي أن القيمة ذاتية لا موضوعية.
إن المواقف والإغراءات التي تتعرض لها هيلين وكريسيدا هي مواقف وإغراءات متماثلة. وكل من المرأتين لديها هُوِيَّة مزدوجة: فهيلين يونانية، تعيش في طروادة، وكريسيدا طروادية، استدعاها والدها إلى الأرض اليونانية. وكلٌّ من المرأتين يحبها يوناني وطروادي. ومثلما يلاحظ باسويل وتايلور على مسرحية تشوسر «ترويلوس وكريسيدي»، يضع الرجال كريسيدا في موقف تصبح فيه «مُحتمًا عليها أن تخون شخصًا ما»: فتمسكها بترويلوس يعني أن تخون والدها، وأن تذهب إلى اليونانيين يعني أن تخون ترويلوس. إن اختياراتها تعني «أنها يتحتم عليها أن تكون هيلين بأيٍّ من الحالتين» (١٩٨٨: ٣١٠).
وأفضل موضع يتجلى فيه ذلك الأمر هو المشهد الذي تُسلَّم فيه كريسيدا في مسرحية شكسبير إلى المعسكر اليوناني. فالموقف الذي تتعرض له كريسيدا يعيد تكرار موقف هيلين: امرأة جميلة تُجبر على أن تهجر رجلًا (مينلاوس/ترويلوس) وتنقاد إلى غريب (باريس/ديوميديس). ومع أن تورط هيلين في اختطافها لم يكن بأي حال من الأحوال متيقنًا، إلا أن جرمها حسب كتابات أوائل العصر الحديث كان أمرًا مفروغًا منه: فعلى سبيل المثال، أوجب اختبار مدرسي لمهارات النقاش لدى التلاميذ على الطلاب أن يناقشوا موقف هيلين «ما لها وما عليها» (قارن كولي ١٩٦٦: ٨-٩). يشبه لانكستر في مسرحية مارلو «إدوارد الثاني» جافستون بأنه مثل «البغيِّ اليونانية؛ درَّب على الأسلحة/والحروب الدامية الكثير من الفرسان الصناديد» (٢. ٥. ١٥–١٧). تُقرِّع إيميليا لانييه هيلين على غياب الفضيلة في «سلام عليك يا رب يا ملك اليهود» (الأبيات ١٩٠–١٩٢). تندد البطلة الشكسبيرية لوكريس بهيلين واصفةً إياها بأنها «البغيُّ التي ابتدأت هذا الاضطراب» («اغتصاب لوكريس» ١٤٧١). مع ذلك ليس شكسبير متسرعًا في إصدار الأحكام كبطلته الرومانية. فنجده يصوغ في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» المشهد الذي تُسقِطه كل سرديات المرحلة المبكرة من الحقبة الحديثة التي تتناول هيلين: مشهد الانتقال بين الوطن وخارج البلاد. تعرض كتب العصور الوسطى عن طروادة بإسهاب للإغراءات وتأرجح المشاعر اللذين تتعرض لهما هيلين، ولكن شكسبير يستبدل الشد والجذب العاطفي المبالغ فيه بعض الشيء لدى تلك الكتب بالصراع المعقد عند كريسيدا.
تجنح كريسيدا إلى حارسها في المعسكر اليوناني ديوميديس، ولكنه يسيء استخدام منصبه. فيضغط عليها كي تعطيه عربون المحبة من حبيبها الطروادي، علامةً على انتقال حبها من ترويلوس إلى ديوميديس. ويتجاهل إحجام كريسيدا الظاهر، وألمها، وتأرجح مشاعرها، مستخدمًا طريقة بسيطة؛ الغضب جاعلًا بذلك من الحدث موقفًا للتمنع الذكوري بدلًا من كونه مجاراة أنثوية. تتجه غريزة كريسيدا نحو إيقاف غضبه مهما كلف الأمر. فتقول لديوميديس: «كلا، ولكنك تنصرف مُغْضَبًا» (٥. ٢. ٤٤)، ويسأل ترويلوس (الذي يستمع خلسة إلى المشهد): «أهذا يحزنكِ؟» وإن تأويله لخاطئ. إن هذا لا يُحزن كريسيدا، بل يخيفها. يكرر الحوار بين ديوميديس وكريسيدا نمطًا واحدًا طوال المشهد: تثبت طلبها بجرأة، فيتنكر في غضبٍ بادٍ، فتُذعن بشروط. يكون ديوميديس على وشك الرحيل مرات عديدة في المشهد، ولكن لا يمكن لكريسيدا أن تتركه ينصرف مُغضبًا. ويحصل هو على مراده، على الرغم أنه من الواضح أن هذا ليس مرادها هي؛ إذ لا يُلقي بالًا لرفضها. (أحذف من المشهد التالي كل الكلام الجانبي الصادر من الرجال الثلاثة الذين يختلسون السمع وأضيف الإرشادات المسرحية.)
مرني أن أفعل أي شيء عدا ذلك أيها اليوناني الرقيق.
