مُحاكاة هيلين
قصة تبدو في تنويعاتها التي تخلو من الضرر مُلائِمةً مُلاءمةً بارزةً لعملٍ كوميدي، إن لم يكن هزليًّا. (جوتز شميتس، «سقوط النساء في الشعر السردي الإنجليزي القديم»)
اسخر من هيلين. إن أخذتها بجدية فسوف ينتهي بك الأمر بالحصول على بضع لوحات ما قبل رفائيلية ضعيفة فنيًّا وبعض الأفلام الرديئة حقًّا. (أدريان موربي، «يا إلهي، من الصعب أن تكون هيلين»)
كلما ازددت تفصيلًا، ازددت شموليةً. (ديريك والكوت في «خارج عن المألوف: ديريك والكوت» لروبرت هَمنر)
لطالما كانت قصةُ هيلين، منذ هوميروس إلى وقتنا هذا، قصةً يصعب روايتها. كبدايةٍ، ليس هناك دور لهيلين. في «الإلياذة» حينما تقرن سيرتها بسيرة أجاممنون أو مشاعرها بموت هيكتور، فإن هذه محاولة يائسة كي تؤكد وجودها في السرد. يقر شكسبير هذه المعضلة في «ترويلوس وكريسيدا»، مُقدِّمًا هيلين لنا في مشهد وحيد: إنه مشهد ينطوي على «هبوط مدهش في إيقاع الأحداث» لأنه «ليس هناك دور لهيلين في هذه المسرحية. كل ما في الأمر أنها يجب أن تكون «موجودة»» (رتر ٢٠٠٠: ٢٣٢). بيْد أن تصوير وجود محض هو أمر عسير. إن وصف خوائها يُخَلِّف فجوة سردية، ومع ذلك فإن ملء هذه الفجوة (بمنحها مشاعر ورغبات) يسفر عن فصاحة خاوية وسطحية؛ كاختزال حرب طروادة في فعل جنسي عمدي. وغالبًا ما تقترن هذه العمدية، بشكل متناقض، مع السلبية، كما نرى في كتب العصور الوسطى التي تتناول طروادة، أو في فيلم وولفجانج بيترسن «طروادة» (٢٠٠٤). هيلين التي تؤدي دورها ديان كروجر في فيلم «طروادة» ترغب بعجزٍ: فهي تتكلف الابتسام وتذرف الدموع، ومحاولاتها لخلق مأساة شخصية تؤدي إلى تضييق النطاق العاطفي بدلًا من توسيعه. إذا كان جوهر هيلين هو مجهوليتها، فإن محاولات وصفها بأنها قابلة للمعرفة إنسانيًّا ستكون محاولات زائفة، وستجنح بنا بعيدًا بدلًا من أن تُقربنا من كنهها.
كي يفلح الكُتَّاب في تصوير هيلين، لا بد لهم من مواجهة هذه المعضلات مواجهة مباشرة: لا بد لهم من نقلها إلى إطار مختلف، أو تعديلها، أو تقديمها في صورة مختلفة حتى تصبح هيلين جديدة تمامًا وليس صورة مخففة من الأصل. هناك وسائل عديدة للقيام بذلك ولكن جميعها يحمل بين طياته إخراجها من المأساة أو الملحمة. يمكن تحويلها من الناحية النوعية إلى إطار كوميدي/هزلي/هجائي (كما في المسرحيات الساتورية اليونانية؛ مسرحية «هيلين الجميلة» لأوفنباخ على نهج «أوبرا بوف» الكوميدية الساخرة؛ الفيلم التليفزيوني «عن موكناي والرجال»)، ويمكنها أن تصبح هيلين عصرية في قالب عصري: الرواية (رواية جين ستانلي «ابنة الآلهة» ١٨٨٦)، ورواية فيرجينيا وولف «السيدة دالواي» (١٩٢٥)؛ أو يمكن إعادة توطينها عِرقيًّا، منتقلةً من اليونان القديمة إلى الكاريبي (قصيدة ديريك والكوت الملحمية «أوميروس»). يستجلي هذا الفصل الصيت العام الذائع لهيلين.
في كل الأمثلة التي أناقشها فيما يأتي، نجد أن قصة هيلين تجري محاكاتها. كما رأينا في الفصل الخامس، «المحاكاة (الباروديا) هي ترجمة تنطوي على الذكاء وخفة الروح» (شليجل ١٩٥٧: ١١٨، قطعة أدبية ١١٠٨)؛ فهي تنقل نصًّا مُضيفًا دون طمسه؛ فيستطيب القارئ النقل، مُمَيِّزًا الفضل الأدبي للنص المضيف وكذلك التجديد في النص المستحدث. في هذا الفصل تحوم قصة هيلين وراء تعديلات المحاكاة المكانية وتلازمها في أرض الجنيات الإليزابيثية، وإنجلترا الفيكتورية، وجزر القرن العشرين الكاريبية. لم يعد بديل هيلين عبارة عن شخصية درامية بل صار نوعًا أدبيًّا؛ إذ يجد طيفها مُستقَرًّا في تغيير الموضع النوعي وليس الجغرافي.
(١) الكوميديا
تبدأ حياة هيلين الكوميدية مبكرًا: فهي تظهر في النصوص الكوميدية القديمة والجديدة لليونان القديمة. ليس لدينا نص كوميديا كراتينوس «ديونيس أليكساندروس» (الذي يعني «ديونيسوس يؤدي دور باريس»)، ولكن حواره محفوظ: تُختطَف هيلين على يد ديونيسوس الذي يلعب دورًا كوميديًّا فيخبئها في قفص طائر (لينساي ١٩٧٤: ١٥١-١٥٢). هيلين هي كذلك شخصية متكررة في الدراما الساتورية لأثينا القرن الخامس قبل الميلاد. الأعمال المسرحية التراجيدية الثلاثية لمهرجانات الدراما الأثينية تلاها مسرحية ساتورية قصيرة، محاكاة هزلية إباحية للمادة الميثولوجية للمسرحيات التي كانت قد قُدِّمت لتوِّها، مكتوبة بواسطة نفس المؤلف. (الجوقة في هذه المسرحيات كانت مؤلفةً من مخلوقات الساتير (كائنات ماجنة هازلة شهوانية، لها شكل البشر ولكن بآذان وذيول وحوافر خيولٍ أو تيوس)؛ ومن هنا جاءت التسمية.) لم يبقَ إلا مسرحية ساتورية واحدة، وهي مسرحية «السايكلوب» ليوربيديس، إلا أن هناك شذرات وحوارات خاصة بمسرحيات أخرى، وأسماء العديد منها. هناك مسرحية ساتورية واحدة، وهي مسرحية «زواج هيلين الماجن»، تتناول هيلين كمحورها الرئيسي، وتحديدًا لقاءها الجنسي الأول الذي جمعها بباريس (هيوز ٢٠٠٥: ٢٦٥)، إلا أنها تشكل مادة لنكاتٍ جنسية فظَّة في مسرحيات أخرى حتى وإن لم تكن شخصية من شخصيات المسرحية (انظر مسرحية يوربيديس «السايكلوب»).
وصف أحد النقاد الدراما الساتورية بأنها «تراجيديا هزلية» (يوربيديس/أروسميث ١٩٧٤: ٢٨). دائمًا ما كانت الحدود بين الكوميديا والتراجيديا حدودًا سلسة، والخيانة الزوجية هي موضوع مطروق منذ أمد بعيد في كلٍّ منهما. المؤلف الملحمي لبلاط إليزابيث الأولى، إدموند سبنسر، ليس معروفًا بحسه الكوميدي، ولكنه في القصيدة الملحمية «ملكة الجن» (١٥٩٠) يضع هيلين في مسرحية ساتورية إليزابيثية. إن معالجة سبنسر لا تقوم على المحاكاة فحسب ولكنها كذلك ساتورية بالمعنى الحرفي، لأن هيلين — بعد أن يتخلى عنها باريس — تقيم بيتًا مع مخلوقات الساتير.
(١-١) «ملكة الجن» (١٥٩٠)
قصيدة «ملكة الجن» الملحمية هي احتفال بفضائل بلاط إليزابيث. يتمحور كل كتاب من الكتب الستة حول فضيلة معينة: القداسة، والاعتدال، والعفة، والصداقة، والعدل، والكياسة. وكما تدل هذه الأسماء المُعرَّفة، فإن العمل مجازي في المقام الأول. في الكتاب الثالث، كتاب العفة، نلتقي بنسخ إليزابيثية من هيلين وباريس.
مع ذلك فإن هذا العمل لا يدور في اليونان الكلاسيكية بل في بريطانيا القديمة، وشخصيات سبنسر هم نسل أصغر وأقل شأنًا من أسلافهم الملحميين. الزوجة الجميلة ليست هيلين بل «هيلين ثانية، السيدة الحسناء هيلينور»: لربما كان اسمها هو مجانِس لفظي من «هيلين من جديد» أو من «هيلين عاهرة». المختطِف ليس اسمه باريس ولكن باريديل أيقصد «باريس-تافه» (صورة تافهة من باريس)؟ ويدعي بفخر أنه ينحدر من اتصال بين باريس ووينون على جبل إيدا.
