اللوم
لقد رُويت أعداد كبيرة من القصص. كيف يمكنني أن أميز بين ما فَعَلْت وبين ما قالوا إنني فعلت؟ (هيلين، بقلم مارك هادون، «ألف سفينة»)
لم يكن الشعراء اليونانيون متيقنين أبدًا بشأن هيلين: فهي من الممكن أن تمثل البراءة الإنسانية أو الإثم البشري. (كينيث جي ريكفورد، «هيلين في الكتاب الثاني والسادس من «الإنياذة»»)
ماذا كان يمكنها أن تفعل، كونها من هي؟ (ويليام بتلر ييتس، «ليس هناك طروادة أخرى»)
(١) الروايات
إن قصة هيلين، في كل حقبة، هي القصة التي يُحَمِّلُ مؤلفوها هيلين مسئولية حرب طروادة أو يحاولون التقليل من مسئوليتها. والواقع أن هذا يختصر قصتها إلى إحدى سرديتين: إما قصة فرار مع الحبيب أو قصة اختطاف. هيلين في الأولى، زانية، مذنبة، شخص مستحق للوم؛ بينما في الثانية، هي ضحية، بريئة، شخص يستحق الدفاع عنه.
مع ذلك فهذه النظرة الأخلاقية الأحادية الصارمة؛ إما أبيض أو أسود، تسمح بلون رمادي بينهما. بدايةً، القضايا المتعلقة باللوم تختلف اختلافًا كبيرًا فيما بين الأدب ذي الخلفية الوثنية والأدب ذي الخلفية المسيحية. سابقًا، كان لدى الكتاب القدرة على الفصل بين المسئولية والجرم؛ لذلك نجد في «الإلياذة» أنه لا يوجد شك لدى أيٍّ كان في كون هيلين هي «السبب» في حرب طروادة، بيْد أن قليلين يلقون عليها «اللوم». وعندما تورد سلسلة الملاحم الانتقام، تورد أيضًا فكرة استحقاق هيلين الشخصي للوم، وما إن نصادف الكُتَّاب المسيحيين، حتى تجد كلمات مثل «إثم» و«غفران» سبيلها للظهور باطراد. ففي رواية «جيست هيستوريال» (القصة التاريخية لدمار طروادة) مجهولة الفترة الزمنية يعد مينلاوس: «كل إثم (لهيلين) سيُغْفَر، ونعمةً تأخُذ» (تي إل إن ١١٥٨١).
(٢) إلقاء اللوم: هيلين، وباريس، والآلهة
إن هيلين بهذا التصوير هي مُشارِكةٌ فاعلةٌ في اختطافها هي ذاتها: فليس هنا روَادِع شعورية (فهي «غير آبهة») أو عقبات مادية («اجتازت العتبة بسهولة»).
في مسرحية «الطرواديات» ليوربيديس تقول كساندرا إن هيلين «لم تُؤخذ غنيمة على يد (مينلاوس)، بل ذهبت مختارةً» (يوربيديس ١٩٧٣: ١٠٢). بينما يقول داريس بتعبير بلاغي أكثر دبلوماسية (أو أكثر توكيدًا ولفتًا للانتباه) بنفي عكس المُثبَت إن هيلين «لم تكن غير راغبة» (فريزر ١٩٦٦: ١٤١). إن داريس — كونه فريجيًّا — هو بالطبع ضد اليونانيين على الأخص، بيْد أن دِكتيس الكريتي يتناول الأمر بنفس الطريقة؛ إذ تشهد هيلين المجلس الشعبي الذي يتباحث في مصيرها، وتوضح موقفها بطريقة لا لبس فيها: «قالت إنها لم تُبْحِر غير راغبةٍ، لأن زواجها من مينلاوس لم يناسبها» (فريزر ١٩٦٦: ٢٨-٢٩).
تميل النصوص التي تتخذ موقف الدفاع عن هيلين إلى فعل ذلك عبر إلقاء اللوم على شخص آخر. فالدفاع عن صنيع هيلين وعواقبه هو في حد ذاته أمر واضح الصعوبة (يُستثنى من ذلك المحاورون الطامحون أو العابثون أمثال جورجياس، وإيسقراط، وأوفيد)؛ لذا من الأيسر اعتبار هيلين ألعوبة في يد الآلهة أو ضحية لشهوة باريس. في «الإلياذة» يُلقي بريام باللوم على الآلهة (٣. ١٦٤) ويُلقي هيكتور مرتين باللوم على باريس (٣. ٣٩–٤٢؛ ٦. ٢٨١–٢٨٥). في «الإنياذة» تتصدى فينوس لغضبة إنياس الضارية على هيلين بينما يستعد لقتلها عند خراب طروادة. رغم غضبه، يتسم إنياس بالوضوح إزاء ما يأمل أن يجنيه: «سأحرز بعض الفضل للقضاء على خطيئة لا تُغتفر، والاقتصاص من بغي يستصرخ طالبًا العدل، وسأشعر بالفرح عندما أُشبِع رغبتي في ثأر النار» (فيرجيل ١٩٨١، الكتاب ٢: ٦٨). إنه يتحدث بلغة الأخلاق والعدل (الثأر هو فكرة تأتي متأخرة) ولكن فينوس تُبيِّن أنه أخطأ في تحديد الجاني: «لا يجب أن تُلقي باللوم على جمال التيندارية الأسبرطية المكروه، ولا حتى على باريس. إن الآلهة هي التي لم تكن رحيمة؛ إنها هي التي تتخلى عن طروادة» (٦٩).
هناك قدر كبير من المفارقة في كلماتها لأن فينوس نفسها هي واحدة من الآلهة الجانية، ويُلْقَى عليها باللائمة في «الملحمة القبرصية» (في هيسيود ١٩٧٧: ٤٩١). وعلى الرغم من أن جوزيف من إكستر يحدد شهوة باريس على أنها هي السبب، ففينوس هي التي تساند غريزته الشهوانية وهي التي تيسر وصوله إلى هيلين (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٩). في «الحرب على طروادة» لكوينتوس من سميرنا يكبح أجاممنون غضب مينلاوس، موضحًا أن «هيلين ليست هي الملومة، كما تظن، بل باريس الذي نسي زيوس، إله الضيف والمُضيف، ونسي ما يدين به لمائدتك» (١٩٦٨: ٢٤٤). يتكرر في النصوص التركيز على جريمة باريس ضد كرم الضيافة، ولو بطريقة غير مباشرة: في الكتاب الرابع من «الأوديسة»، من الواضح أن إحجام إتينيوس عن أن يُيَسِّر سبيلًا لتليماخوس إلى قصر مينلاوس في أسبرطة بعد الحرب هو حذر نابع من تجربة.
وفيما بين هذه المواقف المستقطَبة التي تقوم على إلقاء اللوم على هيلين أو على شخص آخر، نجد مفهوم الاشتراك في استحقاق اللوم، كما هو الحال في «الأوديسة» عندما تقول هيلين إن أفروديت «جلبتني إلى طروادة … وجعلتني أهجر ابنتي، ومخدع زوجيتي، وزوجٍ لم ينقصه شيء» (الكتاب ٤، ص٥٢). فهيلين في هذا السياق فاعلة وكذلك سلبية؛ فهي التي تأتي فعل الهجر ولكنها «جُعِلَت» و«جُلِبَت» فهي مجبولةٌ على ذلك.
لم يصنع زنا هيلين غير المرغوب تحالفًا عسكريًّا وتطورات تقنية فحسب بل واتحادًا اجتماعيًّا وثقافيًّا. لربما كان مينلاوس هو الديوث في الأدب الذي يرى مزلته الشخصية بهذا القدر من الإيجابية من الناحية السياسية. يوازن هذا الدفاعُ المتطرفُ الاتهاماتِ الشائنةَ التي تحتويها افتتاحية المسرحية التي تبغض أندروماك فيها هيلين، كما للمرء أن يتوقع من زوجة مثالية في الزمن القديم. وتُتَّهم هيلين بقتل أخيل. ويضيف والد أخيل إلى اتهامات أندروماك، فينعت هيلين بالعاهرة؛ حقًّا كيف يمكن أن تكون خلاف ذلك بالنظر إلى التربية التي تفتقر إلى الحياء التي تتلقاها الفتيات الأسبرطيات (اللواتي يلبسن ثيابًا قصيرة ويشاركن في منافسات رياضية مع شباب)؟ إذا كان مينلاوس يستحضر الوحدة الوطنية باعتبارها فائدة مباشرة، فإن بيليوس يستحضر عادةً محليةً ويعتبرها سببًا غيرَ مباشر (يوربيديس ١٩٧٢: ١٥٣، ١٦٥).
(٣) تجنب اللوم: التعاطف في «الإلياذة»
تجيب أفروديت بغضب وبتهديد، قائلةً لهيلين ما مفاده: فلتحذري فقد أُنغص عليكِ عيشك وأُنهي حياتك (إعادة الصياغة بواسطتي ٣. ٤١٣–٤١٧). ترضخ هيلين خوفًا: «فتملَّك الخوف هيلين سليلة زيوس» (٣. ٤١٨).