وكما يشير كليفورد ليونز (١٩٦٤: ١١٥)، فإن حبكة القصة التي صاغها شكسبير لعقدة كريسيدا مع ديوميديس هي حبكة بسيطة: فديوميديس سيتركها إن لم تذعن. وهي كريسيدا تحتاج حماية ديوميديس (تدعوه مرتين «حارسًا»، ويذكرها بوصفها «مسئوليته») مهما كلف الأمر. وكما يرصد كريس كانون في المشهد المعادل في تشوسر، يُذعن كريسيدا لديوميديس تحت هذا النوع من «ملابسات «الإجبار» و«الخوف» التي يصعب معها إدراك الفرق بين الاغتصاب والخيانة» (٢٠٠١: ٨٧). يلاحظ نقاد شكسبير أن كريسيدا، كشأن هيلين، تبدو وكأنها ضحية العالم الذي يدينها على تصرفها بذات الطريقة التي أجبرها على التصرف بها كي تنجو. ونتج عن الحماية الذاتية هذه سمعة ضائعة، ومولد أسطورة. يلمح شكسبير إلى أن أسطورة هيلين من الممكن أن تنشأ عن ظروف أكثر تعقيدًا مما توحي به كلمات مثل «موافقة» أو «اختطاف» أو «اغتصاب».
على النقيض من المشاهد التي تجمع كريسيدا ومحبيها، نجد أن المشهد الذي يجمع بين هيلين وباريس في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» هو مشهد بارز في المسرحية للعاطفة المتبادلة والحوار المزدهر؛ فالزوجان «يتحادثان»، ويتشارك باريس مع هيلين مزحة (٣. ١. ٥٢-٥٣)، ويُقدِّران حالة بانداروس المزاجية (٣. ١. ١٢٧–١٣٠)، وتقدم هيلين متطوعةً معلومات لباريس ردًّا على سؤال عام منه عن ترويلوس (٣. ١. ١٣٧–١٤٠)، وتطري هيلين باريس (٣. ١. ٩٩-١٠٠)، ويطريها هو (٣. ١. ١٥٠–١٥٤). ينم أسلوب مخاطبة باريس لهيلين عن التلطف والالتماس وليس الأمر: ««فلنتجه» إلى إيوان بريام …/يا هيلين الحلوة، «أناشدك»/أن تعينيني على نزع سلاح هيكتور» (٣. ١. ١٤٨–١٥٠، أقواس التنصيص الداخلية من عندي). ونظرًا لمنزلته في طروادة كسيِّد هيلين، ففي مقدوره أن يضع مطالباته في صيغة آمرة أكثر من كونها مناشِدة؛ مثلما يفعل هيكتور، وترويلوس، وديوميديس مع أندروماك وكريسيدا. عوض ذلك، هناك مشهد يحتوي على حوار فيه تراضٍ متبادَل ويعتبر مشهدًا بارزًا في المسرحية لما يحتويه من صدق واضح. يقابل غضب ديوميديس المصطنع — الذي يفرض خيانة كريسيدا في المشهد الثاني من الفصل الخامس — تعامل باريس مع هيلين ورضوخها الجلي في مُقامها في طروادة.
لكن أن نستنبط موقف هيلين في لحظة الغواية/الاختطاف من سلوكها اللاحق في طروادة هو أمر محال. يحدد باسويل وتايلور كل الأسباب المنطقية التي تحتم على هيلين أن «تقضي وقتًا طيبًا» في طروادة: فهي شخصيًّا عُرضة للمخاطر إن لم تفعل ذلك. وهذه المشاهد مجتمعة تثير مسألة ما تعنيه الموافقة في المسرحية وفي المرحلة المبكرة من العالم الحديث.
(٦) قرار القانون بشأن حقوق النساء (١٦٣٢)
على الرغم من كونه محاميًا أو طالب قانون، فإن تي إي نفسه (يقول بأنه) ليس مؤلف هذا الكتاب. ويوضح أنه وجد العمل مفيدًا جدًّا حتى إنه قرر أن ينشره مع تصويباته وإلحاقاته (للمسببات، والآراء، والحالات، والقرارات المتعلقة بالحالات). يدعي الكتاب أنه مفيد للنساء، بيْد أن التفصيل القانوني — إضافة إلى تواتر الجمل والفقرات المكتوبة باللاتينية — يشير إلى أن جمهوره الرئيسي كان المحامين. إلا أنه ليس كتيب قانون؛ إنه تفسير شخصي تأملي للقانون من حيث صلته بالنساء، مكتوب على يد رجل يمتلك موقفًا متعاطفًا مع النساء والمظالم التي كُنَّ عُرضةً لها.
يمقت تي إي الاغتصاب والعنف الجنسي من أي نوع. فيتساءل: «ما السبب الذي جعل القانون في زمن إدوارد الأول حليمًا جدًّا، لدرجة أن النص التشريعي الأول في مواجهة الاغتصاب يذكره بعبارات مترفقة كما لو كان … انتهاكًا محدودًا جدًّا» (١٦٣٢: ٣٨٠). إنه متعجب من قصور تشريع وستمنستر ٢: «إن أي امرئ كان سيظن أن هذا النص التشريعي ينبغي أن يكبح إلى الأبد كل أشكال العنف نحو شخوص النساء» (٣٨١). كما أنه يقر بالضغط الذكوري: «لو لم يكن حاجز القوانين موجودًا بين النساء وما يؤذيهن، إني لأعتقد حقًّا أنه ولا واحدة منهن — سواءٌ أكانت فوق الثانية عشرة من العمر أو دون المائة، جميلة كانت أو غنية — يمكنها أن تنجو من الاعتداء عليها» (٣٧٧).