رغم أن سبنسر يقول: «إنني أكتب عن سيدة فاسقة» (٩. ١. ٦)، فإن القصيدة تقدم أولًا زوج هيلينور، مالبيكو (الذي يعني اسمه التيس اللعين أو الديوث). إنه تجسيد للغيرة (في الواقع في نهاية المقطع العاشر، إذ يعيش في كهف على البحر، يتغذى على العلاجيم والضفادع، فإنه «ينسى إلى حد بعيد أنه كان رجلًا، وما يُطلَق عليه غيرة»؛ ١٠. ٦٠. ٨-٩). ويخفي زوجته الشابة من الأعين، ويحرمها من التسلية المروِّحة عن النفس، ويرفض كل الزوار خشية أن يقيموا علاقة مع زوجته. هذا الشك المفرط هو النقيض لكرم ضيافة مينلاوس الكلاسيكي. من جوانب أخرى أيضًا نجد أن مالبيكو معروضٌ بوصفه مختلفًا عن مينلاوس؛ فهو «عجوز وذابل» (٩. ٥. ١) والزوجان «مجتمعان في نير واحد اجتماعًا غير متلائم» (٩. ٦. ٢). وهكذا فإن هيلينور مقدمةٌ بوصفها أحد طرفَي زواج بين شابٍّ وشابة. وهذا نمط معتاد لنا من تراث الأقصوصات الشعبية التي يطلق عليها «فابليو» (واتكينز ١٩٩٥: ١٦٣)، في الواقع من «حكاية تاجر» لتشوسر الذي تعطينا شخصياته، يناير ومايو، اصطلاحنا الوصفي. كقراء، نعرف كيف نتفاعل مع هذا النمط: فنحن نساند براعة الزوجة الشابة في خيانة زوجها. بل إن التعليق السلبي حول عفة هيلينور وأنها لا تُضاهي جمالها يُقْرأ برحابة صدر في هذا النوع من التراث الشعبي. هذه العلاقة الثلاثية الأطراف هي أمر معهود.
بيْد أن سبنسر يضع حجر عثرة في وجه هذا النمط؛ إذ يضطر مالبيكو إلى أن يسمح بدخول الزوار (لأنهم يتحضرون لتدمير بواباته) الذين يجبرونه على دعوة هيلينور إلى العشاء، حيث تتولى الأمور باعتبار كونها مُضيفة كريمة، وهو ما يشبه إلى حد بعيد هيلين في «ترويلوس وكريسيدي» لتشوسر. عندما يباشر باريديل في إغوائه، تُقدَّم صولته بصورة كبيرة على أنها اعتداء على الأبرياء؛ فهو متمرس في الغواية («عاشق خبير»؛ ١٠. ٦. ١)، ويشرع في «التغرير» بهيلينور (١٠. ٥. ٤)، و«اختلاس» عاطفتها (١٠. ٥. ٨)، ونصب كمين لمشاعرها («مفاجئة روحها»؛ ١٠. ٨. ٣) مستخدمًا «خداعًا زائفًا»، و«حيلًا ماكرة» (١٠. ٧. ٢-٣)، و«حَبائِلَ مصطنعة» (١٠. ٩. ٦). يمارس «فنه» (مصطلح له ارتباط بتعبيرات أوفيدية؛ ١٠. ٥. ١) ويكتب رسائل حب في النبيذ المسكوب، كما في القصيدة السادسة عشرة من قصائد «البطلات» لأوفيد. ويكرر عامدًا عباراتٍ لفيرجيل، فيما يتعلق بسقوط طروادة أثناء مأدبة. إذا كان حب دايدو لإنياس نتيجة غير متوقعة لبلاغته، فالمقصود من سرد باريديل هو التلاعب بهيلينور (إذ كان تحدث في السابق بفصاحة عن سقوط طروادة: ٩. ٣٣. ١)، ويضيف إلى حديثه «نظرات عشق كثيرة كاذبة» (٩. ٥٢. ٩).
يُظهر السؤال البلاغي تعاطف الشاعر وغياب الإدانة لديه. العلاقة الثلاثية هي أمر معقد: فهيلينور تَفْضُل مالبيكو ولكن باريديل يخدع هيلينور. هيلينور هي الحد الأوسط، ووضعيات تراث فابليو المعهودة (زوجة شابة تتلاعب بزوج عجوز) لا تنطبق لأن هيلينور تتعرض للتلاعب بدورها.
بعد أن قدَّم هيلينور في صورة الضحية — «أوقعها في فخه باستدراجه لها» (١٠. ١١. ١) — يُظهرها الشاعر تشرع في تحديد وقت ومكان الهروب مع باريديل (١٠. ١١. ٦-٧). فتجمع جانبًا من ثروة زوجها لتحمله معها وتضرم النار في البقية. لا علم لدينا بدافعها لهذا التصرف الأخير، وسبنسر يؤكد انعدام معرفتنا بطرحه لبدائل: «أحرقت البقية للتسلية، أو نكاية» (١٠. ١٢. ٦). حتى النسخ الأقل شأنًا من شخصية هيلين يستحيل التعرف عليها.
يتبع النص هيلينور لفترة وجيزة بعد أن هجرها باريديل؛ فيصفها بأنها «سيدة رقيقة الجانب» تهيم بائسةً في الغابة، مثل نساء القصيدة السابقات اللواتي تعرَّضن للهجر، «بلا زوج أو دليل» (١٠. ٣٦. ١، ٥)، وعندئذٍ تنقذها مخلوقات الساتير وتأخذها معها للبيت. وهناك تعيش ربةً لمنزلهم، تحلب الماعز، وتصنع الجبن والخبز. وفقط في البيت الأخير من هذه المقطوعة التي تحتفي بالحياة المنزلية نتلقى المعلومة الجنسية المثيرة للدهشة: «وتعامل الجميع معها كمشاعٍ» (١٠. ٣٦. ٩). وحتى هذا ليس مُقدَّمًا في شكل إيذاء إذ إنها «ما لبثت أن نسيت مالبيكو،/وكذلك السيد باريديل، وكم كان محبوبًا لها» (١٠. ٣٧. ١-٢).
يبحث مالبيكو — متنكرًا في هيئة عنزة — عن زوجته. ويدلف إلى غابة تُنذِر، كما يُقال لنا، بوجود مخلوقات المينوطور (وحوش لا تُعرَف خارج إطار حكاية ثيسيوس: كل الإشارات في أوائل العصر الحديث عن المينوطور هي في سياق سردية تتناول ثيسيوس)، ومن ثم فإن إشارة سبنسر تستدعي قصة هيلين حتى عندما يسرد جانبًا مختلفًا من الحبكة. يعثر مالبيكو على هيلينور في بيت مخلوقات الساتير حيث يمارس أحد مخلوقات الساتير الجنس معها ليلًا تسع مرات. إنه فاصل يبعث على الدهشة في كتاب العفة، يتسم المقطع بأنه حسن التعبير وفاضح على السواء. ويتسم أيضًا بشهوانية إباحية. يتلصص مالبيكو على أفعال زوجته الجنسية ورغم أن الشاعر يخبرنا أن هذا يُفاقِم آلامه — «انتفخ كل قلبه بالغيرة» — فإن الفعل المستخدم يجعل المرء يتساءل أيُّ جزء آخر من تركيبه البنيوي قد يكون أيضًا منتفخًا (١٠. ٤٨. ٦). يوقظ مالبيكو زوجته ويعدها ببداية زوجية جديدة «كل شيء سوف يتجدد/بالسلام الكامل» (١٠. ٥١. ٣-٤). فترفض، مفضلةً أن تحيا وسط «مخلوقات الساتير المرحة» (١٠. ٤٤. ٣). إن هذه لدراما ساتورية بقوة.
كل شيء في هذه القصة الاستطرادية متضائل من ناحية الأخلاق والمحاكاة: الشخصيات، دوافعها، أسماؤها، الأحداث (كما يلاحظ النقاد، لا يؤدي رحيل هيلينور إلى حرق مدينة بل نقود). إن قصة هيلينور مختزلة في ثلاثة لقاءات مع رجال شهوانيين: مالبيكو شهواني وبخيل، وباريديل شهواني وأناني، ومخلوقات الساتير تتصف بالشهوانية الخالصة.