إن رضوخ امرأة لأنشطة غرفة النوم جراء التهديد، والغضب، وخوف مستقبلي هو موضوع معهود من الفصل الثالث. إلا أن هوميروس يُقَدِّم للفاصل الجنسي بكلمات لطيفة من جانب باريس (٣. ٤٣٨–٤٤٦) ولا يقدم هيلين في صورة الضحية في موضع آخر. رغم أن باريس يقول إنه «انتزعها» (٣. ٤٤٤) ويتهمه هيكتور بأخذ زوجة مينلاوس (٣. ٥٣) (وكلا الأمرين يمكن أن يوحي بالاختطاف) ورغم أن هيلين تتحسر وتشتاق إلى الهرب (٢. ٣٥٦؛ ٢. ٥٨٩-٥٩٠) وتشتاق إلى العودة إلى مينلاوس (٣. ١٣٩–١٤٢)، فإنها تلمح في موضع آخر أنها جاءت إلى طروادة طوعًا: «حضرت إلى هنا/في ركاب ابنك» (٣. ١٧٤-١٧٥؛ قارن ٢٤. ٧٦٥-٧٦٦). قد تكون مشاعرها الحاضرة نتيجة تغير في الموقف: «إن قلبي حتى الآن مضطرب بالهموم» (٣. ٤١٢). في إطار تقديم هيلين بصورة غامضة يوضح هوميروس بجلاء أن اهتمامه مُنصَبٌّ على المأزق الشعوري أكثر من اهتمامه باللوم.
(٤) السرديات المُنافِسة: «الأوديسة»
يُطرح موضوع انعدام الموثوقية الجنسية للنساء في مستهل «الأوديسة» عندما يقول تليماخوس: «إن أمي تقول يقينًا إنني ابن أوديسيوس أما أنا فلا يمكنني أن أعرف. ليس هناك رجل يمكنه أن يكون مُتيقنًا من نسبه» (الكتاب ١، ص٩). قد تمتدح القصيدة عفة بينيلوبي ولكنها هنا تطعن فيها، مثلما تطرح أمر عدم جدارة هيلين بالثقة، والخيانة القاتلة التي ترتكبها شقيقتها كلتمنسترا، والمكائد التي يلاقيها أوديسيوس في أسفاره من العديد من الشخصيات النسائية (كاليبسو، كيركا، جنيات البحر) بالإضافة إلى انعدام الوفاء في إيثاكا من ١٢ خادمة أصبحن عشيقات لطالبي الزواج (من بينيلوبي). كشأن هيكتور في «الإلياذة» — الذي يتمنى موت باريس — يتمنى راعي خنازير أوديسيوس، الذي يُدعى إيومايوس، نفس الأمر لهيلين. فسيده «قد مات وولَّى. وأتمنى أن يكون في استطاعتي أن أقول الأمر نفسه عن هيلين وكل جنسها، إذ أفضت إلى موت الكثير من الرجال الأخيار» (الكتاب ١٤، ص٢٠٩). ولكن على عكس هيكتور، يوسع إيومايوس إدانته من امرأة واحدة إلى جنس النساء بأسره: «وهيلين وكل جنسها.» إن إلقاء اللوم على هيلين أو بغضها — كشأن إلقاء اللوم على باندورا أو حواء — عادةً ما يتحول إلى إدانة للجنس الأنثوي بأسره. وكما تقول كريوسا في مسرحية «إيون» ليوربيديس: «إن الحياة أصعب على النساء من الرجال: إنهم يدينوننا، بالخير والشر معًا، ويكرهوننا» (يوربيديس ١٩٧٣: ٥٤). في نهاية «الأوديسة» يعقد أجاممنون مقابلةً بين بينيلوبي وكلتمنسترا، واصفًا كيف أن الأخيرة شانت كل النساء، حتى الصالحات منهن: «لقد دمرت سمعة جنسها، النساء العفيفات والجميع» (الكتاب ٢٤، ص٣٦٠). مثلما يفعل إيومايوس، يستخدم أوديسيوس نفس الكناية الكارهة للنساء عندما ينتقد بعنف زيوس قائلًا إنه «خصم لا يلين لبيت أتريوس منذ البداية»، ولكنه يلحظ أن زيوس «يُجري مشيئته عبر طرق النساء الملتوية» (الكتاب ١١، ص١٧٢؛ حرفيًّا: «الخطط الأنثوية»). من هو الملوم هنا؟ إله واحد أم جنس النساء بأسره؟
ولكن كما رأينا في الفصل الأول، فإن وقائع الميثولوجيا ليست ثابتة. وتبعًا لذلك فالحكم إما متحاملٌ تحاملًا متأصلًا أو غير محدد بشكل مُحبِط.
(٥) رثاء مشوه/ولوم على حد سواء
لم يكن اختطاف هيلين — عند كلتمنسترا — مبررًا كافيًا لثكل ابنة. وتستطرد لتُبيِّن أنه رغم ذلك، موت إفيجينيا نفسه لم يكن ليدفعها إلى قتل زوجها. كانت القشة الأخيرة هي عودة أجاممنون من طروادة مع «زوجة ثانية،/رفيقة سكن، امرأتان محتجزتان في منزل واحد» (١٤٠). لم يكن قتلها لزوجها انتقامًا من قتله لأبنتيهما بل ردًّا على إذلال جنسي.
تقر الجوقة بالعدل في مثال كلتمنسترا، ولكنها تشكك في حق الزوجة في إتيان الفعل. ولكون أعضاء الجوقة يتسمون بالتحفظ اجتماعيًّا، ليس في مقدورهم أن يدخلوا في مناقشة تقييمية حول هذا الموضوع إذا كانت الزوجة ترفض قبول حكم زوجها.
ومع ذلك، تفشل الجوقة في التعليق على شذوذ في المقارنة التي تصوغها كلتمنسترا. افتراضها الاستهلالي — بأن «مينلاوس كان قد اختُطِف سرًّا» — ليس مشابهًا للمثال حول هيلين الذي طرحته مباشرةً قبل هذا المثال: «إن هيلين كانت عاهرة، ولم يعرف زوجها كيف يملك زمام/زوجة شبقة.» دون قصد تقدم لغة كلتمنسترا هيلين في صورةِ بريئة ومذنبة. ولكن لا يمكنها أن تجمع بين أمرين متناقضين. ليس هذا مثالًا للوم متعدد (كما في حالة مسرحية «أجاممنون» لإسخيلوس) ولكنه مثال لتناقض صارخ، لنص في حالة حرب مع نفسه (في الواقع أن موثوقية إسناد هذه الفقرة ليوربيديس هو أمر محل شك ويضعه معظم المراجعين بين أقواس.) وهو ما يطلق عليه يوربيديس في موضع آخر «كلام ملتبِس … رثاء مشوه/ولوم على حد سواء» (مسرحية «أوريستيس» ليوربيديس ١٩٧٢: ٣٣٢).
(٦) التعبير عن هيلين: يوربيديس
التوتر في مسرحية يوربيديس معروض في شكل حوار، وهو حوار تعبر فيه هيلين عن نفسها بلسانها.
يضع يوربيديس هيلين على خشبة المسرح ثلاث مرات. في مسرحية «أوريستيس» (كما سنرى لاحقًا في هذا الفصل) يجعل يوربيديس من هيلين إلهة. في مسرحية «الطرواديات» يتيح لها أن تدافع عن نفسها؛ من وجهة نظر معظم النقاد هي تدين نفسها أثناء قيامها بذلك؛ فهي تلوم هيكوبا على إنجابها لباريس، وتلوم بريام على أنه لم يقتله، وهكذا فهي تتهم الإلهات، وباريس، ومينلاوس؛ اختصارًا، هي تلوم «الجميع» عدا نفسها. يرى نورمان أوستن أن هذا الحديث هو «لا يزيد عن كونه أردأ مرافعة في قاعة محكمة» (١٩٩٤: ١٣٩). يقدم فيليب فيلاكوت رد فعل أكثر تعاطفًا، مفسرًا دفاع هيلين الذاتي على أنه فضح يوربيديس الساخر للاحتياج الإنساني لإيجاد مسببات وتوزيع اللوم. يُعيد فيلاكوت صياغة حجة هيلين كما يلي: «أنت تحاول أن تلصق اللوم على كل هذه المعاناة، عليَّ أنا. أنت من اصطنعت الحرب، وأنا كنت ذريعة فعلك، أما باريس فكان ذريعة فعلي، وأبواه كانا ذريعة باريس؛ عند من سنتوقف؟» (يوربيديس ١٩٧٣: ١٩-٢٠). إن هيلين من وجهة نظر فيلاكوت ليست جادة في لوم بريام على أنه لم يقتل ابنه؛ فالآباء لا يقتلون أطفالهم. إنها تُظهِر عبثية محاولة تحديد المسبب وتوزيع اللوم.