يوضح تي إي أن كلمة الاعتداء يندرج تحتها «نوعان من الاغتصاب»؛ النوع الأول: هو «عندما تُجبر امرأة باستخدام العنف على أن تعاني ضراوةَ شهوانيةٍ وحشيةٍ» و«تُتْرَك في المكان الذي جرت فيه هذه الجريمة» كأن يكون منزلها أو سريرها. مثالٌ لضحية من هذا النوع هي لوكريس. النوع الثاني للاغتصاب، والذي يدعوه تي إي «الاعتداء الحقيقي»: هو الاختطاف. ومثاله في هذا الموضع هو هيلين، التي اخْتُطِفَت علي يد باريس، ونساء السابين، اللواتي اخْتُطِفْنَ على يد الرومان. بيْد أن إنشاء فاصل واضح بين الجماع القائم على الإكراه والاختطاف تعقده عبارة اعتراضية لاتينية تصف الاختطاف نفسه بأن له نوعين: يمكن أن تُحتجَز المرأة «بإرادتها أو على خلاف إرادتها».
يسجل تي إي مرتين الظروف الملتبسة التي يصعب فيها أن تكون موافقة الأنثى على الجماع ناتجة عن رضا: خشية الموت، الإكراه، استخدام القوة (١٦٣٢: ٣٩٦، ٤٠٠). فيكتب: «القبول يجب أن يكون طوعيًّا»، وإلا «فهو اغتصاب بخلاف إرادتها» (٣٩٦). ويستشهد بالمرأة التي خضعت لمغتصبها ومع ذلك اتهمته بالاغتصاب، وتبيَّن أن «جسدها طاوعه ولكن نفسها وطويَّتها مقتاه دومًا» (٤٠٠). تي إي مهتم باستمرار بالفروق من هذا النوع، ويكرس قسمًا واحدًا من أجل «مسألة ما يُقْصَد بالاعتداء باستخدام القوة».
في وقتنا هذا، هذه العبارة مُكررة، مثلما يشير قاضي مارجريت أتوود مازحًا في ثاني فقرة مقتبسة بمقدمة هذا الفصل. يقول تي إي إن المرجع القانوني ويليام لامبارد (١٥٣٦–١٦٠١) اعْتَبَر العبارة «تفسيرية ليس إلا (يعني، توكيدية فقط).» يستنتج تي إي أن النص التشريعي «لا بد أنه بالضرورة يقصد نوعين من الاعتداء»، لأنه يرى واحدًا على أنه «أكثر مقتًا من الآخر» ويلحظ أنه يقضي بالموت «على ذلك الذي يمارس الاعتداء مستخدمًا القوة.» ويقول تي إي إن الاغتصاب باستخدام القوة هو «الأكثر بغضًا من بين كل الأمور الأخرى» (١٦٣٢: ٣٩٧).
عادةً ما تميز الشخصيات الأدبية بين نوعين من الاغتصاب. عندما تُصرح صَفَنْبَعْل شخصية مارستون: «يمكن أن تجبر جسدي ولكن ليس ذاتي.» هي تُجيز موافقة الجسد وتمنع موافقة العقل. ويُطرَح فارقٌ مشابهٌ يتعلق بهيلين طروادة من خلال شخصية نيل كويكلي في مسرحيتَي شكسبير «هنري الرابع» و«هنري الخامس».
في أوائل العصر الحديث كان اسم «نيل» اختصارًا معتادًا لاسم «هيلين»، ولهيلين طروادة. ويدعو ميدلتون وراولي هيلين طروادة باسم «نيل» في مسرحية «القانون القديم»، وكذلك فعل فليتشر في مسرحية «ترويض المُروِّض»، وشكسبير في «ترويلوس وكريسيدا». ظل نقاد شكسبير لأمد طويل ينظرون إلى هذا المثال الأخير على أنه ازدرائي أو ساخر — بالانتقاص من رمز إلى منزلة شخصية ضئيلة عادية — بيْد أن التواتر الذي يدعو به كُتَّاب أوائل العصر الحديث هيلين طروادة باسم «نيل» يناهض أي ارتباط سلبي. إنه مجرد صيغة بديلة مثل ماري ومول؛ لذا يستوجب إضافة الشخصيات الأدبية التي تحمل اسم نيل في دراسة مدار بحثها هو هيلين طروادة في الأدب. وشخصية نيل كويكلي في مسرحيتَي شكسبير «هنري الرابع» و«هنري الخامس» هي شخصية مُناظِرة لسَمِيَّتِها الطروادية.