تتولى بريتومارت الاضطلاع بالجوانب غير الجنسية من قصة هيلين. بريتومارت هي بطلة الكتاب الثالث، وهي أميرة متنكرة في هيئة فارس في حملة للعثور على الزوج الذي كانت قد رأته في مرآة ميرلين السحرية. وهي تتصف بصفات أنثوية وذكورية، فهي «أبهى امرأة شجاعة وقعت عليها عينٌ أبدًا» (٩. ٢١. ٩)، ولجمالها التأثير الذي رصدناه في الفصل الثاني: يجعلك تتوق إليه كلما رأيته يُملِّي المعجبون من الرجال «ناظرهم التوَّاق» من بريتومارت «ولا يتسنى لناظرهم التوَّاق اكتفاء،/ولكنهم يظلون يرغبون في التطلع إليها مهما أطالوا النظر» (٩. ٢٣. ٩، ٩. ٢٤. ١-٢). كذلك تتسم بريتومارت بأنها يحدوها رغبة جامحة: فهي تلاحق رجلًا ولكن بطُهرٍ، مبتغيةً رباط الزوجية، والأسرة، والأساس الراسخ لمملكة. على العكس من هيلين، «ولعها سيسفر عن إقامة أُمَّة، وليس دمار أُمَّة» (سوزوكي ١٩٨٩: ١٥٥). وهي مرتبطة ارتباطًا خياليًّا بماضيها، ومع ذلك فهي مستعدةٌ لأن تعتبر من دروسه و«تضع نفسها في خدمة التاريخ» (سوزوكي ١٩٨٩: ١٦٩-١٧٠). وفي هذا هي تتناقض مع هيلينور، التي تُكرر التاريخ على شاكلة «نماذجها الأدبية من غير أي فروق هامة؛ ومن ثَمَّ فهي تحط من شأنهم» (سوزوكي ١٩٨٩: ١٦٧). تتماثل مفردات سوزوكي عن الأُمة مع مفردات المحاكاة. إن هيلينور تسيء فهم ما تعنيه المحاكاة؛ إنها تكرار مع وجود «فارق»، وكما تكتب سوزوكي فإن نتيجة سوء الفهم هذا هي التقزيم.
سبنسر هنا يستغل المحاكاة على مستويين؛ فهو يصور شخصية تضاهي ببساطة نصًّا أصيلًا، بيْد أنه في تصويره لها بينما تصنع ذلك يقدِّم تصرفًا في النص الأصيل الذي تتبع شخصيته خاضعةً مثاله. ومن ثَمَّ فإن مقطعَي سبنسر لهما التأثير المزدوج الذي تعينه وتصفه فيرجينيا وولف في نصوص المحاكاة: «في البداية تجعلنا نضحك، ثم تجعلنا نفكر» (وولف ١٩٨٧: ٨٩).
(١-٢) «جورج بيل»، «اتهام باريس» (١٥٨٤)
كانت قصيدة «ملكة الجن» الملحمية هي تحية سبنسر إلى الملكة إليزابيث الأولى: فبريتومارت — مثل إليزابيث التي تدعي سلسلة النسب الخرافية في القصيدة أن فبريتومارت تنحدر من نسلها — مقترنة بشعبها. بضعة أعوام قبل نشر «ملكة الجن» عام ١٥٩٠ كانت إليزابيث قد تلقت تقدمة كبيرة على نحو مماثل: دراما جورج بيل الرعوية، «اتهام باريس». في هذه المسرحية تطلب جونو وأثينا — المتضررتان من حُكم باريس — إجراء محاكمة. أثناء المحاكمة يلمح باريس الملكة إليزابيث — التي كانت المسرحية تُعرَض أمامها — ويحكم بالتفاحة الذهبية لمليكته.
إن مسرحية بيل «اتهام باريس» ليست مسرحية كوميدية. في تلخيصه يكتب لويس مونتروس: «بناء المسرحية هو بناء رعوي، وتقنيات التأليف المسرحي الخاصة بها تهتم بالمناظر، والمشاعر الملكية السائدة فيها مبالغ فيها بفجاجة» (١٩٨٠: ٤٣٣). ولا يُقْصَد بالمناظر في الفصل الثاني، المشهد الثاني، مشهد محاكمة باريس، أن تكون محاكاة هزلية. كثيرًا ما كانت محاكمة باريس تُقاطَع مجازيًّا كون هذا «اختيارًا يقع وسط أنماط الحياة التي يواجهها شاب على أعتاب النضوج» (مونتروس ١٩٨٠: ٤٣٤)، وهو اختيار يُؤكد عليه النمط الرعوي للدراما: فالرعوية تمثل «نبذ العقل ذي التطلعات» (هاليت سميث مستشهد به في كتاب مونتروس ١٩٨٠: ٤٣٤). في هذا المشهد تغوي الإلهات الثلاث باريس بالرشاوى. وحديث الإقناع لكل واحدة منهن يستتبعه موكب مصغر سخي لعرض الإغراءات الموصوفة.
يشتمل عرض فينوس على غناء لهيلين بالإيطالية. تحتوي الأغنية على ثلاثيات من الأبيات مُركَّبة تركيبًا يقوم على الجناس تضاهي فيها هيلين نفسها بديانا: «إن كانت ديانا نجمة في السموات …/إن كانت ديانا إلهة في العالم السفلي …/إن كانت ديانا ملكة حوريات الأرض …»، وتنتهي بتحدي هيلين لديانا في المواضع الثلاثة كلها: «أنا ديانا نادرة وحلوة،/من يقدر أن يصنع حربًا مع عينَي/على ديانا في الجحيم، والسماء، والأرض». إن تفوق هيلين مُشارٌ إليه بالفعل في تركيبة البيت. كل جزء من أجزاء البيت الثلاثي التي تتحدث عن ديانا تركيبها هو: أ ب ب، ﺟ د د، ﻫ و و؛ جمال ديانا يمكن أن يشكل مقطعًا ثنائيًّا لا أكثر. أما جمال هيلين فيؤدي تأثيره إلى ثلاثية (وحدة من ثلاثة أبيات): ز ز ز. هيلين أكثر إشباعًا من ديانا (على الأقل سمعيًّا).
عندما عرض مسرح شكسبير جلوب المسرحية عام ٢٠٠٧، غنت هيلين بالإنجليزية (وهو قرار اتُّخِذ في اللحظة الأخيرة، حسبما قال المخرج الموسيقي) وأدت كلمات بيل كأغنية عاطفية حزينة. كانت هيلين التي أدت دورها راي بيكر فارعة الطول ذات الشعر الأسود ترتدي قميص باسك أحمر له ذيل من ريش، وسروالًا ضيقًا من نسيج مشبك وحذاءً طويل الرقبة، وحملت سوطين. كانت مجموعتها المساندة المكونة من كيوبيدين غير قادرة على مجاراتها في مهارة الرقص، ولا البراعة الموسيقية، ولا الجاذبية الجنسية. بوجود أجنحة مُثبَّتة بمشابك إلى قمصيهما قصيرَي الأكمام، ويميلان إلى الخلف وأحزمة سراويلهما مفتوحة على نحو مستفز، تحركا بتثاقل للأمام والخلف على ركبتيهما في حركات تأتي من الوركين كان من الواضح أنهما كانا متضايقَين منها فنيًّا وبدنيًّا. رغم ذلك بذلا جهدًا دءوبًا، وكان أحدهما ينظر إلى الآخر وإلى هيلين بوعي ذاتي من أجل التوجيه. كان تفانيهما مضحكًا كالسخرية المتسائلة التي تفاعلت بها هيلين مع قدرتهما التي ينقصها الخبرة كمؤدِّيَين مصاحبَين.
تسببت الموسيقى في مواقف كوميدية طوال هذا العمل. أراد ميركور أن يخاطب وينون ولكنه لا يستطيع أن يحقق ذلك وحينئذٍ تتوقف موسيقى الريجي وتتيح له أن يفعل ذلك. أما الإله فولكان (إله النار والحدادة) فيعزف الموسيقى بمطرقتيه. «يا إيدا، يا إيدا، أيها التل السعيد» تصبح لازِمَة توقف العرض في الفصلين الأول والخامس. ازداد التأثير الكوميدي لهيلين المُصاحَبة بالموسيقى بالتناقض الذي أحدثه لعبها لدور الراعية ثيستيليس كذلك. عندما تعاني ثيستيليس الرفض في الحب (٣. ٥)، تغني قطعة من موسيقى البلوز: «ليس هناك ألم يعدل ألم الازدراء» (لم يكن التحديث بلا مسوغ؛ إذ التقط الكلمتين الاسميتين الجوهريتين من نص بيل).
(١-٣) الأوبريت
في القرن التاسع عشر انتقل جاك أوفنباخ بهذا الأسلوب لمرحلة أبعد في عمل «هيلين الجميلة» (١٨٦٤). الترجمة الإنجليزية على مسرح أديلفي بلندن في ١٨٦٦ أطلقت على الأوبريت عنوان «هيلين»، أو «مأخوذة من اليونانيين». هذا العنوان الذي يتضمن توريةً يلخص عنصر المحاكاة الذي يقوم عليه عمل أوفنباخ؛ إذ ليست هيلين وحدها التي نُقِلت بل الموضوع ذاته.
هيلين في نص أوفنباخ قد تكون زوجة ضجرة لكنها زوجة مصممة على المحافظة على عفتها. فماضيها قبل الزواج هو بالفعل ماضٍ ولَّى (يُلَمَّح إليه في غنائها التعبيري المنفرد (الآريا) عن هيلين ذات الخصلات الذهبية المسترسلة)، وتقول لكالخاس: «لقد حاولت جاهدةً أن أحبه!» ورغم أنها تقع في حب باريس، فإنها تخفي مفاتنها الجسدية بارتدائها ثيابًا مهلهلة، وتتجنب رؤيته، وتُضاعف عدد الحراس على غرفتها خشية أن يدخلها.