عندما تثبت هيلين هويتها، ويجتمع شمل الزوج وزوجته، يصل عبد مينلاوس حاملًا الخبر بأن (الشبح) الذي على صورة هيلين في الكهف قد «تلاشت في الهواء! لقد ارتفعت فحسب واختفت! والآن هي متوارية عن الأنظار، في السماء!» (يوربيديس ١٩٧٣: ١٥٤). قبل أن يتمكن مينلاوس من التخطيط لهروبهما من مصر، تكتشفهما الكاهنة ثيونوي ويلزم أن يقنعاها بألا تخبر شقيقها ثيوكليمينوس بمَقْدِم مينلاوس.
يجري وضع خطة: سَيَتَنَكَّر مينلاوس في هيئة رسول ينقل خبر موت مينلاوس وستطلب هيلين من ثيوكليمينوس مراكب لتقيم مراسم جنائزية في البحر وفق التقاليد اليونانية. وستهرب هي ومينلاوس بواسطة هذه المراكب. يعيد يوربيديس كتابة نص قصة هيلين بحيث يكون الزوج مختطفًا شرعيًّا (سيجال ١٩٧١: ٦٠٦). تنجح الحيلة ويحاول ثيوكليمينوس — الذي يشعر بالسخط من كونه «احْتِيل عليه على نحو مثير للشفقة على يد امرأة» (يوربيديس ١٩٧٣: ١٨٧) — أن ينتقم عن طريق قتل أخته، الكاهنة ثيونوي. يدرأ «الأَخَوان المنقذان» — الديوسكوري، اللذان رفعهما زيوس إلى مصاف الآلهة — المأساة ويحولان حال ثيوكليمينوس إلى الرأفة ويحولان المسرحية إلى الكوميديا. حتى مع إنقاذ هذه المسرحية لسمعة هيلين، فهي تُظهر صعوبة القيام بذلك: فلكي يرفع اللوم عن كاهل هيلين كان عليه أن يعيد كتابة قصتها بالكلية. فالبديل ذو الظهور الخادع على نحو جذاب ومقنع ليس الشبح الذي على صورة هيلين بل السرد الميثولوجي عينه (رايت ٢٠٠٦: ١٤٢–١٥٧).
أضف إلى ذلك أن تعديل قصة هيلين بهذه الطريقة يجعل منها قصة غير قصتها. فهذه هي «هيلين حسب الأسلوب الجديد»، حسب صياغة أريستوفان، فيما أصبح لاحقًا بمثابة عبارة شائعة بعض الشيء (رايت ٢٠٠٥: ٥٠، ١١٦). أو أن هذه «من ليست هيلين طروادة»، كما يكتب نورمان أوستن، مُقترِحًا لا هيلين جديدة بل انتفاءً لكينونة هيلين؛ (١٩٩٤: ١١) إذ إنه — كما رأينا في الفصل الثالث — أن تكون هيلين طروادة يعني أن تكون شخصًا يتجاوز جنسيًّا. هيلين مسرحيات يوربيديس هي على حد سواء هيلين وليست هيلين. التشعب والبدلاء هما ببساطة أمران يلازمان قصتها بشكل جديد.
(٧) هيلين وسط السفسطائيين
إذا نظرنا في كتابات جورجياس من ليونتيني (لينتيني حاليًّا) في صقلية (٤٨٣–٣٨٥ تقريبًا قبل الميلاد) وتلميذه إيسقراط (٤٣٦–٣٣٨ قبل الميلاد) نكتشف مدافعَيْن عن هيلين. ألف جورجياس كتابه «في مديح هيلين» في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد. ومن المحتمل أنه يسبق زمنيًّا مسرحية يوربيديس «الطرواديات»، التي قُدِّمت عام ٤١٥ قبل الميلاد والتي يبدو أن المساجلة التي تحتويها بين هيكوبا وهيلين تدين في صياغتها إلى بلاغة جورجياس السفسطائية الجدلية. كتب إيسقراط «في مديح هيلين» حوالي عام ٣٧٠ قبل الميلاد. تستحيل مسألة استحقاقية هيلين للوم لدى جورجياس وإيسقراط إلى فرصة لاستعراضٍ بلاغيٍّ أكثر من كونها مناظرة حول الأخلاقيات. كما يشير ماثيو رايت، تُبْرِئ مسرحية «هيلين» ليوربيديس هيلين من اللوم بتقديم أسطورة بديلة، وفي نفس الفترة يُبْرِئ جورجياس هيلين من اللوم «ليس بإنكار فرارها مع حبيبها ولكن بتسويغ أفعالها» (٢٠٠٥: ٢٧٧).
يبدأ كتاب جورجياس «في مديح هيلين» بحتمية أخلاقية للخطابة: وهو العدل؛ إذ لا ينبغي على المرء أن يطري أو يلوم أولئك الذين يستحقون الإشادة أو اللوم فحسب، بل أيضًا أن يحرر أولئك الذين أطروا إطراءً غيرَ منصف أو افتُري عليهم ظُلمًا. تنتمي هيلين إلى الصنف الأخير. ويقصد جورجياس «تحرير المرأة المفترى عليها من تهمتها» (القسم ١، جورجياس ١٩٨٢: ٢١).
يرسخ جورجياس أولًا لتميُّز هيلين؛ فهي ابنة إله، وجميلة جمالًا ربانيًّا، ووحد جمالها حُكَّام اليونان على محبتها. إن هذه المقدمة ليست جزءًا من دفاع جورجياس المُزْمَع؛ إذ يختتم هذه الفقرة بقوله إنه الآن سوف ينتقل «إلى مستهل حديثي المُزمَع» (القسم ٣، جورجياس ١٩٨٢: ٢٣). كما رأينا في الفصل الثاني، يعطل الجمال السرد، أما هنا فإنه يوقف السرد من بدايته.
يعرض جورجياس أربعة أسباب محتملة «لمغادرة» هيلين إلى طروادة: (١) الضرورة الإلهية. (٢) الإجبار. (٣) إقناع بياني. (٤) الحب. ويفرغ سريعًا من أول سببين. فما كان لهيلين أن تجابه الآلهة، فهم وإن كانوا مسئولين، فهيلين ليست ملومة. وإن كان استُولِي عليها عنوةً، فإن خاطفها هو الذي يستحق التهمة والعقوبة. في هذه الحالة، لا تكون هيلين غير ملومة فحسب، بل إنها تكون ضحية، وتصبح شخصًا «عانى» (يستخدم المترجم الكلمة مرتين؛ إذ إن هناك صيغتين متمايزتين لها في اللغة اليونانية: القسمين ٧ و٨، جورجياس ١٩٨٢: ٢٢، ٢٣). ومن ثم فهي تستحق الشفقة (وهو استدلال تستنبطه هيلين ذاتها في مسرحية «الطرواديات» ليوربيديس).
يشغل هذان السببان المحتملان لصنيع هيلين فقرة واحدة لكل واحد منهما. يستغرق السبب المحتمل الثالث، وهو ملَكة الكلام، جُلَّ المُؤلَّف: إن هذا (المُؤلَّف) ليس مديحًا في هيلين بل في ملَكة الكلام. إن ملَكة الكلام لتمتلك قدرةً فائقةً على خلق تأثيراتٍ جبارةٍ (فهي تبدد الخوف والحزن، وتولد الفرح، وتُعظِّم الشفقة). يتناول جورجياس أنواعًا مختلفةً من الكلام: كالشعر، والتَّعْزِيم، وقول الزور، والإقناع. ويقارن الكلام بالمواد المخدرة: «بعض الكلام يجلب الحزن، وبعضه يجلب السرور، وبعضه يجلب الخوف، وبعضه يمنح المستمعين ثقةً، وبعضه يخدر العقل ويفتنه بحُجةٍ فاسدةٍ» (القسم ١٠، جورجياس ١٩٨٢: ٢٧). الانطباق على حالة هيلين مدسوس في طيات ما سبق: إنه المحاجِج، باريس، هو الجاني، وليس المحاجَج، هيلين، لأنها مضطرة، فعل بها كفعل المُخدِّر.
في عرضه للسبب الرابع، وهو الحب، يستفيض جورجياس في شرحه. فيُعرِّف الحب بأنه صنيع المشاهدة على الدماغ. ولذلك فإن هيلين — من ناحية انجذابها إلى باريس — عانت «علةً بشريةً وقصورًا في العقل»، وهو «ما ينبغي ألا يُنعَى عليه كسلوك شائن بل أن يُعتَبَر ابتلاءً» (القسم ١٩، جورجياس ١٩٨٢: ٢٩). وكذا، يُستنتج أنه لا يوجد مثال من الأمثلة الأربعة التي ساقها يمكن للمرء من خلاله أن «يعتبر اللوم الواقع على هيلين عادلًا».
إن دفاع جورجياس مُتحايِلٌ تحايلًا بيانيًّا من نواحٍ متعددةٍ؛ فهو يحصر الحالة في تصورات أربعة، وبفراغه منهم يشجعنا على أن نقتنع بأن كل التصورات قد فُرِغ منها. ويفرض علينا تعريفاتٍ، مثل ذلك التعريف للحب، ومن ثَمَّ يقيم الحجة تبعًا لبنوده المحدودة. (فهو يمتلك موهبة أن يجعل هذه المحدودية تبدو شاملة.) ومع ذلك فالأمر الأهم أنه يظهر كيف يمكن للأسلوب أن يُلهي عن (قصور) المضمون. تُعتبر الموازنة التراكيبية مع العبارات الطباقية والمقابِلة — التي نقلتها ترجمة دي إم ماكدويل بإنجليزية أوغسطية رشيقة — مُعادِلًا لغويًّا لموضوعه. يمكن للمرء أن يُغفر له أي شيء، ويتغاضى عن أي شيء، بسبب جماله. وما يَصْدُق على سفسطائي صِقِلِّي يَصْدُق على ملِكة أسبرطية.