ومثلما هو حال الاغتصاب والاختطاف، كانت المفاهيم الخاصة بالاغتصاب والزنا متداخلة في أوائل العصر الحديث تداخلًا معقدًا: فما جمعه القانون لا يمكن أن يفرقه النقاد. ولكن نساء أوائل العصر الحديث مثل نيل كويكلي يمكنهن فعل ذلك. فالتصنيفان — الزنا الطوعي والمخالف للإرادة — متباينان تباينًا حتميًّا بالنسبة للنساء. فنجد السيدة كويكلي على وعي قانوني بذلك (في «هنري الرابع الجزء الأول» تواجه فولستاف بما عليه من ديون (٣. ٣. ٦٥ف ف)، وفي «هنري الرابع الجزء الثاني» تقيم عليه دعوى (٢. ١. ١–١٣١))، وفي «هنري الخامس» — في المساحة المؤنثة من الناحية اللغوية للحانة — تدعي امتلاكها لقدرة آدم على تسمية الأشياء بمسمياتها، فتضع تصنيفًا في موضع لا يفعل فيه القانون ذلك؛ إذ تحدد السيدة كويكلي الزنا الطوعي كتصنيف منفصل عما يدعوه القانون اغتصابًا. مثل صفنبعل شخصية مارستون ترى السيدة كويكلي صعوبة في إدراج مجموعة من الاعتداءات تشتمل على النشاط الجنسي والجريمة تحت تصنيف واحد.
(٧) تغيير النص التشريعي عام ١٥٩٧
كانت عقوبة «الاغتصاب» شديدة: إذ كان عقوبته الإعدام. وكان الزواج من الضحية هو وسيلة لتجنب هذه العقوبة. (في الحقيقة كان يمكن للقانون نفسه أن يفرض الزواج من الضحية، ولذلك كان يمكن أن يكون الاختطاف — أو عقوبة الاختطاف — وسيلة للمتحابين أن يهربوا معًا ويتزوجوا بدون موافقة الوالدين.) ويمكن أيضًا للجناة أن يتذرعوا ﺑ «الحصانة الإكليريكية»؛ فعن طريق ادعاء عضوية طبقة متعلمة (في السابق طبقة رجال الدين، وهو ادعاء يثبت عن طريق قدرة المرء على القراءة، وفيما بعدُ أصبح اختبار الامتياز هو نفسه أساس الامتياز)، يمكن للمُختطِف أن ينقذ حياته.
لما كان هناك منذ أزمنة متأخرة نساء على اختلاف أحوالهن — شأن العذراوات في ذلك شأن الأرامل والزوجات — يمتلكن ممتلكات، فلبعضهن بضائع منقولة ولبعضهن أراضٍ ومبانٍ سكنية، وبعضهن وريثات شرعيات لأجدادهن، ولامتلاكهن هذه الممتلكات كثيرًا ما كن يُؤخذن على يد مجرمين على خلاف إراداتهن ثم يُزَوَّجن لأولئك المجرمين، أو لآخرين برضاهن، أو تُشوَّه سمعتهن …
مؤخرًا، إذن «متأخرة»، ازداد اختطاف النساء ذوات الأملاك.
كان يُعتقد أن علة هذا الاقتراح بتعديل النص التشريعي كان سببه الرئيسي أن السيد دونينجتون كان قد استلب وريثة كبيرة في ديفونشاير أو في تلك الأنحاء ولكن بموافقتها وهو ما اتخذت موقفًا ثابتًا بشأنه، جرى جلب المذكور دونينجتون إلى هنا في نيوجيت للشأن ذاته وبُرِّئت ساحته أمام البرلمان. (هارتلي ١٩٩٥، المجلد الثالث: ٢٣٢)
يذكر نظيف بشار في كتاباته أنه بسبب كون النص التشريعي لعام ١٥٩٧ «يعالج الاختطاف بمعزل عن الاغتصاب … (فإنه) كان له التأثير غير المباشر الذي كان من شأنه ترسيخ وضع الاغتصاب والاختطاف كجرمين منفصلين» (١٩٨٣: ٤١). فهذا هو النص التشريعي الذي يستنبط تي إي بواسطته عام ١٦٣٢ قِسمَه حول الاغتصاب. بيْد أنه ليس لديه الكثير ليدلي به حول هذا الأمر أكثر من تكرار مصطلحاته، ومن المؤكد أنه لا ينتبه للنتائج المترتبة عليه مثلما فصلها بشار بعاليه. قد يكون سبب ذلك أنه كان بالفعل قد أسس في مناقشته لكون الاغتصاب والاختطاف جرمين منفصلين. ويُغفل أيضًا الإشارة إلى النتيجة المترتبة الأخرى التي لاحظها المؤرخون القانونيون: وهي أن فصل الاغتصاب عن الاختطاف يطرح بطريقة غير مباشرة مفهومًا، إن لم يكن كلمة، يميز كل محاكمات الاغتصاب في وقتنا الحالي، وهو الموافقة (لأن الاختطاف قد يشتمل على موافقة المرأة أما الاغتصاب (بالمعنى الحديث) لا يمكن أبدًا أن يشتمل عليها؛ لذا منذ عام ١٥٩٧ أصبح عدم توافر الموافقة جُرمًا ضد المرأة نفسها، وليس ضد «مالكها» الرجل). أكرر ثانية أن تي إي كان لديه الكثير ليدلي به في مواضع سابقة عن موضوع الموافقة، لذا فهو لا يناقشه في هذا الموضع.