في مشهد من المشاهد التي يتميز بها أوفنباخ من بين أمور أخرى، تدخل هيلين (كما يطلعنا إرشاد مسرحي) «تترنح من الخمر.» وكما مارست الحب مع باريس في الفصل الثاني تحت تأثير حلم، هي بالمثل هنا تسمح بأن تُختطَف بينما هي ثملة. وهي طوال النص تشتهي جنسيًّا، على نحو كوميدي كما هو الحال في احتجاجاتها السابقة غير المقنعة عند تهديد باريس بخطفها — «النجدة! النجدة! فليغثْني أحدٌ ما! أرجوكم!» — بيْد أنها تبقى بلا لوم.
هذا أمر يمكن للأوبرا أن تحققه من خلال صيغتيها الثنائيتين؛ الموسيقى والنص. فبمقدور الأوبرا أن تقدم جانبي هيلين كجانبين موجودين ومتعايشين معًا، لا متنازعين. فالموسيقى المهيبة تمنحها قدسيةً، والحوار الساخر يعطيها طبيعة جنسية وضيعة. عندما تغني هيلين مع باريس في مخدعها، فإن ما يتذكره المرء هو موسيقى الفالس، لا الخيانة الزوجية. وهكذا فإن الأوبرا — وحتى الأوبريت — تضعها فوق الاتهام، وفوق اللوم؛ فالموسيقى لا تزال تحتل الصدارة.
(١-٤) الفيلم الصامت
في عام ١٩٢٧ تلقت هيلين أول معالجة فيلمية لها في «الحياة الخاصة لهيلين طروادة» (من إخراج ألكسندر كوردا). يُعَرِّف الفيلم نفسه بأنه اقتباس لرواية جون إرسكين التي تحمل نفس الاسم. وفي واقع الأمر هو لا يأخذ شيئًا من رواية إرسكين عدا العنوان. فرواية إرسكين تُعنى بالفترة التالية من حياة هيلين في أسبرطة عندما تشارف ابنتها هيرميون على الزواج. حوار الرواية مكتوب بطريقة ساخرة لاذعة، وهيلين فيه هي محاوِرة بارعة لديها قدرات متأصلة من التحليل الذاتي (وهي مميزات ومهارات تغيب عن زوجها الذي يتصف بحسن النية ولكنه واقعي من الناحية العاطفية). يُبقِي الفيلم على جو الرواية وتصوير الشخصية لبطلَي الرواية، لكنه ينقل الموقف إلى تصاعد حرب طروادة.
أما الجنود الأسبرطيون فلديهم أفكار أخرى. لأن هيلين أرهقت الاقتصاد بشرائها لكل ملابسها من طروادة، فهُم يرحبون بالحرب: «الآن يمكننا أن ننتقم من أولئك حائكي الثياب الطرواديين.» يقترح مينلاوس ترك الطرواديين يحتفظون بهيلين («ذلك سيكون أسوأ من الحرب»)، إلا أن الجنود يقنعونه باتخاذ إجراء بينما يطلعه إتينيوس مؤنبًا على مستجدات التوقعات الجوية لصيد الأسماك.
تبدأ البكرة ٢ بسقوط طروادة. يرحب مينلاوس بالنصر، ليس بسبب عودة زوجته ولكن بسبب الفرصة التي يتيحها للخروج لصيد الأسماك. ويعتقد أنه جعل هيلين «تدرك مكان الزوجة»؛ بالفعل تعلن هيلين عن نيتها في أن تقوم ببعض الأعمال المنزلية. يؤكد مينلاوس واثقًا لضيف غير متوقع — تليماخوس الذي جاء ليرى جمال هيلين ذائع الصيت — أن «الوجه الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب لا يمكنه أبدًا أن يفعلها ثانيةً.» فيناقضه دخول هيلين: في ثوب قصير خارج عن العُرف، ولآلئ، وعصابة رأس ذهبية، وتغازل تليماخوس، صانعةً سحرًا بعينيها، وعبوسها، والخمر التي تصبُّها، وحوارها. تتبدل نظرة مينلاوس التي تكررت في السابق من الاستسلام إلى الحماس؛ إذ يفطن إلى وجود احتمالات للخروج لصيد الأسماك. وبينما يترك هيلين مع تليماخوس ليُسرِّيا عن نفسيهما، يقول لإتينيوس: «غدًا من دون شك سنخرج لصيد الأسماك؛ لأنه يبدو كما لو أن هيلين ستذهب في رحلة صغيرة إلى إيثاكا.»
ليس الفيلم كوميديًّا وحسب بل وكالأفلام الكارتونية كذلك. كل شيء فيه هو أبيض وأسود نفسيًّا وأيضًا بصريًّا. لا تعاني هيلين من هذا، لأن الجميع يتلقى نفس المعاملة الساخرة: فالرجل حائك الثياب («حائك ثياب أكثر من كونه رجلًا»)، الوصيفة أدراست («مشكلة خدمة»)، الأزواج والزوجات الذين يذهبون إلى المسرح («فاصل، عندما يفيق الأزواج وتُهْجَر الزوجات»)، الجنود الطرواديون المزهوون بحياكة أثوابهم الذين يرحبون بالحرب باعتبارها فرصة ليعرضوا حللهم العسكرية الأنيقة الجديدة. الأزياء هي بطلة الفيلم وهي أيضًا هدف السخرية الدائم. نرى صور واجهات لمحل أسبرطي بها خيتونات (زي يوناني قديم) وأحذية طروادية؛ تُختزل حرب طروادة في سلسلة من المشاهد تُهاجَم فيها محلات ملابسها (اقتُطِعَت هذه المشاهد من النسخة النهائية). في مشهد سابق، عندما يأمر مينلاوس هيلين أن تتوقف عن ارتداء الأزياء الطروادية أو ألا ترتدي شيئًا على الإطلاق، تستغل الإنذار: «أحدث العباءات من طروادة هي فعلًا لا شيء على الإطلاق.» وفي طروادة تحصل على خزانة ثياب رائعة جديدة. في أحد المشاهد تتحير بشأن تفاصيل تصميم مع حائك ثيابها، إلا أن صيحات الجنود المتحمسة «نحن ذاهبون إلى الجبهة (المقدِّمة)» توجه انتباهها إلى مشكلة الحياكة، وهي أن دوران خط العنق في مقدمة الثوب ليس منخفضًا بما يكفي.
(٢) الرواية
(٢-١) «جاين ستانلي»، «ابنة الآلهة» (١٨٨٦)
جاين ستانلي هي مؤلفة روايات فيكتورية استثنائية من نواحٍ عديدة، لا سيما إفلاتها من الملاحظة النقدية في القرن العشرين. في عام ١٨٨٦ نشرت رواية من ٦٠٠ صفحة، جانب منها إثارة سيكولوجية، وجانب رومانسي. عنوان الرواية، «ابنة الآلهة» يشير إلى هيلين طروادة وينبثق من قصيدة تينيسون «حلم بالنساء الحسناوات.» يشكل بيتان من هذه القصيدة (ليس لهما دلالة خاصة عند المؤلفة أو في القصيدة) الاقتباس الذي يحدد الفكرة الرئيسية للرواية: «ابنة للآلهة، فارعة على نحو إلهي،/وفي غاية الحسن الإلهي.» في عام ١٨٨٨ نشرت ستانلي رواية من مجلدين، «وجه جديد على الباب». هذا العنوان أيضًا ينبثق من قصيدة تينيسون «موت العام السالف». مرة ثانية يقدم الاقتباس الذي يحدد الفكرة الرئيسية للرواية ثلاثة أبيات من القصيدة (دون إحالة من قبل المؤلفة أو العنوان). بعد ذلك تختفي ستانلي عن الأبصار. فلم تنشر أي روايات أخرى ولا لوحظ نشاطها في ثمانينيات القرن التاسع عشر من قِبَل المؤرخين الأكاديميين للرواية أو للكتابة النسائية؛ فهي غير معروفة لكتاب جون سازرلاند القيم «مرافق لونجمان للأدب الروائي الفيكتوري» (١٩٨٢)، أو «معجم سيرة الأعلام الوطنية»، أو «معجم سيرة الأعلام الأدبية» أو الشبكة الفيكتورية، أو حتى لمحرك جوجل البحثي. حصلت مكتبة بودلي على نسختها من «ابنة الآلهة» في ١٥ مايو ١٨٨٦، ونسختها من «وجه جديد على الباب» في ١٦ ديسمبر ١٨٨٧. في عام ٢٠٠٧ بقيت كل صفحة من كلتا الروايتين غير مقطعة (عندما تخرج الكتب من المطابع تكون كل صفحة لا تزال متصلة من الجهة العليا بالصفحة المجاورة لها حتى تُفتح بقاطعة). وهو نفس الوضع الذي كانت عليه في عام ٢٠٠٨ صفحات نسخة المكتبة البريطانية من رواية «وجه جديد على الباب»، ومع ذلك فقد قُطِعت صفحات رواية «ابنة الآلهة». لم تظهر أي نسخة من الرواية على مواقع الأشياء المستعملة، ولم يجرِ أيضًا تحويله إلى كتاب رقمي على يد مؤسسات مثل دار نشر كيسنجر لإعادة طبع الكتب النادرة، التي تتخصص في «الكتب النادرة التي يصعب العثور عليها.» إن ستانلي هي كاتبة روائية اختفت ببساطة. هذه بالأحرى هي مصادفة تاريخية وليست انعكاسًا لجودة المؤلَّفَين: رغم أن الرواية الثانية مخيبة للآمال، فإن ذلك لا ينقص من استحقاقات الرواية الأولى.