أما إيسقراط فيكتب مستندًا على عزيمة تفوق أستاذه. وهو ينقد أساليب جورجياس في المحاورة ويشير إلى أن كتابه «في مديح هيلين» هو دفاع، وليس مدحًا. ويوضح بجلاء نسقه الإطرائي: «إنه تزكية … من أجل الإشادة بأولئك الذين يمتازون في أي خصلة نبيلة» (١٨٩٤، المجلد ١، القسم ١٥: ٢٩٤). ومع هذا يبدأ كتاب إيسقراط «في مديح هيلين» وينتهي فقط بهيلين، وبينهما يورد استطرادًا وسيطًا مُطوَّلًا عن ثيسيوس.
يبدأ إيسقراط، شأنه في ذلك شأن جورجياس، بالتركيز على المكانة السامية لهيلين. فهي كانت المرأة الوحيدة التي كان والدها زيوس؛ فوهبها زيوس الجمال، وهي ميزة أعظم من قوة هرقل (لأن الجمال «مُتَحَتِّم أن يجلب قوة مساوية إلى موضع الخضوع»؛ المجلد ١، القسم ١٦: ٢٩٥). يُنْظَر إلى حرب طروادة من قِبَل إيسقراط نظرةً إيجابيةً. ولمَّا كان ذيوع الصيت يأتي كنتيجة للقتال، فالتحلِّي بالجمال الذي يسبب القتال هو شكل (أنثوي) لذيوع الصيت الذي يحرزه الأبطال العسكريون في الحرب (المجلد ١، القسم ١٧: ٢٩٥).
كما رأينا في المقدمة، تتصل قصة هيلين بقصة ثيسيوس. يُقدِّم إيسقراط ثيسيوس على أنه عنصر هام من عناصر إعلائه لهيلين. فثيسيوس رغم كل أمجاده «اعتبر أن الحياة لا تستحق العيش» بدون هيلين (المجلد ١، القسم ١٨: ٢٩٥). يعي إيسقراط أنه لو كان ثيسيوس «رجلًا عاديًّا بدلًا من كونه واحدًا من أكثر الرجال المرموقين، لظل غير متضح إن كان حديثي مديحًا لثيسيوس أم اتهامًا له» (المجلد ١، القسم ٢١: ٢٩٦). لكن بيت القصيد لديه هو أن يُظْهِر «أن أولئك الذين أحبوا (هيلين) وأجلُّوها كانوا هم أنفسهم أكثر استحقاقًا للإجلال من بقية البشر» (المجلد ١، القسم ٢٢: ٢٩٦). يرخص له هذا بأن يُفَصِّل مآثر ثيسيوس وإنجازاته لست عشرة فقرة أُخرى، مُعترِفًا بأنه إذ كان قد بدأ في إطراء ثيسيوس، «لا أود أن أتوقف في منتصف المسير»، وفي نفس الوقت يعي «أنني أرتحل بعيدًا عن الحدود المُناسِبة لموضوعي» (المجلد ١، القسم ٢٩: ٢٩٨). فيستخلص «أننا لن نتمكن أبدًا من الإتيان بشاهد أصدق أو حجة أكثر إقناعًا على صفات هيلين الحسنة من تَقْدِير ثيسيوس»، وبعد ذلك يستأنف ما يرويه عن هيلين «حتى لا يبدو أنني أسهب طويلًا أكثر مما يلزم في نفس النقطة بسبب الافتقار إلى الأفكار» (المجلد ١، القسم ٣٨: ٣٠٠).
يُثني إيسقراط على هيلين لأجل مقدرتها على التوحيد بين الفرقاء. وفي الفقرة التالية يُثني عليها لأجل مقدرتها على التفرقة. لقد توحد آلهة الأوليمب في السابق عندما انخرطوا في قتال (على سبيل المثال، مثلما في حربهم ضد الجبارين (العمالقة))، ولكن «من أجل هيلين اقتتلوا بعضهم ضد بعض» (المجلد ١، القسم ٥٣: ٣٠٣).
ينتقل إيسقراط الآن إلى الجمال؛ «سطوته»، «تفوقه»، تأثيره علينا. تفي هذه الفقرات بمراد الإطراء أكثر من المحاورة. ولا تمضي قُدُمًا بالجدل (ولا ينبغي أن يدهشنا هذا: فالجمال لا يدفع السرد قُدُمًا؛ إنه يعيقه). يتناول إيسقراط الجمال من حيث «الغرض النهائي»، وهو حب الآلهة للجمال (المجلد ١، القسمان ٥٩، ٦٠: ٣٠٤-٣٠٥)، ومن ناحية — في خطوة تَحْدُث ببراعة ودون أي إشارات — تأليه هيلين. يخبرنا إيسقراط «أنها لم تحُزِ الخلود لنفسها فحسب، بل … نالت مقدرةً مساويةً لمقدرةِ الآلهة (بعبارة أخرى، إنها أُلِّهَت) …» (المجلد ١، القسم ٦١: ٣٠٥). وتستخدم هذه المقدرة لتحول إخوتها ومن ثَمَّ مينلاوس إلى آلهة. تختتم الفقرة ٦٣ بحديث هيرودوت الداعم لهذا القول، بما يطرحه من معلومات تاريخية: «حتى في وقتنا الحالي، في ثيرابنيس، في لاكونيا، يُقَرِّب الناس قرابين مقدسةً تبعًا لتقليد أسلافهم إكرامًا لهم؛ باعتبارهم «آلهة»، وليس باعتبارهم أبطالًا» (المجلد ١، القسم ٦٣: ٣٠٥، أقواس التنصيص من عندي).
ما يتابع إيسقراط القيام به الآن هو بالأحرى عملية تراكمٍ خطابيٍّ وليس القواعد الدقيقة للمحاورة. ويستمر بهذه الطريقة، مسجلًا بتسلسل زمني مقدرة هيلين الإلهية (مقدرة إصابة ستسيكورس بالعمى وإعادة بصره، مقدرة اصطناع «الإلياذة» على يد هوميروس). المغزى من ذلك أنه لكون هيلين تمتلك المقدرة على العقاب والمثوبة، فإنه يتعين علينا أن نكرمها. يمكن للتكريم أن يتخذ شكل عبادتها، وتقديم القرابين لها، باعتبارها «ذاتًا إلهية». ويجب على أولئك الفلاسفة الأقل حظًّا في الثراء أن يكرموها بأن يجتهدوا «في الحديث عنها بما يليق مع المادة التي في متناولهم» (المجلد ١، القسم ٦٦: ٣٠٦). وتلك المادة هي المادة التي يعالجها إيسقراط: مادة ميثولوجية تاريخية (تحكيم باريس)، وأسطورية تتعلق بسيرة الأبطال الأسطوريين (اختطاف هيلين على يد ثيسيوس)، ومادة تتصل بثقافات الشعوب (مزار هيلين بثيرابنيس)، ومادة جمالية (أهمية الجمال)، وسياسية (الوحدة اليونانية والتوسع الذي يلحقها).
دفاع إيسقراط هو دفاع واسع النطاق رغم أنه لا يُعتبر آخر من أدلى بدلوه في هذا الشأن: ما زال هناك «فرصة سانحة للثناء على هيلين أكثر مما فَعَلْتُ في هذا الحديث» (المجلد ١، القسم ٦٩: ٣٠٦). لقد استهل إيسقراط يقينًا مناطق للمحاورة. إلا أنه كذلك قد جعل لوم هيلين مستحيلًا بإغلاقه منطقة للمحاورة في مناورة لم يعلق حتى عليها. هذه المناورة هي تأليه هيلين.
يؤله كاتبان آخران هيلين؛ يوربيديس في مسرحيته «أوريستيس»، وشاعر الحقبة الإليزابيثية جون أوجل في كتابه «مراثي طروادة» (١٥٩٤)؛ وسوف أعود لاحقًا لأتناول أثرهم الأدبي (ومناورة التأليه) في هذا الفصل. دعنا أولًا ننتقل إلى العصور الوسطى والكُتَّاب الذين ألقوا باللوم على هيلين أو دافعوا عنها بمنحها الفاعلية (أو نفيهم امتلاكها لها).
(٨) الفاعلية (١): جوزيف من إكستر
هناك مناورة تُستخدَم في الدفوع وفي الاتهامات الموجهة لهيلين على السواء وهي مناورة منحها الفاعلية الجنسية. إن تصوير هيلين كأنما لديها الرغبة الجنسية، بل (كما سنرى) وكأنما هي المبادر بالرومانسية مع باريس، هو طريقة لتخليصها من وضعية الضحية. ويعتمد تخليص هذه الطريقة لها من اللوم من عدمه على التفاعل بين أفعالها ومشاعرها. ومن بين كل السرديات عن هيلين تتميز كتب العصور الوسطى عن طروادة بأنها تُكرِّس أعرض حيز سردي للقاء الذي يجمع باريس وهيلين.