رغم أن اسم أليس ستويت مرتبط بالنقاش البرلماني وتغيير النص التشريعي لعام ١٥٩٧، فإن قضيتها كانت ملائِمة لأن يرتكز عليها نقاشٌ ولم تكن قضية رأي عام خلافية أثارت مشاعر الغضب والتغيير. نفس مشروع النص التشريعي كان قد جرى التطرق إليه في البرلمان عام ١٥٩٣ ولكن لم يوافَق عليه؛ لذلك من المبالغة الادعاء بأن قضية أليس ستويت في عام ١٥٩٧ والتغيير اللاحق للنص التشريعي قد صنعا التمايز بين الاغتصاب والاختطاف، أو ما يُعرف بمفهوم الموافقة، فقد كان نقاشًا معاصرًا منتشرًا وقضية من قضايا الساعة. يوضح عمل تي إي في عام ١٦٣٢ كيف يمكن أن يكون المرء مهتمًّا بهذا التمايز بدون ارتباط بأي موضوعات قانونية جارية. بيْد أن النقاشين البرلمانيين حول الموضوع في عامي ١٥٩٣ و١٥٩٧ يتزامنان مع أكثر استكشافات شكسبير تكثيفًا لموافقة الأنثى في الحالات المرتبطة بهيلين. و، كما تلحظ ماريون وين دافيس، فإن سَنَّ تشريعات جديدة للاغتصاب في حد ذاته «بعد جمود دام قرنًا يكشف عن بلوغ أوج الاهتمام والانشغال بالاعتداء الجنسي» (١٩٩١: ١٣١). دعنا ننتقل من أواخر تسعينيات القرن السادس عشر إلى أوائلها.
(٨) اغتصاب لوكريس (١٥٩٤)
لا يؤدي الاغتصاب إلى صدمة جنسية فحسبُ، بل إلى مأزق وجودي للمرأة في أوائل العصر الحديث: لو أن امرأة صارعت لتقاوم المُعتدي عليها، فكالت الركلات، أو صرخت، أو طلبت المساعدة، فإنها تنتهك لياقة جنسها وطبقتها، والمرأة التي تُعتبر نشطة صوتيًّا وجسمانيًّا في هذا السياق تُعتبر نشطةً في سياقات أخرى. مثلما تُظهِر الدراما الإليزابيثية والجاكوبية، المرأة التي تفتح منفذًا واحدًا (فمها) ستفتح منفذًا آخر (باستر ١٩٨٧) تمامًا مثلما يلمح هيرودوت إلى أن المرأة التي تُساوم في مضمار يمكن أن تُساوِم في آخر.
نشهد فصاحتها في البيت ٥٧٥ عندما تتحول القصيدة إلى الحديث المباشر ويُسمَع صوت لوكريس مناشدًا تاركوين بحجج مؤثرة ومنطقية على مدى ٩١ بيتًا. كما أنها لا تُبدي أي أمارة عن التوقف؛ فيوقف تاركوين تدفقها في منتصف البيت: ««كفى.» قال لها مخاطبًا: «أقسم بالسماء أني لن أُصغي إليكِ»» (٦٦٧).
ومع ذلك فعندما تقص لوكريس تجربتها على كولاتين، وبروتس، وأبيها تقتطع هذا الجزء من الحكاية. بدلًا من ذلك، تقدم نفسها على أنها هي التي «شرعت في البكاء» والتي كانت عاجزة عن الكلام: «منع قاضي الدموي لساني من النطق، لا بينة منصفة يمكن أن تشفع بالإنصاف هناك» (١٦٤٨-١٦٤٩)؛ فهي تقدم نفسها على أنها أنثى عصر النهضة المألوفة: مستسلمة لا مؤثرة، ضحية لا محتجة، فإذا كان مثال الأنوثة العفيفة هو الاستسلام؛ فالمرأة المستسلمة هي التي يُعرَف عنها الموافقة على الاغتصاب.
بغض النظر عن مناشدات لوكريس الشفوية المطوَّلة إلى المعتدي عليها، تصنع القصيدة معضلة من مسألة موافقتها أو مقاومتها. العائقان الماديان أمام تقدُّم تاركوين هما المقاومة والإذعان — «وكل مدخل مُقاوِم له ينصاع ممهدًا له السبيل» (٣٠٩) — ومثل مغتصبي تسعينيات القرن السادس عشر الآخرين (وما بعدها) فإن تاركوين «يفسر رفضهن» على أنه ملاعبة: «مثل طبقة الصقيع الخفيفة التي تتهدد الربيع لبعض الوقت، كي تضيف المزيد من البهجة إلى العنفوان» (٣٣١-٣٣٢). لاحقًا، تعنف لوكريس النائحةُ يدها على «الإذعان» (لأن يدها عجزت عن إثناء تاركوين بخدشها إياه.) مجموعة العقبات — الأبواب، المزاليج — التي «انصاعت» لتاركوين بسهولة بينما يمضي في رحلته الرمزية من الخارج إلى الداخل، من أرديا إلى روما، ومن غرفة نوم الضيوف إلى مخدع لوكريس، لا تُقدم للاغتصاب فحسب بل تطرح مسألة موافقة لوكريس الملتبسة التباسًا مزعجًا (فاينمان ١٩٨٥: «من هنا وهناك»). كانت هذه قضية شغلت المعلقين بداية من القديس أوجستين ومن بعده. لو كانت لوكريس بريئة، لماذا انتحرت؟ كم كانت قصة لوكريس ملتبسة أخلاقيًّا إلى درجة أنها — مثل قصة هيلين — أصبحت موضوعًا للمنازعات الرسمية (دونالدسون ١٩٨٢: ٤٠).