ليست الاستشهادات الأدبية والواقعية الداخلية بأمور غير اعتيادية في الأدب الروائي الفيكتوري الرومانسي، ولا الحبكة القائمة على تعدد الزوجات التي تدفع أحداث هذه الرواية. غير أن رواية «ابنة الآلهة» تتميز بثلاثة أمور: التحكم في الحبكة، والحوار البارع الخفيف، وتصويرها لمحبة الأم. تُسْرَد الحبكة سردًا واضحًا، يصحبه تحكُّم المؤلفة في إيقاع القصة، التي تنقل بتدبرٍ أحداث شهور في فقرة ولا تزال توظف في الوقت ذاته تفاصيل تُركز المشاعر بدقة. حركة الشخصيات تجري بصفة أساسية من خلال الحوار، وتمتلك الشخصيات إدراكًا يحاكي أسلوب جاين أوستن للبناء الأغسطسي المحكم للجمل (تعترف البطلة بأنها قد قرأت رواية جاين أوستن «إيما» ست مرات؛ المجلد ١: ٢٦٧) مقترنًا بردود سريعة ساخرة. فبعد أن سمعت كيت باين وصف جيمس جراي للجمال الفائق للبطلة، تجيب قائلة: «كنوع من التعويض البسيط عن تلك الميزات الطبيعية هل هي على الأقل رديئة الملبس؟» (المجلد ١: ٨٨).
تبحث الرواية مسألة الأمومة من ناحية كونها محبة مؤلمة بقدر ما هي قوية؛ فقوة محبة الأمومة لدى البطلة تؤدي بها على نحو متناقض إلى إحساس بانعدام القوة، يختلط بالسلطة التي يمتلكها الآخرون عليها بسبب محبتها لولدها. ويؤيد هذا بمعالجة لمسألتي ثقة الأم وخداعها، وقصة عن الصلاح الأخلاقي، يعضد ذلك كون براءة البطلة هي براءة صادقة وليست مجرد تعبير عاطفي. من الصعب أن ننقل أسلوب روايةٍ نمطها الرئيسي هو الحوار، أو أن نختصر حبكة تنشد فيها خمس نساء — تتراوح أعمارهن بين ٢٠ و٣٥ عامًا — حماية الزواج، وإحداهن تجد ماضيها يعود ليهددها. ربما يكون الوصف «جاين أوستن تلتقي بإبسن» هو أكثر وصف مختصَر.
تبدأ الرواية بفصل قصير يصور، ولكن لا يفسر، حدثًا سابقًا في بلجيكا، عام ١٨٧٧. الفصل الثاني يبدأ القصة في فرنسا عام ١٨٨٢، وتنتهي الرواية في إنجلترا عام ١٨٨٥. البطلة فيرينا دوجان البالغة من العمر ٢٠ عامًا وزوجة أبيها آنيت البالغة من العمر ٢٨ عامًا، تعتنيان بالسيد دوجان المصاب بالسل في بيتهم في بولوني، حيث ترعيان أيضًا مارا ابنة زوجة والد فيرينا التي تبلغ أربعة أعوام. تتزوج آنيت في خلال أربعة أشهر من وفاة السيد دوجان، وبعد ذلك تموت هي ورضيعها بعد الوضع.
أثناء الصيف الأخير للسيد دوجان، يقضي جيمس جراي المحامي اللندني الذي يبلغ الخمسين عامًا عطلة في فرنسا. كان جراي ودوجان صديقين في الطفولة وتُستأنَف الصداقة. زيارات جراي هي في الأصل بدافع التعاطف، ولكنها بعد ذلك تغدو مدفوعة بانجذابه نحو فيرينا، التي يبلغ طولها ٥ أقدام و٨ إنشات، والشقراء ذات الجمال الاستثنائي. «امرأة بلا ادعاء»، فهي تتشح ببساطة بالسواد، وتُعْرِض عن الزينة، والتفاخر، والبذخ، وتلبس خمارًا سميكًا في العلن، وتتجنب المجتمع. تعد فيرينا والدها أنها ستقبل السيد جراي إن عرض عليها الزواج، وبعد موت والدها تفعل ذلك. تنتقل الحبكة إلى إنجلترا، وكذلك تفعل فيرينا ومارا.
منزل جراي الكائن في ميدان رَسِل تديره شقيقته غير المتزوجة البالغة ٣٥ عامًا، إميلين، التي تشعر بامتعاض حميد من السيدة الجديدة (فما تبديه فيرينا من «استقامة أربك كل حساباتها»). تضم دائرتها الاجتماعية قريبتيها كيت وجيرتي، اللتين تبديان ودًّا متشككًا نحو فيرينا. تسعد جيرتي بذكاء فيرينا إلا أن كيت تتملكها الشكوك من طيبتها الواضحة، وتشعر أنها «غُرِسَت في قدر كبير من الخطيئة الأصلية» (المجلد ٢: ٢١١). تمنع الطفلة مارا، التي تكاد تأسر كل القلوب، أيًّا من التوترات الكامنة من أن تتطور إلى مواجهات، رغم أن مكانتها في الأسرة تسبب إزعاجًا متكررًا لإميلين. وبالمثل فإن لغو إميلين التافه هو ابتلاء مستمر لفيرينا الحالمة، التي تقارن الحديث عديم الذكاء لشقيقة زوجها بحديث ابنة زوجة أبيها: «إن ثرثرة عقل يتفتح تختلف غاية الاختلاف عن ثرثرة عقل لن ينفتح أبدًا» (المجلد ١: ٢٠٠-٢٠١).
الممارسات الاجتماعية المعتادة والثابتة، والحب المتنامي بين الزوج وزوجته يعكرهما قدوم آرثر كورتيناي. الآن صار استهلال الرواية في أوستند مُبَرَّرًا. وهي طالبة في المدرسة، سقطت فيرينا في حب كورتيناي وهربا معًا. ثبت عدم مشروعية زواجهما في عرض البحر لأسباب عدة، لم يكن أقلها أن كورتيناي كان بالفعل متزوجًا. لدى اكتشافها هذا بعد أسبوع من الزواج، هربت فيرينا عائدةً إلى البيت. أُخفي حملها ووضعها اللاحقان ورُبِّيت الطفلة على أنها ابنة آنيت. «سُمِح للفتاة الأم أن تحتفظ بكنزها شريطة ألا تطالب به باعتباره لها» (المجلد ١: ٢٩٣). وعدت فيرينا والدها المحتضر أن تكتم هذا السر عن السيد جراي، خديعة تكلفها ألمًا بالغًا طوال الرواية. يحثها قدوم كورتيناي ومضايقته المتواصلة أن تُطْلِع زوجها على الزواج غير الشرعي، ولكنها لم تكشف أنها والدة مارا إلا بعد أن غرقت الطفلة في حادث قارب في نهر التايمز. حزنها على الفقد، وألم زوجها من مصيبتها (ومن الاعتراف اللاحق) — وهو ألم يخفيه هو بدوره عنها — مصوران تصويرًا مؤثرًا (لإيجازه).
يزور جيمس جراي كورتيناي ليضع نهاية لتهديداته، وتنتهي الرواية بولادة ابنة جراي. إميلين — التي لم تتوافق أبدًا مع سحر مارا بل هي حريصة دومًا على أن تفسد أفراح فيرينا الهادئة — تستخدم الآن مارا الميتة من أجل قضيتها: فتقارن بين المولودة الجديدة وبين مارا، لغير صالح الأولى. تنجح الرواية في أن تختتم بكلٍّ من السخرية (المزايدة المتدرجة المتواصلة لإميلين) والإشفاق الداخلي؛ إذ إن ثناءها على الطفلة الميتة يُثْلِج قلبَي الزوجين جراي وحسب.
يفصح الكثير من هذه الرواية عن عِظَم ما تدين به نحو سرديات هيلين طروادة. فشخصية كورتيناي هي شخصية تمثل شخصية ثيسيوس، يستغل طالبة المدرسة فيرينا، وثمرة قرانهما تُنْقَل — مثل إفيجينيا — إلى أحد أفراد الأسرة. كلٌّ من زوج فيرينا المزيف وبعلها الشرعي مفتونٌ بجمالها. كورتيناي يراها «الجمال الوحيد الذي وقعت عليه عيناه أبدًا الذي لم تتجاوز فيه الرواية الواقع» (المجلد ٢: ٦-٧)، وجيمس جراي يعلن أنها تفوق الوصف، ويلجأ إلى أبيات تينيسون عن هيلين طروادة. ويُعلِّق آخرون على طبيعتها الفائقة للعادة (المجلد ١: ٢٨٤) و«الحُسن «المفرط»» (المجلد ١: ١٥٤، أقواس التنصيص الداخلية من عندي).