باريس حسب رواية جوزيف يمتلك شخصية مزهوة بنفسها وساذجة في الوقت نفسه. ما إن يسمع بجمال هيلين حتى يغادر أسطوله ليحاول أن يراها، مطمئنًا «إلى حُسنه وعالِمًا بوسامة ملامحه»؛ فيسير جيئة وذهابًا بمحاذاة الشاطئ تتملكه لا مبالاة مغلفة بشعوره المفرط بذاته، يجرب إيقاع خطواته، ويتوقف، ثم، «مدفوعًا بالخوف من أن يُظَن أنه يتصرف على نحو مثير للريبة، ينقل بصره سريعًا نحو أشياء أخرى كما لو كان منبهرًا بكل ما يرى» (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٥). إن هذا شأن مُغرَم ساذج، وليس بطلًا رومانسيًّا.
تُبْدي هيلين — كما يروي لنا جوزيف — «ضبطًا أكثر للنفس»؛ فتتمكن بتكتم من النظر إلى باريس إذ «تختلس نظرات جانبية نحوه» وعن قصدٍ لا تبتسم. لكن جوزيف يسمح لنا أن نعرف ما تشعر به: إنها تود أن «تُظْهِر وجهها وثدييها العاريين»، ولكنها تكبح جماح نفسها (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٥). مرةً أخرى يعود جوزيف ليتشارك مع القارئ فيما تجيش به نفس هيلين: فهي «متهيئة لتلامُس الأيدي إذا دُعِيت ومع هذا هي راغبة في أن تُرْغَم» (١٣٧). يفسر باريس الموقف بطريقة صحيحة: فعندما يُطالِع «عينَي هيلين المغويتين» و«رغبتها المكتومة»، يدرك أن أمامه «فريسة سهلة» في متناوله (١٣٥–١٣٧).
يوجه جوزيف الآن خطابه إلى باريس، قائلًا له إنه ليس بحاجة للقلق بشأن الحاجة لاستخدام معسول الكلام؛ لأن لديه ما يغنيه عن الإغراء. بالإضافة إلى أن الظروف سانحة للاختطاف: المدينة خاوية، والريح في الاتجاه الصحيح. والأهم من ذلك أن هيلين «سهلة الانقياد» (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٧). إلا أنه عندما يقرر باريس أن يخطف هيلين، يستنكر جوزيف عليه انتهاكه لضيافة مينلاوس، وزواجه، والقواعد الأخلاقية العامة. لقد شجع الراوي بطل قصته وألجمه معًا، مثلما فعلت هيلين ذاتها.
ومع ذلك فلحظة الاختطاف مُتبادَلة من الناحية العاطفية. «وهكذا انتزع باريس الطروادي هيلين بينما تعطيه يديها، مشجعةً إياه بتعبيرات وجهها السعيدة، أو بالأحرى انتُزِع باريس على يديها» (جوزيف/بيت ١٩٨٦: ١٣٨، ١٣٩). إن هيلين ليست مجرد راغبة؛ إنها هي التي تقوم بالاختطاف. فإدانة جوزيف لها، وتعديله للمصطلح المثير للجدل («خطف») المستخدَم في السرد الخاص بها هما أمران جليان: «أنتِ هاربة، لم تكوني أبدًا مُختطَفة!» بل إن التعبير اللاتيني لهذا التعليق في ثلاث كلمات مركزة هو أكثر احتقارًا (١٣٨، ١٣٩).
(٩) الفاعلية (٢): كتب طروادة باللغة الإنجليزية الوسطى
يرى جون ليدجيت في مؤلفه «كتاب طروادة» أن الأدب هو فن البوح بالحقيقة: بدون الكُتَّاب، لكانت المعرفة قد لفظت أنفاسها (الاستهلال ١٥٩–١٦٧). رغم ذلك يُلقي ليدجيت باطراد باللوم على مصادره (ستاتيوس، وأوفيد، وجيدو، وتشوسر) على المادة والمواقف التي تتولد في مواءمة ليدجيت وتوسعته. ومن ثَمَّ هناك ٢٠ بيتًا من القدح في النساء السيئات (١. ٢٠٧٢–٢٠٩٦) تستند على جملة واحدة في المصدر. نجد في موضع آخر أن آراء جيدو الكارهة للنساء مفصلةٌ تفصيلًا مستفيضًا، مما يعطي المجال لليدجيت ليناهضهن: «جيدو يقول» (٣. ٤٣٠٣)، «يقول جيدو» (٣. ٤٣٢٩)، «ويضيف قائلًا» (٣. ٤٣٣١)، «وكذا هذا تلقين جيدو، يعلم الرب، وليس من عندي! … إنه يراهُن شرًّا لا بد منه» (٣. ٤٣٤٣، ٤٣٥٥). ينصح ليدجيت القارئ بأن يتجاوز ما يقوله جيدو بشأن النساء (٣. ٤٤١٣–٤٤١٧)، إلا أن ليدجيت نفسه لا يفعل ذلك.
ومن ثم يلتقي باريس بهيلين: «التي لم يجد منها أي شكل للمقاومة؛/ولم تجلس، لقد كانت مفعمة بالأنوثة،/فمن أجل باريس أخضعت نفسها تمامًا» (٢. ٣٨٣٤–٣٨٣٦). في الواقع إن خضوعها كان قد حدث بالفعل قبل مفاتحة باريس لها: «كان قلبها خاضعًا للقدر قبل أن تصل إلى هناك،/لذا كان خضوعها أقل مدعاة للخوف لديها» (٢. ٣٨٣٢–٣٨٣٧). المرات الثلاث التي ظهرت فيها كلمة «يخضع» في ثلاثة أبيات أبرزت رضوخها بكل جلاء.
في نهاية عمله «كتاب طروادة» يلتمس ليدجيت من قرائه أن «تحذفوا وتضيفوا حيثما يبدو لذلك ضرورة» (٥. ٣٥٣٩). ثانية هذه الدعوات للقراء هي — كما قد رأينا — نشاط محوري في القراءة وهي نشاط أساسي وهام من أجل قراءة السرديات التي تتناول هيلين. إن الكتب — كما يكشف ليدجيت في البداية — تروي الحقيقة عن الرجال بعد موتهم. بينما قد يوحي نقد ليدجيت المتكرر لكراهية جيدو للنساء أنه من المحتمل أن الكتب لا تروي الحقيقة عن النساء بعد موتهن. ومع هذا فإن ذلك إغفال لا يصححه كتاب ليدجيت. كما نرى طوال هذا الفصل، فإن ثنائية المديح واللوم هي أمر معتاد لديه.
على ما يبدو فإن شخصية هيلين عند كاكستون موضوعة في قالب كونها هي المتلقية لنظرة الذكر. يلاحظ باريس أنها بالغة الجمال حتى «إنه بدا مقبولًا لدى أولئك الذين أبصروها أن الطبيعة صنعتها لتُطالَع وتُرى» (لوفيفر ١٨٩٤، المجلد ٢: ٥٣١). يوحي الإطناب في («تُطالَع وتُرى») بأن هيلين ينبغي أن يُنظر إليها مرتين، وهي عبارة العصور الوسطى المعادلة لعبارة «تستحق نظرة أخرى.» في البيت التالي تزدوج النظرة بطريقة مختلفة إذ يتطلع كلٌّ من باريس وهيلين إلى الآخر: «وكما نظر إليها، بالمثل نظرت هيلين إليه أيضًا، مرارًا وتكرارًا.» تأخذ هيلين الآن زمام المبادرة: فهي تعطي «دلالة أو إشارة لباريس أنه اقترب منها» (٥٣٢). عندما يغادر باريس المعبد حيث تجري كل هذه المفاتحات البصرية، «أتْبَعَته هيلين بناظريها أيضًا بأبعد ما تستطيع» (٥٣٢). يشكل التطلع الإطار لهذه الواقعة، الذي فيه تقابل مشاهدة هيلين لباريس مشاهدته لها في بادئ الأمر. التطلع في الحالتين هو تصرف مقصود ومادي من قِبَل المُشاهِد: فباريس ««بدأ بشدة» في التطلع إليها» (٥٣١، أقواس التنصيص من عندي)، «هيلين «أتْبَعَته» هيلين بناظريها أيضًا بأبعد ما تستطيع» (٥٣٢، أقواس التنصيص من عندي). ففاعليتهما البصرية متساوية.