ومع ذلك فإنه عند لحظة اختراق تاركوين للوكريس، لا يوجد التباس. فبينما يصور أوفيد والرسام (مصدرَا شكسبير) لوكريس في وضعية الإذعان (خاضعة للتهديد بالعار)، نجد فم لوكريس في قصيدة شكسبير مكممًا بثوب نومها بينما يرطب تاركوين «وجهه المهتاج في أكثر الدموع عفة/التي ذرفتها منذ الأزل عيون طاهرة يكسوها الحزن» (٦٨٢-٦٨٣؛ كاتي ١٩٩٩: ٦٦). ليس هناك التباس هنا: إن لوكريس اغْتُصِبَت (بمفهومنا الحديث).
من المفارقات إذن أن ضحية واقعة اغتصاب تفشل في التعاطف مع ضحية واقعة اغتصاب أخرى. فبينما تبحث لوكريس عما يلهيها في الساعات المضنية حتى يكون كولاتين قد عاد إلى روما، تتأمل لوحة عن سقوط طروادة، مُخاطِبةً اللوحة مباشرةً: «أريني البغيَّ التي بدأت هذا الاضطراب» (١٤٧١). يعتبر فاينمان أن موضوع اللوحة «اختيار سيئ بما أن شكسبير — إن لم يكن هوميروس أيضًا — يرى أن اغتصاب هيلين «البغيِّ» … هو الذي تسبب في الحصار وليس العكس مثلما هو حال لوكريس العفيفة» (١٩٨٥: ٢٠١). بيْد أن هيلين ليست بغيًّا في نظر شكسبير. إضافة إلى ذلك فإن لوكريس هي ضحية اغتصاب تعاونت عليه الكثير من القوى: زوجها الذي يتفاخر بجمالها الفائق، والتزامها بأن تحسن وفادة ضيف، وتهديدات المُغتصِب، وتقريرها بأن الاغتصاب أقل عارًا من الزنا مع عبد. إن حالة هيلين قد تكون بنفس القدر من التعقيد؛ فمن المتيقَّن أنه من بين العوامل التي سردتها توًّا في حالة لوكريس، أول عاملين هما نسختان طبق الأصل من وضع هيلين. رغم ذلك تفترض لوكريس بينما هي تنظر إلى اللوحة أن حالة هيلين يجب أن تكون واضحة بلا لَبْسٍ. أنها قارئة متحاملة وغير متعاطفة. التساؤل الذي يُلْمِح إليه شكسبير (في كلٍّ من عملَي «اغتصاب لوكريس» و«ترويلوس وكريسيدا») هو: هل نحن مذنبون بنفس الإساءة في تفسير حال هيلين؟
(٩) هيلين (طروادة)
من وجهة نظر العديد من معاصري الحداثة المبكرة، كان اسم هيلين هو صيغة مختصرة للدلالة على خيانة عهود الزواج (وهو موضوع سيجري استقصاؤه في الفصل التالي). إن هذا الارتباط المنطوي على إدانة تحديدًا هو الذي يتمنى شكسبير أن ينقذ شخصيات هيلين منه عندما يضع هيلين أو من يمثلنها في المسرحيات التي يدخل فيها الخضوع الجنسي أو الخيانة في إطار الاستجواب المتعاطف (ماجواير ٢٠٠٧: ٧٤–١١٩). إلا أن هنا جزءًا آخر يُضاف لاسمها: الإضافة التصنيفية الموضعية «من طروادة»، وذلك اللقب وثيق الصلة بموضوع الاغتصاب.
هناك لحظة تتسم بالتوتر في الفيلم الهوليوودي «طروادة» (٢٠٠٤) عندما يقدم باريس عروسه الأسبرطية إلى والده الملك. يقول الأمير: «أبي، هذه هيلين.» يتساءل بريام الذي يؤدي دوره بيتر أوتول بلهجة عميقة: «هيلين؟ هيلين الأسبرطية؟» فيقول له ابنه مصححًا: «هيلين طروادة.» يقدم الفيلم تحولًا لغويًّا جوهريًّا في السرديات التي تتناول هيلين، مُسقِطًا إياه في لحظة واحدة، هي اللحظة التي مُنِحت فيها المرأة التي نعرفها باسم «هيلين طروادة» لقبها. يقدم فيلم عام ١٩٥٥ «هيلين طروادة» نفس المسألة المتصلة بأسماء الأعلام على نحو أكثر تمهلًا عندما تتساءل هيلين متعجبةً إن كانت ستصبح طروادية أبدًا، وهو ما يعكس مفارقة استباقية كون هيلين — بالنسبة لنا — مقرونة فقط بطروادة؛ فاسمها الأول لا ينفصل عن اسمها الموضعي.