عند الزواج، تتبدل خزانة ثياب فيرينا من الأسود المفضل عندها إلى أثواب الكشمير والحرير، بيْد أن الثوب الوحيد الموصوف تفصيلًا هو رداء أصفر كوصف فيرجيل لأردية هيلين طروادة. تعيب إميلين أن به «قدرًا مفرطًا من الأصفر»، ولكن حينما عدل الرداء ليصبح فستانًا منفوشًا للحفلات الراقصة صار رأيها فيه أنه «أروع امتزاج فني بين مخمل البرونزي والأصفر الفاتح، موشيان بالذهب» (المجلد ٢: ٩٦). وعندما تُناقَش مسألة اختيار شخصيات حفل راقص بالأزياء التنكرية، تقترح كيت (مشيرةً إلى استشهاد جيمس السابق بأبيات تينيسون) أن فيرينا — على ضوء جمالها — ينبغي أن تذهب في شخصية هيلين. يتساءل زوجها إن كان هذا يضعه في قالب باريس ولكن كيت تفطن إلى ذلك وتقول: «ستجد الكثير من الرجال مستعدين أن يأخذوا دور باريس. السيد كورتيناي، على سبيل المثال» (المجلد ٢: ١٦٢-١٦٣). ترفض فيرينا أن تأخذ دور هيلين (كما فعلت منذ بداية الرواية، تخفي جمالها وتعيش في هدوء). وكذلك ترفض الاقتراح القائل بأن يأخذ زوجها دور مينلاوس وتطلب «شخصية أكثر أُلفة.» يريد جيمس لفيرينا أن تأخذ دور «شخص عاش في سعادة دائمة»، وهي تريد أن تأخذ دور شخص من سماته «الاحترام الشديد» (المجلد ٢: ١٦٣، ١٦٤). يُركَّز في الفصل التالي على أن القصص القديمة يجري تغييرها عندما تشعر فيرينا بالهم لإصرار كورتيناي على تحطيمها: «أن تُمحى القصة القديمة وأن تعيش البطلة البائسة في سعادة بعدئذٍ، ذاك أمر لن يُكره على تحمُّله أبدًا، إن وسِعه ذلك» (المجلد ٢: ١٧٦). إن فيرينا مصممة على تغيير القصة القديمة. عندما تفتش هي وجيمس عن منزل في الريف، يعلق أحدهم قائلًا: «إنكِ إذن لن تقضي كثيرًا من الوقت في منزل المدينة.» إن فيرينا عنيدة، «ليس عندي أي نية للتخلي عن زوجي» (المجلد ٢: ٧١).
إن كانت فيرينا هي شخصية تُحاكي شخصية هيلين؛ فهي هيلين بدون لوم. فتعدد الزوجات هو — في عينيها — أمر شرعي. مسألة براءتِها هي أمر يُشدد عليه — من قِبَل والدها والراوية — ربما لأن فيرينا نفسها واعية على نحو فيه تأنيب للذات للطَّيف الذي يخيم على حياتها. حياتها «كانت تكفيرًا لخطيئة لم تكن تحمل إثمها» (المجلد ١: ١١٥). إن فكرة الصلاح المسيحي تشكل أفكارها، وصورها الذهنية تنبع من الكاتب والواعظ بونيان ومن الكتاب المقدس، وهي تلتمس الكنيسة لا المجتمع. الصور الذهنية التي تربطها عقليًّا بالسماء هي صور تهدف إلى التأكيد على أثر جمالها، ولكن في إطار مشاعرها الدائمة بالذنب فإن هذه الصور تعلو بها فوق اللوم. عندما يقدم لها جيمس الإجلال اللائق بها، فإنه «إجلال مُتَعَبِّد لقديس وليس حماسة عاشق» (المجلد ١: ٥٦).
عندما ترفض فيرينا شخصية ملابس هيلين التنكرية، يُقْتَرَح عليها بديل: هيباتيا. عالمة يونانية من الإسكندرية، وُلِدَت في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، أصبحت هيباتيا رئيسة المدرسة الأفلاطونية في الإسكندرية. كانت عالمة بارزة درَّسَت الرياضيات، والفلسفة، والفلك. يتكرر في الرواية ملاحظة مسألة مؤهلات فيرينا التعليمية وإمكاناتها الفكرية. في بولوني، يلاحظ جيمس اجتهادها، وكفاءتها في اللغات الحديثة، والواقع الذي مؤداه أنها «أكثر من مجرد فتاة ذات تعليم جيد»: فهي تمتلك «قدرًا متيقنًا من أصالة الفكر» (المجلد ١: ٢٨-٢٩). ليس لدى فيرينا أي مشاكل في استيعاب كتاب ويليام هاميلتون «محاضرات في الميتافيزيقا» (١٨٦٦) وكتاب جورج هنري لويس «تاريخ الفلسفة» (١٨٤٥-١٨٤٦)، الذي تأخذ على عاتقها تفسيره لجيرتي (المجلد ١: ١٧٠). عندما تلتقي فيرينا بقريبات زوجها، تدلي كيت بملاحظة منتقدة إياها: «يا لكِ من كئيبة» (المجلد ١: ١٧٠). تكتسب فيرينا معرفة قانونية أثناء الرواية عندما تشغل نفسها بكتب زوجها القانونية. هذا يمنحها سندًا جديدًا عندما تواجه كورتيناي، وتتمكن من إخباره عن ماهية موقفه القانوني. في الواقع تستهوي فيرينا التي اكتسبت الثقة مؤخرًا كورتيناي أكثر من ذات الستة عشر عامًا رقيقة المشاعر التي خانها (المجلد ٢: ١١). إن هذا يمثل هيلين في عصر تعليم النساء (شهدت ثمانينيات القرن التاسع عشر تأسيس كليات للنساء في أوكسفورد، ولندن، وكامبريدج).
ويمثل كذلك هيلين في عصر إبسن. في مسرحية «بيت الدمية» يتمني تروفالد المتيم بحب زوجته الشابة أن يكون في مقدوره إثبات مشاعره الرومانسية نحوها. إنه يريد أن يكون فارسًا على جواد أبيض، لينقذها في وقت الضيق. عندما يأتي وقت الضيق، يفشل فشلًا ذريعًا؛ إذ يكتشف سر زوجته، وهو أنها زورت لمصلحته توقيعًا على وثيقة، فيتهمها، يفكر فقط في سمعته، وينهار الزواج. تتسم رؤية إبسن للعلاقات بين الرجال والنساء بالاعتدال: يستغرق الرجال في تخيلات منقذ النساء، ولكن عندما تتأزم الأمور ويتعين اتخاذ قرار، يخذلون النساء.
جاين ستانلي — إذ تكتب بعد مسرحية «بيت الدمية» بسبع سنوات — تقدم رؤية تفاؤلية. مكاشفة فيرينا لزوجها تحدث على مرحلتين. الزواج الزائف من الحبيب النذل هو أمر يمكن لجيمس جراي أن يتعامل معه. عندما يلتقي هو وكورتيناي في ملابسات عدائية، «بدا الأمر لوهلة كما لو أن الرجلين قد يدخلان في صراع شخصي فعلي، ولم تكن الفكرة ممقوتة تمامًا للسيد جراي» (المجلد ٢: ١٣). من منظور جيمس، أن يكون بطل زوجته الجميلة، هو شيء رومانسي. عندما يهدد كورتيناي بأن يروي القصة كاملةً، لا تجفل فيرينا؛ «أعانتها ثقة عظيمة في إخلاص زوجها» (المجلد ٢: ١٥)؛ «وثقت في أن زوجها سيغفر لها» (المجلد ٢: ١٦). هذه هي رؤية نورا في مسرحية «بيت الدمية»، إلا أن ثقة فيرينا هي ثقة مبررة. فجيمس قد أزال بالفعل حاجزًا بسبب حبه لفيرينا — وهو المعرفة بديون السيد دوجان — وهي حقيقة يمكن أن تشينه على الملأ لو كان لها أن تصبح معروفة للكثيرين. (بالفعل يتطرق أحد زملائه إلى الموضوع قبل الزواج، ولكن جيمس تعامل مع الأمر بهدوء ولم يدعه يترك تأثيرًا سيئًا عليه.)