هذا التساوي يتغير على متن السفينة حينما — كدأب شخصيات هيلين في الكتب الأخرى التي تتناول طروادة — تذرف هيلين الدمع. عندما يعدها باريس أنها سوف تكون زوجته، وليس سجينته، تجيب هيلين تصريحه بالتسليم: «لا أمتلك مقدرة على مقاومة هذا الأمر» (لوفيفر ١٨٩٤، المجلد ٢: ٥٣٦). والمقدرة التي تنقصها ملتبسة: أهي قوة حَرْفية تنقصها (فهي كامرأة ضعيفة ليس في مقدورها أن تتغلب على ظروفها الملموسة الحاضرة)؟ أم أنها طاقة شعورية (ليس في استطاعة قلبها أن يقاوم)؟ عندما يعلق ليدجيت: «وهكذا استعادت هيلين سكينتها بعض الشيء.» ليس واضحًا إن كانت أداة الظرف «هكذا» تعود على تسليمها أم على وعود باريس. تقدم الجملة التالية بعض المساعدة: «وبالفعل أرضاها باريس بكل ما في وسعه &» (٥٣٦). فباريس يمتلك القوة التي تنقصها؛ قوة ذكورية أنجلوساكسونية في مقابل مقدرتها الأنثوية الفرنسية، والرمز الذي يحوي إشارة رقيقة «&» يلمح إلى طبيعة تلك القوة.
بعد ذلك بعشرة أعوام، وفي سياق غير معتاد في السرديات التي تتناول طروادة، توافق شخصية بريام في عمل كاكستون على إعادة هيلين إلى اليونانيين. ويعد اليونانيون (بتَصنُّعٍ) على «ألا يصيبوها بُضرٍّ» رغم «الشرور الجسام والمساوئ التي بدرت منها» (لوفيفر ١٨٩٤، المجلد ٢: ٦٦٥؛ قارن ٦٦٦، ٦٦٨). وفي هذا الموضع حُدِّثَت عقوبة الرجم اليونانية إلى عقوبة العصور الوسطى الحرق على الخشبة (عقوبة اختُصَّت بها الساحرات والهراطقة، وللنساء اللواتي ارتكبن جرائم القتل، أو الحرق العمد، أو السرقة، أو الخيانة الصغرى). وحدها فصاحة يوليسيس هي التي تحول دون هذه العقوبة.
يختتم كاكستون روايته بلفت الانتباه إلى مناحي الاختلاف بين السرديات التي تتناول طروادة: «إذ أصدر رجالٌ متعددون كتبًا متنوعة لا تتوافق في كل النواحي» (لوفيفر ١٨٩٤، المجلد ٢: ٧٠١). ملاحظته هذه صحيحة خاصة بشأن الطرق التي بها يُوجَّه اللوم أو يُعاد توجيهه أو يُرْفَع. إن مسألة اللوم أو البراءة في أي نص من النصوص التي بُحِثت في هذا الفصل ليست مسألة قطعية. ثنائية اللوم والثناء في النصوص تتوازى مع احتياج السرد لهيلين وإحجامه المتزامن عنها؛ فكلٌّ من الجمال واللوم يشكلان جزءًا من نمط الثنائيات والنظائر الذي يلازم قصة هيلين. ويتحول الثناء إلى لوم والعكس بالعكس.
(١٠) جورج بيل، «حكاية طروادة» (١٥٨٩)
في القرن السادس عشر كان لدى جورج بيل معالجة مختلفة لدعاوى الفاعلية واستحقاقية اللوم المتنازعة. في قصيدته السردية «حكاية طروادة» لا يُبْرِز التعددية أو التناقض بل البدائل، طارحًا تصورين لما قد يكون قد حدث أو لم يحدث عندما غادرت هيلين أسبرطة. وفي هذا الصدد تبطل خاتمته تمامًا اللغة الواثقة التي تُلقي بها بنية القصيدة اللوم على هيلين.
كان لبيل علاقة طويلة بهذا العمل الأدبي جرى فيها كثير من التنقيحات. فمن الأرجح أنه كتبه حينما كان طالبًا بأكسفورد بين ١٥٧٢ و١٥٧٩ (انظر بيل ١٩٥٢: ٣٧). نُشرت القصيدة لأول مرة عام ١٥٨٩، إلا أن نظمها يسبق زمنيًّا نشرها بأعوام عديدة، إذ إنه في رسالة الإهداء يشير بيل إليها بأنها «قصيدة قديمة تخصني».
المقطع الأخير استثنائي بسبب ثلاث لحظات تأويلية؛ الأولى: هي البداية البديلة لقصة هيلين التي فيها باريس «حمل هيلين حينئذٍ على خلاف إرادتها» (بيل ١٩٥٢: ٤٩٣). الثانية: هي تقديم التعليق الأخلاقي في صيغة تبرئة مترددة؛ ««حكاية» قد تقلل إلى حد بعيد من «جرمها»» (أقواس التنصيص الداخلية من عندي). الثالثة: هي محاولة التخيل الشعوري — هل أحبت هيلين خاطفها؟ — التي يصحبها تسليم بأننا لا يمكننا إجابة ذلك التساؤل («لا يمكنني أن أعرف»)، ويتبعها عدم إمكان قبول تلك الإجابة غير القطعية؛ إذ — رغم الإحساس بالحسم الذي توحي به التفعيلتان التي يبتدئ بهما البيت الأخير خماسي التفعيلات («لا يمكنني أن أعرف») — يضمحل البيت نحو «ولكني قد أتخيل ذلك» المبهمة والتخمينية. لماذا يمكنه أن يتخيل ذلك (مع أخذ أنه لا يقدم أي دليل في الاعتبار)؟ ألم يكن ممكنًا له بالمثل تخيل العكس؟ لماذا يجهر الآن بإمكانية الاختطاف بينما هناك — في أبيات سابقة في القصيدة — فقرات مطولة جعلت حب هيلين واضحًا، وأطلقت عليه وصف «ثورة» ضد مينلاوس، ومهدت الأمر للبيتين المرحين: «ولأن قلبها اختُطِف من جسدها،/إلى طروادة ذهبت هيلين هذه مع حبيبها» (١٧٧-١٧٨). حتى عندما يختتم بيل قصيدته، فإنه يبسطها ثانيةً، مسلمًا بإمكانية وجود تصور بديل، ومختتمًا بقصة تتلو القصة الأصلية هي عبارة عن محض تخمين. إنه — ونحن — لا يعرف عن تفاصيل الأحداث أكثر مما نعرف عن مشاعر شخصيتها الرئيسية. المقطع السردي البديل الأخير «قد تقلل إلى حد بعيد من جرمها» ولكن ليس هناك اعتقاد راسخ لدى المؤلف بشأن ما إذا كانت ستؤدي إلى ذلك أم لا. الأمر متروك لنا لنقرر.
(١١) تأليه هيلين: جون أوجل، «مراثي طروادة» (١٥٩٤)
إن هذه هي أول إشارة صريحة في الأدب إلى هيلين كإلهة. وهي تعيد وضع مكيدة أوريستيس لقتل هيلين لتصبح تجديفًا خطرًا وليس عدالة خاطئة كما يرى هو الأمر. إنه هو — وليس هيلين — الذي ينجو بصعوبة.
تقدم نصوص أخرى هيلين بطريقة أقل دراميةً — وبدرجات متفاوتة من الضمنية والوضوح — كإلهة. (في «الإنياذة»، على سبيل المثال، خلود مينلاوس يرجع إلى المنزلة الإلهية لزوجته؛ وفي «مديح» إيسقراط، كما رأينا سابقًا، تنال هيلين «مقدرةً مساويةً لمقدرةِ الآلهة.») ولكن لربما كان أكثر سياقات المناورات البلاغية استثنائية يأتي في نهاية «مراثي طروادة» لجون أوجل (١٥٩٤).
بالمقارنة بمعظم نصوص عصر النهضة الأدبية — التي عادة ما تُدين هيلين — قصيدة أوجل السردية هي رواية عن هيلين تتعاطف معها بشكل غير معتاد. وهي مصاغة في إطار حلم، حيث ترثي فيها مدينة طروادة لدمارها. تقدم المدينة/القصيدة سلسلة من المراثي من خلال عائلة هيكتور الملكية الطروادية. مثلما هو الحال في «الإلياذة»، مرثية هيلين هي الأخيرة؛ ولذلك تتأنى. ومثلما في «الإلياذة» كذلك تبدو هيلين ضعيفة في غياب نصيرها: «الآن وبعد موت هيكتور، من الذي سيقاتل دفاعًا عن هيلين؟»
يتلو رثاء هيلين سرد باريس. فتبكي على جسد هيكتور في ١٢ مقطعًا شعريًّا من الرثاء يبلغ ذروته في لحظة تشبه لحظة مسرحية الملك لير تظن عندها هيلين خطأً أن هيكتور سيُبْعَث. ثم تطرح دفاعًا منطقيًّا عن وجودها في طروادة، ملقيةً باللوم على جونو بسبب تصميمها على تدمير المدينة. وكشأن باريس، ترى تدخُّل فينوس في صورة «دافع خفي»: ««إلى جانب ذلك» فإن فينوس أمرتني أن آتي» (أقواس التنصيص من عندي). وتحتج على أنها «بإجحاف … يُلقى عليها اللوم» وتستخلص أنه ما دامت تلك كانت مشيئة الآلهة فإن «هيلين ليست بعاهرة».