لا يمكننا أن نحدد بدقة اللحظة التي عندها أصبحت هيلين الأسبرطية تُعرَف باسم هيلين طروادة، بيْد أن هناك حوارًا في مسرحية «القانون القديم» (١٦١٩) لميدلتون وراولي يناقش التحول في اللقب المكاني. في إحدى الحانات يتورط المهرج جنوثو في محادثة، ومن ثم في مراهنة، مع الطاهي بشأن ما إذا كان اسم «الحسناء اليونانية» الفاتنة هو سيرين أو هيرين. يتدخل الخياط ليحذر المهرج بشأن ثقته في المقامرة بالكثير من المال مع وجود تكرار لا ضرورة له في زعمه: («أراهنك بخمسة دراخمات أن اسم سيرين كان سيرين»)، وينتقل الحديث من سيرين إلى هيلين:
كما ذُكِر سابقًا، كان اسم نيل هو صيغة تحقير معتادة في أوائل العصر الحديث لهيلين. بل إن المهرج في حقيقة الأمر يعتبر أن اسم هيلين هو بالأحرى نيل وليس هيلين، والطاهي هو الذي يقدم متطوعًا الصيغة الكاملة لاسم هيلين. يتشبث المهرج بأن اسمها كان هيلين (إيلين وهيلين كانا تهجئة تبادلية مختلفة) فقط عندما عاشت في اليونان (طوال مكوثها مع زوجها كانت تُدعى «إيلين»)، وعند انتقالها إلى طروادة تغير اسمها («بعد أن قدمت إلى طروادة كانت نيل طروادة»)؛ لذا فإن المساجلة هي عن تغيير مزدوج في الاسم: «هيلين» أصبح «نيل»، و«اليونانية» أصبح «طروادة». كان المهرج مهتمًّا باستمرار بالأسماء، واللغة، وبالتورية، مثلما هو حال الكثير من المهرجين في أوائل العصر الحديث، وإن يكاد يكون اهتمامه لا شعوريًّا، لكن هل تشبثه بتسمية «نيل طروادة» تعزيزٌ لابتكارٍ فيما يتصل بأسماء الأعلام أم تعزيزٌ لحقيقة معروفة؟
قليلة هي حالات ظهور تسمية «هيلين طروادة» في فترة أوائل العصر الحديث إذا ما قُورنت بحالات ظهور تسمية «هيلين اليونان»، إلا أن كلتا التسميتين غير معتادة. إنني لست على دراية إلا بنصين من القرن السادس عشر يشيران إلى «هيلين طروادة»: «أفروديت الذهبية» لجون جرانج الذي يرجع إلى عام ١٥٧٧ و«استحضار للنائمين» لليونارد رايت الذي يرجع لعام ١٥٨٩. ولا يظهر اللقب ثانية قبل منتصف القرن السابع عشر، في «وادي التنوع» (١٦٣٨) لهنري بيتشام، وبعد ذلك في عام ١٦٨٠ في ترجمة تشارلز بلونت لكتاب «فيلوستراتوس». يبدو أن مهرج ميدلتون قد عكس الأمر في بدايته قبل أن ينقلب إلى تحولٍ كبيرٍ.
إن قصة هيلين باستثناءات قليلة جدًّا هي قصة تجري بعد فعل الاختطاف، وبعد لحظة التحول (تحول الزوجات، تحول الولاء، تحول الوطن)، وبعد لحظة القرار أو التذبذب أو الندم أو التسليم. يفصل مهرج ميدلتون وراولي هذا الأمر بدقة: «بعد أن قدمت إلى طروادة كانت نيل طروادة.» إن هيلين مرتبطة ارتباطًا كبيرًا بقصة الاغتصاب (مقولة كلادر «أكثر ما تشتهر به هيلين هو الاغتصاب») حتى إننا أجملنا قصتها في مقطع مضاف: هيلين طروادة. إن هاتين الكلمتين لربما تقدمان من الناحية السردية أقصر قصة اغتصاب على الإطلاق.
(١٠) الاغتصاب كوسيلة للانتقام
في موضع سابق من هذا الكتاب أشرت إلى أن الاغتصاب لا ينتهي بموت باريس أو بسقوط طروادة؛ إذ يستولي ديفوبوس على هيلين كزوجة، ويستولي بعد ذلك نيوبتوليموس على ابنتها هيرميون، التي يستردها أوريستيس بدوره. بيْد أن أكثر وقائع الاغتصاب العديدة إثارة تقع في نهاية الفيلم التليفزيوني الأمريكي «هيلين طروادة» (٢٠٠٣).