ومع ذلك، عندما يكتشف جيمس أن مارا هي طفلة فيرينا، تتعارض خيبة أمله مع الانفراجة التي تشعر بها فيرينا؛ فهي تشعر «كما شعر المسيحي عندما سقط الحِمل من على كتفيه» (المجلد ٢: ٢٧٢)، ولكن جيمس يشعر بأن «هالة من الجلال قد اختفت من على الرأس التي أحبها» (المجلد ٢: ٢٦٩). تُبيِّن فيرينا أنها خدعته لأن والدها اعتقد أن جيمس لم يكن ليتزوجها إن عرف. يأتي الآن دور جيمس ليخدعها بأن يقول إنه كان سيتزوجها مهما يكن، ولكنه يعلم أن هذا ليس حقيقيًّا. إن خيبة أمله ليست دائمة ولكنها ليست سريعة الزوال.
لم تكن فتاة غضة تلك التي تزوجها، بل امرأة عانت وماتت في مقتبل حياتها … بدون تلك الحياة المحطمة، لربما ما كان لفيرينا عنده أن تُخْلَق أبدًا. عن طريق وابل الحب الجريح الذي مزقه أدرك ذلك. (المجلد ٢: ٢٧٠-٢٧١)
لا تمنحنا ستانلي ذلك العرض لأدوار الذكور الذي يمنحه لنا إبسن، ولكنها لا تمنحنا رومانسية مُطلقة.
يمكن لستانلي أن تعيد بنجاح كتابة قصة هيلين لأن حضورها متغلغل في الرواية. لأنه إذا كان كورتيناي يمثل الخاطف باريس، فإنه يمثل أيضًا — أخذًا في الاعتبار مرحلة الصبا من حياة فيرينا — شخصية ثيسيوس، ويمثل، في مشابهة مفاجئة، جوف (جوبيتر) المغتصِب، مما يجعل فيرينا كلًّا من هيلين وليدا. مع ملاحقة كورتيناي لفيرينا حول لندن، تتوخى فيرينا الحيطة لتتجنبه، ولكن في حالة واحدة تفشل مراوغتها: «انشقت الأرض عن كورتيناي، أو سقط من السماء عليها» (المجلد ٢: ١٥٨).
الخطأ الأكبر للرواية يكمن في عبثية ومنافاة العنوان الصارخة للمنطق، وهو أمر لا أهمية له في أغلب الحالات، إلا من وجهة نظر عملية خالصة، ولكن في الحالة الراهنة هو أمر مُضلِّل، ومزعج للقراء الذين يتسمون بالحساسية حول هذه الأمور. ونفترض أن البطلة اتخذت هيئة تتسم بالطول والحسن لتوافق الاستشهاد.
وإذ أخفق في التعرف على إشارة العنوان إلى هيلين طروادة، كان بالتبعية غير قادر على رؤية النمط الذي تتابع به الرواية إشاراتها الضمنية. ولم تتحسن معرفته بتينيسون في العامين التاليين، لأنه أبدى نفس الاعتراض على عنوان رواية «وجه جديد على الباب» (صحيفة «ذا جرافيك»، ١١ فبراير ١٨٨٨).
نُشِرت رواية ستانلي الثانية في خلال ١٨ شهرًا من الأولى. وهي تفتقر إلى بنية الحوار البارع التي تمتلكها رواية «ابنة الآلهة»، وتحتوي على شخصية بطلة مكررة وتقليدية مستمدة من شخصية بيكي شارب (بطلة رواية «دار الغرور» (١٨٤٧-١٨٤٨) لثاكري، المرأة التي تستغل جمالها وجاذبيتها لتسلق سلم المجتمع)، ومكتوبة بأسلوب متكلف. قالت صحيفة «جلاسجو هيرالد»، «ليس هناك شيء مبدع إبداعًا مدهشًا في هذه الرواية» (١٥ ديسمبر ١٨٨٧). ورآها ناقد صحيفة «ذا جرافيك» «لا تخلو من التشويق» لكنها لم تلقَ إلا ثناءً خافتًا يخفي نقدًا بين طياته، «إن قصتها هي بلا ريب من النوع الذي يُصنف عادةً على أنه «يستحق القراءة»» (١١ فبراير ١٨٨٨). كانت التقييمات النقدية بالأحرى فاترة ولم تكن سيئة، ومن المؤكد أنها لم تحتوِ على شيء يحول روائية جديدة عن المزيد من الأعمال الأدبية. غير أن ستانلي لم تنشر أي روايات أخرى بعد هذه الرواية. من شبه المؤكد أن إماطة اللثام عن سيرة حياتها سوف تسلط الضوء على الأمر، إلا أن اسم جاين ستانلي اسم شائع وأنا إلى الآن لم أتمكن من تحديد هوية جاين ستانلي الكاتبة الروائية.
سيدة تُدعى جاين تشارلوت ستانلي وافتها المنية في ٢١ مارس ١٨٨٨؛ ورد خبر جنازتها في صحيفة «بلفاست نيوزلتر» بتاريخ ٢٧ مارس ١٨٨٨. جاين ستانلي هذه كانت زوجة لقاضي صلح اسمه تشارلز ستانلي، وتوفي في بيتهم الذي ينتمي إلى الفئة العليا من الطبقة الوسطى، بمنطقة روجان بارك بمقاطعة تيرون. الزواج من قاضي صلح قد يفسر التفصيل القانوني الذي تحتويه رواية «ابنة الآلهة»، والمحاكمة المطولة التي تحتل الجزء الثاني من رواية «وجه جديد على الباب». جاين ستانلي محل الحديث تشغل نفس المحيط الاجتماعي الذي تشغله الشخصيات في روايتيها اللتين تقع أحداثهما في زمنها المعاصر. ومع ذلك، فقد كانت قد بلغت ٧٥ عامًا في وقت وفاتها، ويبدو أمرًا مستبعدًا أن يبدأ أي شخص حياةً عمليةً ككاتب روائي في عقده الثامن. إن الإطار المعاصر للروايتين يحول دون أن نجادل بالقول إنهما كُتِبتا في فترة شبابها ونُشرتا لاحقًا. هناك مُراسِلة (أو مراسلتان) تُسهِم (تسهمان) بعمود «شائعات المدينة» لصحيفة «بلفاست نيوزلتر» (١١ مايو ١٨٨٥) وعمود مجتمع في صحيفة «دايلي نيوز» اللندنية (١ مايو ١٨٨٦). تغطي الكاتبة (الكاتبتان) في هذين العمودين الآراء الخاصة للأكاديمية الملكية لعامي ١٨٨٥ و١٨٨٦: ليست اللوحات بل الأزياء التي ارتداها أولئك الذين كانوا يُقبِلون على الأكاديمية. في كلا العمودين تستخدم الكاتبة الاستشهاد المأخوذ من تينيسون عن هيلين طروادة على سيدة جميلة. بينما قد تبدو هذه مقارنة مبالغ بها — فأبيات تنيسون شاعر البلاط كانت تجري على ألسنة الجميع — هناك معلومتان توحيان بأن هذا أكثر من مصادفة: نُشِرت قصيدة تينيسون «حلم النساء الحسناوات» للمرة الأولى عام ١٨٣٣ ولذا لا يعتبر استخدمها أمرًا شائعًا لهذا الحد في الصحافة عامي ١٨٨٥-١٨٨٦، كما أن قواعد البيانات الإلكترونية للدوريات الفيكتورية لا توفر أي شواهد أخرى على استخدام الأبيات بهذه الطريقة في التقييمات النقدية. إن ملابس فيرينا في رواية «ابنة الآلهة» — أثواب الكشمير، وريش النعام، والأردية المنفوشة — موصوفة كما لو كان الذي يصفها مراسل أزياء؛ لربما وجدت الأوصاف سبيلها إلى أعمدة الصحيفتين ويجوز العكس. يمدنا عمود صحيفة «بلفاست نيوزلتر» برابطٍ مُحيِّرٍ مع جاين تشارلوت ستانلي المعنية من مقاطعة تيرون، ولكنني أشك أن ستانلي التي نتحدث عنها كانت تسافر إلى الأكاديمية الملكية في عقدها الثامن.
(٢-٢) «فيرجينيا وولف»، «السيدة دالواي» (١٩٢٥)
على خلاف السيدة رامزي في رواية «إلى الفنار» (١٩٢٧) — التي توصف بأنها «يونانية، زرقاء العينين، ذات أنف مستقيم» وتُدعى «أسعد هيلين لهذه الأيام» — فإن السيدة دالواي (كلاريسا) لا تقارن على الإطلاق مقارنة صريحة بهيلين طروادة، ولا تُعتبر جميلة جمالًا عظيمًا. كلاريسا نفسها تُعمل الفكر في مظهرها: «كان لها قوام محصور كعود البازلاء، ووجه صغير مضحك، وأنف معقوف كمنقار طائر» (١٩٧٦: ١١). وحتى بيتر والش — الذي يحب كلاريسا منذ شبابه — يقر بذلك «إنها لم تكن جميلة على الإطلاق» (٦٨). ومع ذلك فإن كلاريسا (مثل هيلين) تجذب إليها كلَّ من يقابلونها: «دلَفَت إلى غرفة، ووقفت … عند مدخل مع الكثير من الناس حولها. بيْد أن كلاريسا كانت هي التي تذكرها المرء» (٦٨). الجملة التي تستخدمها الرواية لوصفها (عبر عينَي بيتر والش) هي «هناك كانت.» كل ما يستطيع بيتر فعله في السبيل إلى وصف تأثيرها هو أن يصرح بأنها موجودة. إننا في عالم إلهات كاميلي باليا الجميلات المصورات في لحظة «الوجود المجرد».