إن كان لدى هيلين منطق جدلي من جانبها، فإنه لدى الشاعر وسيلة أكثر إقناعًا: الاستعارة المسيحية؛ إذ كان قد قدم مشاهد مسيحية سابقًا حينما — واصفًا سقوط عبرات هيلين على صدرها — يعلق «من كان مضطجعًا هناك، قد يحسب أنه كان مباركًا». والآن يروي لنا أن هيلين تتكلم «بصوت ملاك». تنهار الفجوة داخل البيتين بين الكلام كالملاك وبين كونها ملاكًا بالفعل عندما يسأل الشاعر المقادير: «لِم لا تعيدون إليه نور عينيه، الآن إذ يصلي صوت ملاك كهذا.»
تلتمس هيلين «بحُسن سماوي». وتقبل باريس وعندما يستنشق نَفَسَها، يجعل ذلك رئتيه «مباركتين» ويمنحه «غبطة». ولاحقًا حينما تجلس هيلين بجانب أندروماك، تُوصف بأنها «قديسة».
جمع أوجل سابقًا بين شعر وثني وتشبيه مسيحي؛ فهوميروس يكتب «بلسان ملائكي». يُربَط لاحقًا بين الصوتين الشعري والملائكي عندما يُقال لنا إنه لا أحد، ولا حتى «كلمات ملاك» يمكن أن تصف شدة حزن طروادة. إلا أن التصويرات المتعلقة بهيلين تختلف عن هذا النوع من المبالغة العابرة؛ فهي ثابتة، ومتكررة، ومتزايدة، فننتقل من هيلين كملاك إلى مانحة للغبطة والبركة، وصولًا إلى قديسة.
يمكن للأدب الوثني أن يؤله هيلين. بينما لا يمكن للأدب المسيحي الموحد أن يفعل ذلك، ولكن يمكنه أن يقدسها. يختص الفارق بالأمور اللاهوتية، إلا أن تكتيك التبرئة هو نفسه.
(١٢) الرغبة الناتجة عن المحاكاة، وكبش الفداء، والتجديف (التكلم بِشرٍّ عن المقدس)
بما أنني مهتمة في هذا الكتاب بالفجوات في قصة هيلين، أود الآن أن أتحول إلى اللحظات الأولى التي فيها تختفي هيلين عن أنظارنا؛ عند قَسَم الخُطَّاب وعند بداية الحرب. فلنتأمل اللحظة الثانية أولًا. يلخص بناء حرب طروادة نظرية رينيه جيرار عن التنافس القائم على المحاكاة (٢٠٠٠ و٢٠٠٥). يرى جيرار أن الرغبة تنشأ عن المحاكاة. ويميز جيرار بين النزعة الغريزية والرغبة: فالنزعة الغريزية البشرية بيولوجية بينما الرغبة مكتسبة بالتعلم. لكون البشر يتعلمون بتقليد الآخرين، ولكوننا لا نعرف ما نرغب فيه، فإننا «نقلد رغبات الآخرين» (كيروان ٢٠٠٥: ١٩): فنريد ما يريدون ونريد الحصول على ما يمتلكون. يقدم الأطفال أمثلة حية على التنافس القائم على المحاكاة بينما يُمارس؛ وكذلك أيضًا تفعل الرأسمالية، التي تشكل وتضفي الطابع المؤسسي على محاكاة التملك في صورة الإعلانات. ولكن في حين أن الأغراض يمكن أن تتضاعف وتنتج على نطاق واسع، ليس هذا ممكنًا في حالة البشر. ومن هنا فإن الرغبة الناتجة عن المحاكاة تؤدي إلى التنافس وعادةً إلى الصراع.
إن حرب طروادة هي تنافس قائم على المحاكاة دام لأكثر من عِقْدٍ. يريد الطرواديون هسيونيه لأنها في حوزة اليونانيين، ويريد اليونانيون استعادة هيلين لأنها في حوزة الطرواديين، ويريد الطرواديون الاحتفاظ بها لأن اليونانيين يريدون استعادتها، وأجاممنون يريد بريسئيس لأنها في حوزة أخيل، ونيوبتوليموس يريد هيرميون لأنها في حوزة أوريستيس وهلم جرًّا. ومع استمرار المنافسات في التصاعد، تختفي المرأة عن الأنظار؛ على الأقل باعتبارها امرأة. كما توضح مسرحية «ترويلوس وكريسيدا»، هيلين هي ««موضوع» يتعلق بالشرف» (٢. ٢. ١٩٩). في حالة الرغبة القائمة على التنافس، يفقد المرغوب أهميته. يمكن للمرء أن يطبق نفس المنطق على قَسَم الخُطَّاب، حيث يتعاظم التنافس القائم على المحاكاة من اثنين إلى مائة؛ إذ يرغب الأمراء والملوك اليونانيون في هيلين لأن أمراءً وملوكًا يونانيين يرغبون فيها.
عندما تظل الرغبة الناتجة عن المحاكاة عند مستوى التنافس ولا تأخذ سبيلها إلى الصراع الكامل، يمكن أن يكون ذلك أمرًا صحيًّا؛ إذ إن لها تأثيرًا موحدًا، يربط بين الناس وبعضهم في أهداف مشتركة. نرى ذلك في قَسَم الخُطَّاب. وكما رأينا سابقًا، يستشهد العديد من النصوص كذلك بهذه الفائدة فيما بعد الصراع في محاولة لتبرير فقد هيلين والحرب من أجل استعادتها.
موضع الاختلاف بين سرد حرب طروادة ونظرية جيرار (نسبةً إلى رينيه جيرار) هو في تناولها لمسألة كبش الفداء. فيرى جيرار أنه عندما يؤدي التنافس القائم على المحاكاة إلى الصراع، فإن الخلل الاجتماعي يجب مداواته بالإقصاء أو بالتضحية بضحية محددة: كبش الفداء. عادةً ما يكون الضحايا المختارون هم سبب الأزمة؛ فتعالج التضحية بهم الفوضى التي أثاروها. ومن ثَمَّ فإن الموقف تجاه كباش الفداء بعد موتهم/إقصائهم هو خليط معقد من الخير والشر، الثناء واللوم.
من المفيد مراعاة الاتفاق في المعنى من الناحية الاشتقاقية عند تناول نصوص عن هيلين. فمن خلال السلوك اللغوي المتعارض لتلك النصوص، واتجاهها الذي يحوي الاتهام والتبرئة، وتوتريها المتنازعين، يبدو الأمر كما لو كانت تدرك أن لوم هيلين هو عمل من قبيل التجديف. استبعادها من المشهد كما يفعل يوربيديس عندما ينقذها «التدخل الإلهي» للديوسكوري من الهلاك بسيف أوريستيس، أو باستبعادها من اللغة الدنيوية كما يفعل أوجل بمفردات القديسين المسيحية؛ البركة والملائكة، يذكرنا بأن جوهر هيلين هو الغياب. الجوهر، الغياب، فوق الإدراك: «خارج عن نطاق المدركات، يُعجِز الأفهام» (تايلور ٢٠٠١: ٣٠). هناك شيء يكاد يكون لاهوتيًّا بشأن الفجوة النصية والمادية، وصعوبة التجسيد، في سرديات هيلين. أيضًا النصوص في هذا الفصل التي تناقش لوم هيلين تُظهِر تشابكًا لا مناص منه بين معضلة أخلاقية ومعضلة وجودية.
يلخص ييتس هذا المأزق — ويحله في الوقت نفسه — في التساؤل البلاغي الذي يختتم به قصيدة «ليس هناك طروادة أخرى»: «ماذا كان يمكنها أن تفعل، كونها من هي؟» النصف الأول من البيت يتعلق بالتصرف، والأخلاق، واللوم، والمسئولية، والثاني عن الوجود. والثاني يحسم الأول: كونها («من هي») يؤدي إلى الفعل («أن تفعل»). ومن ثَم فإن اللوم هو مبدأ غير ملائم، فهو مبدأ متصل بالقرارات والفاعلية (كما يقر هو في البيت الافتتاحي للقصيدة: «لِمَ أُنحي باللائمةِ عليها؟») لكن هيلين — «كونها من هي» — تفتقر إلى الفاعلية؛ لم يكن هناك درب آخر لتسلكه («ماذا كان يمكنها أن تفعل؟»)
هيلين في شعر ييتس — كما رأينا في الفصل الثاني — ليست جميلة هوميروس ولكنها جميلة أيرلندا: مود جوون، مصدر «شقاء» ييتس. أُغْرِم ييتس بحب مود من النظرة الأولى عام ١٨٨٩ وأصبحت ملهمته لأكثر من ٨٠ قصيدة أطلق عليها في هذه القصائد أوصاف بطلات وإلهات سلتية وكلاسيكية. بحلول عام ١٩٠٨ — عندما كتب «ليس هناك طروادة أخرى»، كان قد صار لمود ثلاثة أطفال (عاش منهم اثنان)، وخليل فرنسي، وزوج أيرلندي انفصلت عنه فيما بعدُ انفصالًا قانونيًّا (عام ١٩٠٦)، وزواج عذري من ييتس عام ١٨٩٨، وعلاقة معه من يونيو ١٩٠٨ إلى مايو ١٩٠٩ (صارت كاملةً في ديسمبر من عام ١٩٠٨). في عام ١٩٠٢ لعبت دور كاثلين ني هوليهان في مسرحية ييتس التي تحمل ذلك الاسم؛ جمالها ونشاطها السياسي (القومي) يتوحدان في أعمال ييتس مع نموذجين مترابطين من المُثُل العليا وهما الجمال وأيرلندا.