هذا الفيلم المتقن لا يتناول العلاقة الغرامية بين هيلين وباريس فقط بل تاريخهما الميثولوجي كاملًا، مبتدئًا بنبوءة كساندرا عند ميلاد باريس والإبعاد الفوري للرضيع. يُظهِر الفيلم هيلين — التي تؤدي دورها سيينا جيلوري التي تشبه الغزال في ملامحها والمسترجلة في تصرفاتها — في الطفولة حيث يقع معها أكثر وقائع الاختطاف تعففًا على يد ثيسيوس. يتسم سلوك ثيسيوس نحوها بالحماية وبكونه أبويًّا، فهو بالأحرى معلم وليس مغتصبًا، ويرفض أن يلمسها برغم مشاعرها المراهقة المتنامية نحوه. عندما يصل الديوسكوري لينقذا هيلين، يخطئان في فهم الموقف؛ إذ ليس هناك ما يستدعي إنقاذها منه، ورغم محاولات هيلين اليائسة لمنعهما، يُقتَل ثيسيوس.
الفيلم في النصف الأول هو عبارة عن مزيج من «ترويض الشرسة» و«تايتانيك»: فتاة لا تتلاءم طبيعتها مع أسبرطة، وليس لها اهتمام بالرجال، تجد حياة جديدة وتُفضِّل أن تموت مع ثيسيوس على أن تعود للقيود الملكية. عندما تجد هيلين نفسها مضطرة إلى العودة، تظهر عاريةً أمام عاشقيها، وأمام الارتياع الجلي على مينلاوس مرهف الحس والمُتابعة النائية المعجبة لأجاممنون العابس الذي يؤدي دوره روفوس سيويل. إن أجاممنون يعي قدر جمال هيلين في هذه اللحظة، وفي لحظات أخرى في الفيلم، وعيًا يُنقَل من خلال ومضات قاسية في عينيه تشيء جسدها.
إن أجاممنون مقتضب في استخدامه للكلمات واستبدادي في تعامله مع زوجته وكذلك مع جيشه، ومع ذلك فإن أجاممنون هذا لديه نقطة ضعف واحدة: هي حبه لابنته إفيجينيا. إفيجينيا هذه ليست بمرشحةٍ مراهقة للزواج بل هي طفلة ذات أعوام ستة تلعب الحَجْلَة والغُميضة مع والديها، سيطرت ضحكتها المجلجلة على الفيلم (وعلى أبيها) كصوت في الخلفية بعدما يضحي بها أجاممنون في أوليدة. تمثل التضحية قرارًا مؤلمًا إيلامًا مبرحًا لأجاممنون الذي يؤدي دوره سيويل وتقود إلى واحدة من المشاهد الختامية في الفيلم: انتقام لا يوُقِعه مينلاوس لفقد زوجته بل أجاممنون لفقد ابنته.
حتى هذه النقطة لا علاقة للفيلم بالاغتصاب. فثيسيوس هو أب بالتبني، وباريس وهيلين هما توءما روح يُبرَز التقاؤهما الذي قدرته الأقدار (إذ «يرى» أحدهما الآخر أولًا في رؤًى وهما في طور الشباب) على أنه بالأحرى إرادة إلهية وليس اختطافًا أو زنًى. لهذا يكون بحث أجاممنون عن هيلين عند خراب طروادة بمثابة صدمة ويصبح غرضه الجنسي الانتقامي جليًّا.
عندما نطالع هيلين ثانيةً نجدها صامتةً، مخدرةً، مصدومةً. وكساندرا مشدوهة من التغير الذي طرأ على أختها: «ماذا فعل؟» هيلين غير قادرة على إجابة السؤال. وينال أجاممنون الجزاء العادل عندما تقتله كلتمنسترا في حوض استحمامه: ليس ذلك بسبب رغبتها في أن تكون مع حبيبها، إيجيسثوس (الذي يغيب عن هذه النسخة) ولكن بسبب قتل زوجها لابنتهما. إن هذه ليست قصة خيانة أنثوية.
قبل خراب طروادة، كانت هيلين التي تؤدي دورها جيلوري قد ذهبت سرًّا إلى المعسكر اليوناني لتعرض نفسها مقابل موت هيكتور. وأجابها أجاممنون بنظرة ازدراء جامدة: «أَوَتظنين أن هذا يكفي؟ أتظنين أن موت ابنتي كان هباءً؟ … ليس هناك مقايضة. أريدكِ أنتِ.» إنه يُذكِّر هيلين بهذه المحاورة التي دارت بينهما وهي ملقاةٌ أرضًا أمامه في طروادة: «كما قلتُ: لا مقايضة.» هذه الكلمات الأربع أحادية المقطع هي الكلمات الوحيدة التي وجهها إليها. تُعيدُنا مفرداته إلى كلمات هيرودوت في بداية هذا الفصل، حيث قُدِّمت أيو ونسوتها كأطراف متاجرة. في هذا الفيلم ليس مسموحًا لهيلين بإجراء الصفقات. هربت هيلين التي تؤدي دورها سيينا جيلوري بمحض اختيارها ولكن عقوبة الإناث اللواتي يرتكبن إثمًا جنسيًّا هي ذاتها عقوبة جنسية. ستصير هيلين مخلوقًا جنسيًّا إما كسبب أو كعقوبة.
هذه الثنائية تجعل من الصعب تبرئتها من اللوم. محاولات إلقاء اللوم عليها أو الدفاع عنها هي موضوع الفصل الرابع.