مع أن القصيدة لها جذور في السياسة المعاصرة وفي حياة الشاعر الشخصية، فإنها توضح العديد من سمات سرديات هيلين. فبطلتها غائبة: مود-هيلين مذكورة كضمير غائب فقط، مثل «هي». وجمالها يوصله أثره (وأثرها) على الآخرين؛ فهو/هي يولد/تولد العنف. هذا إلى جانب أن مود — كشأن هيلين — تمتلك فاعلية سلبية. في البيت الأخير («أكان ثمة طروادة أخرى لتحرقها؟») — كما يلاحظ ماكنزي — يبدو الأمر «كما لو كانت هي التي قد استخدمت شعلة الحرق بنفسها» (٢٠٠٢: ١٨٧ن).
والأمر الأكثر ملاءمة لهذا الفصل: رغم أن القصيدة تهدف إلى تبرئة مود-هيلين، فإنها تنجح في إلقاء اللوم عليها. فالافتتاحية «لِمَ ينبغي أن أُلقي باللوم عليها إذ هي ملأت أيامي/بالتعاسة» تقدم أسباب اللوم التي هي على وشك أن تُغْفَر، الأسباب التي يجري تبيانها وبسطها على مدى عشرة أبيات. اللوم في القصيدة «يُسحَب ولكنه مع ذلك يتشبث بالوجود رغمًا عن المحو» (ماكنزي ٢٠٠٢: ١٨١). يدخل طيف الوجود هذا، الذي ينطبق على كل سرديات هيلين إلى القصيدة حتى قبل بيتها الأول: فعنوان القصيدة يستحضر ذكر مدينة بريام فقط ليؤكد على اندثارها.
في قصيدة مكرسة للغفران، يقترح ييتس سبيلين لتبرئة مود-هيلين؛ السبيل الأول: عبر إلقاء اللوم على الدهور («زمن كهذا»). الثاني: عبر الجدال بأن مود-هيلين لا يمكن لومها على أحداث سبَّبها وجودها: «ماذا كان يمكنها أن تفعل، كونها من هي؟» فتلك مسألة وجودية وليست مسألة أخلاقية؛ مسألة تتعلق بالوجود، وليس باللوم. لا يمكن للتصنيفات الأخلاقية والوجودية أن تتداخل؛ فلا يمكنك لوم شخص ما على كونه على ما هو عليه. يوضح ييتس بجلاء ما تقر به النصوص الواردة في هذا الفصل ضمنيًّا فقط؛ وهو أن هيلين — كرمز الجمال وعنوان الرغبة — لا يمكن أن تكون مسئولة شخصيًّا عن الممارسات والتأثيرات الناتجة عن الرغبة. هذه هي معضلة التصنيف التي جابهناها في الفصل الثاني: فأن تكون أنت التصنيف ذاته يعني في الوقت ذاته أن تكون خارج ذلك التصنيف.
هذه النقطة ممثلة في فترة أوائل العصر الحديث في استخدام اسم هيلين ككلمة متداولة على السلوك الجنسي المستحق للوم. فعندما يستخدم معاصرو فترة أوائل العصر الحديث اسم هيلين كاسم لغوي دارج، يتضح لنا أيما اتضاح كم كانت هيلين خارجة عن نطاق التصنيفات الاعتيادية، إذ تصبح هي ذاتها التصنيف.
(١٣) التسمية والوصم
هذا هو أحد الشواغل العميقة لعصر النهضة، العلاقة بين الاسم والهوية. اشتملت قواميس عصر النهضة على أسماء فعلية (كأسماء أماكن، أسماء من الكتاب المقدس، أسماء من الأساطير القديمة) معتبرةً إياهم كلمات لها معنى. كان معنى هيلين هو «الجمال» كما في قصيدة ووترمان من القرن العشرين؟ أكان يعني الخلاعة، الخيانة، الفاجعة؟ أم كان يعني الأمرين معًا: جوهرٌ لا أخلاقي يغلفه جمالٌ خارجي؟
بيْد أنه عند كُتابٍ كثيرين، كان هناك معنًى لاحق: السلوك الجنسي اللامسئول. في قصيدة دي لا مارشيه «الحاج المسافر» (١٥٦٩) يُقدِّر الشاعر عدد النساء الجميلات اللواتي لا ينقدن للهرب الآثم مع العشيق: «ألف هيلين الآن يتسلطن بجمال أو بمظهر، ولكن قليلات جدًّا اللواتي يحفلن بالابتعاد عن ذاك الإثم لأجل الهرب». في «صفصافة الشاعر» (١٦١٤) يتحدث ريتشارد براثوايت عن الدمار على يد «هيلين». في واقع الأمر يفسر براثوايت المعنى المقصود من الاسم اللغوي الذي يورده: إنه يعني الشهوة. فالشهوة هي «مَفْسَدَة الإمبراطوريات المزدهرة»، وتُختَزَل في كلمة «هيلين»، و«يمكن أن تُعرَّف على هذا النحو: إنها لا تُلقي بالًا للوسائل كي يمكنها أن تظفر بمَرامَها؛ فمبتغاها هو أن تُشبِع ولعها المفرط، الذي هي بنَيله تأمن ثبورها، وهو خراب البلد».
ويتضح ذلك في «الجزء الثاني من مرآة لرجال القضاء» (١٥٧٨) بواسطة توماس بلينيرهاسيت. ففي أنشودة تطويب لوالدة قسطنطين، يتساءل بلينيرهاسيت إن كان هناك «أي إلهة … يمكن مقارنتها بالملكة هيلينا (هيلانة)؟» وإذ يفطن إلى الفخ الذي أوقع نفسه فيه، يوضح سريعًا: «ليست تلك التي من اليونان، التي جلبت الفناء المبرم لطروادة المزدهرة، بل هذه التي من بريطانيا، التي خلصت وطنها الآيل إلى الخراب من الاستبداد الأجنبي». في إنجلترا أوائل العصر الحديث، كان اسم هيلين حينذاك يعني ملكة مينلاوس، أو ملكة باريس، وليس والدة قسطنطين.
بالاسم العلَم، اخْتُرِق جدار الشيئية الصلد. القائل بأن ما له اسم معبر عن ذاته ليس بممكنٍ أن يكون «شيئًا» … فهو عاجز عن الاندماج التام في التصنيف؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك تصنيف مناسب له لينتمي إليه؛ إنه هو التصنيف المختص بذاته. (مقتبس من كتاب ناتانسون ١٩٧٩: ٥٣٣)
حتى الآن في كل فصل من فصول هذا الكتاب رأينا أن هيلين «عاجزة عن الاندماج التام في التصنيف»؛ فهي «ذاتها» الجمال، وهي «ذاتها» المرأة المحتجزة. وعندما يُستخدَم اسمها كاسم لغوي يعبر عن الشهوة أو اللوم فإنه يعضد وجهة نظر ييتس بشأن كونها ليست تحت طائلة اللوم؛ إذ كاسم لغوي شائع هي خارج التصنيف الذي يحمل اسمها، ومن ثَمَّ فلا يمكن أن تكون مذنبة بما تجسده «بكينونتها».
•••
بحلول الحقبة الفيكتورية، كان الجمال قد أصبح الفكرة الذهنية الرئيسية المتزامنة مع الاسم «هيلين»؛ إذ عندما يستخدم هنري رايدر هاجارد وأندرو لانج اسم هيلين كاسم لغوي شائع (فبطلة الرواية ليست هيلين بل هي «الهيلين») في روايتهم «رغبة العالم» (١٨٩٠)، لا يعبر الاسم الجامع عن كونه معيارًا للخزي بل هو مثال الجمال. كيف تحوَّل اسم علم واسم لغوي يرمز إلى الإثم والخزي إلى اسم علم/اسم لغوي يعني الجمال؟ الانتقال من اللوم إلى الجمال — شأنه كشأن الانتقال من هيلين اليونان إلى هيلين طروادة — يتضح أولًا في دراما عصر النهضة. يتعامل شكسبير بتعاطف مع الاسم «هيلين» (انظر ماجواير ٢٠٠٧: ٧٤–١١٩) وجمال هيلين وليس خزي هيلين هو الذي يتخيله ثيسيوس في ملامح أنثوية. يُخَلِّد فاوستوس شخصية مارلو «الوجه» الذي دفع بألف سفينة، ويقرر طلاب فاوست أن هيلين اليونان كانت أجمل سيدة — وليست الأكثر استحقاقًا للوم — منذ الأزل.
إن أنشودة فاوستوس هي أشهر استجابة لجمال هيلين. أريد الآن أن أبحث سياقاتها: أسطورة فاوست التي توارثها مارلو والكتَّاب الذين اقتبسوا الأسطورة من بعده. ذلك هو موضوع الفصل الخامس.