تتمحور شخصية السيدة دالواي حول ثلاثية حب نموذجية (وتقليدية): كلاريسا-هيلين المفعمة بالشباب والحيوية يحبها ريتشارد-مينلاوس المتبلد الحس وبيتر-باريس الرومانسي. أما كلاريسا فتختار ريتشارد. في بداية الرواية نلتقي بها، وقد بلغت الخمسين سنة، بعد أعوام من الزواج الناجح. رغم ذلك هناك لحظة ندم خاطفة. بعد خمسة أعوام في الهند، يزور بيتر والش كلاريسا زيارة غير متوقعة، وتبتهج كلاريسا برؤيته. وعندما يجهش بالبكاء، تُقَبِّلُه. إنها تشعر «بعاصفة استوائية في صدرها»، وتمسك بيده، وتفكر في نفسها: «لو كنت تزوجت منه، لكانت هذه البهجة من نصيبي طوال اليوم!» (٤٣). وبينما تفكر أن «كل شيء انتهى من ناحيتها» (السرير الضيق الذي يكفي شخصًا واحدًا والذي تستقر عليه في العُلِّيَّة بعد مرضها الأخير يمتد ليصبح رمزًا للسجن والانزواء في برج منعزل)، تمر بلحظة اندفاع عاطفي غير معهودة: «خذني معك، فكرت كلاريسا بطريقة مندفعة، كما لو كان على وشك أن يبدأ من فوره رحلة كبرى» (٤٣)، إلا إنها مجرد لحظة: «في اللحظة التالية، بدا الأمر كما لو أن الفصول الخمسة لمسرحية كانت مليئة بالتشويق والعاطفة قد انتهت وكأنها قد عاشت عمرًا في تلك الفصول وهربت، وكأنها قد عاشت مع بيتر، وانتهى الأمر» (٤٣). إن وولف تطوي قصة هيلين طروادة التقليدية في جملة واحدة.
بتقديمها لشخصية كلاريسا بحيث تتصف بالاستقرار من ناحية الزواج وبالارتباط جسديًّا برجل واحد، تقدم وولف بهذا تنقيحًا شاملًا لشخصية هيلين التي تُعَرَّف — في الأسطورة وفي الأدب — بواسطة فعل جنسي واحد. تُرد ثلاثية الحب إلى علاقة ثنائية في مرحلة شباب كلاريسا، وعودة ثلاثية الحب هذه للظهور (متمثلة في عودة بيتر) هي اضطراب عاطفي ولكنها ليست تهديدًا بالغًا. يتذكر زوجها: «كانت كثيرًا ما تقول له إنها كانت على صواب في عدم الزواج من بيتر والش، ومن الواضح أنه — من معرفته لكلاريسا — كان قولًا صادقًا» (١٠٤). إن شخصية كلاريسا-هيلين التي شكلتها وولف لا تختار الزواج الجاد على حساب الرومانسية المندفعة فحسب؛ إنها راضية عن قرارها.
كشأن باريس العصور القديمة، بيتر والش هو شخصية منبوذة (أُبعِد من أوكسفورد) ومندفع عاطفيًّا. عندما نلتقي به في عمر الثالثة والخمسين، نجده على وشك الزواج من زوجة رائد عمرها ٢٤ عامًا، ما زالت متزوجة، وأم لطفلين، وبيتر — المتزوج هو الآخر — قد جاء إلى إنجلترا ليلتقي بمحاميه بشأن طلاقه (٤٢). في ميدان الطرف الأغر يسترعي انتباهه شابة جذابة فيتبعها وصولًا إلى منزل بالقرب من شارع جريت بورتلاند، ينوي أن يدعوها إلى تناول مشروب مثلج. ويتخيلها — مثل سالومي — تطرح «سترًا تلو سترٍ» (٤٩)، يتصورها تهمس باسمه وتفتح ذراعيها له (٤٨)، يرى نفسه «مُغامِرًا، ومجازفًا … حذقًا، وجريئًا، … قرصانًا رومانسيًّا» (يكرر هذه الكلمة الاسمية؛ ٤٩). إلا أن بيتر هو محاكاة فاشلة لباريس؛ فهيلين طروادة عنده، كلاريسا، قد رفضته.
في مرحلة منتصف العمر، يطارده شبح هذا الرفض: «كلاريسا رفضتني، جال هذا بخاطره. وقف هناك يفكر: كلاريسا رفضتني» (٤٥). وفوق ذلك إنها رفضته من أجل الشخصية التي تحاكي شخصية مينلاوس والتي تتسم كالمعتاد بالمحدودية، ريتشارد دالواي. يجري التركيز على انعدام ذكاء مينلاوس خلال معظم النصوص التي تتناول هيلين، وهذا النص لا يشكل استثناءً. يصف النص دالواي بأنه «كان بالمجمل شخصًا لطيفًا ومقبولًا، يتسم بعض الشيء بالمحدودية، وببطء الفهم قليلًا» (٦٧). ترتئي سالي سيتون «أن ريتشارد لن يكون أبدًا عضوًا في مجلس الوزراء؛ لأنه لم يكن يمتلك عقلًا نابهًا» (١٠٧-١٠٨). يتباين القصور الذهني لديه تباينًا شاسعًا مع مكانته العامة كعضو في البرلمان، ومع ذلك «كان على كلاريسا التي تمتلك ضعف ذكائه، أن ترى الأمور برؤيته هو، وتلك إحدى مآسي الحياة الزوجية. مع استقلالية التفكير لديها، يجب عليها دومًا أن تستشهد بريتشارد» (٦٩).
على الرغم من قدرتها على اجتذاب الآخرين نحوها، توصف كلاريسا تكرارًا بأنها — مثل هيلين — متحفظة من ناحية المشاعر: «دومًا ما كان ثمة شيء من البرود بداخل كلاريسا» (٤٥)؛ «هذا البرود، هذا التبلد؛ … عصي على الاختراق» (٥٥)؛ «شديدة الهدوء، شديدة البرود … في برودة كتلة جليد» (٧٢). يلاحظ بيتر والش أنه رغم أنه عرف كلاريسا منذ أكثر من ٣٠ عامًا، فإنه في الواقع لا يمتلك إلا «رسمًا تقريبيًّا» لذاتها. هذه الملاحظات عن البُعد وبرود المشاعر — وهي كلها ملاحظات اختص بها بيتر والش — ليست مرارة ناتجة عن تحامل عاشق مردود؛ فكلاريسا نفسها تقر بأنها تفتقر إلى الدفء (٣٠) ومثلها الأعلى فيما يختص بالمشاعر هي الليدي بيكسبور، التي افتتحت سوقًا خيريةً دون أن يبدو عليها أي أمارات للأسى، رغم أنها كانت قد فتحت توًّا برقيةً تنبئها بموت ابنها في الحرب العالمية الأولى (١٠).
برود الطبع ليس وحده الوصف الذي يحدد سمات شخصية كلاريسا؛ إنه البرود الجنسي: إنها مثل الراهبة (تبرز هذه الصورة مرتين)، فهي تنام وحدها في سرير منفرد، و«العذرية التي حفظها لها الإنجاب … تلتصق بها كأنها ملحف» (٢٩) [ترجمة عطا عبد الوهاب/الطبعة الثانية/ص٣٧]. عندما يقاطعها بيتر أثناء حياكتها لفستانها، تحاول أن تُخبئ الثوب «كعذراء تصون العفة» (٣٧). في «الأوديسة» يعيد هوميروس إلى هيلين بكارتها بمقارنتها بأرتميس (الإلهة العذراء)، أما هنا فلدينا صورة أرتميس «الأوديسة» على نحو أوضح.
وهكذا فإن وولف تجري تغييرات ذات معنًى: فهي تضع شخصية هيلين في الصدارة، وهي تجعل منها مُخْلِصَة، وهي تقدمها في إطار «ما بعد الحرب»، وهي تقدمها في منتصف العمر. إن رواية «السيدة دالواي» هي قصة هيلين طروادة بأكثر الأشكال تحررًا من الأصل. كشأن رواية جاين ستانلي «ابنة الآلهة»، لا تستخدم الرواية قصة هيلين كحبكة لا فكاك منها ولكن كنقطة انطلاق إلى التجربة الأنثوية: تتأمل كلاريسا-هيلين في اختياراتها العاطفية التي قامت بها في مرحلة الشباب، وتبعاتها، وحالة الرضا/السعادة الحالية. هذا العمق الداخلي للشخصية ليس غير معتاد فحسب في سردية تستلهم شخصية هيلين؛ إنه غير معتاد في الرواية. إن وولف تجعل العمق الداخلي لكلاريسا-هيلين السمة المحدِّدة لنوع أدبي جديد: أسلوب تيار الوعي.
على خلاف رواية ستانلي، تستلهم سردية وولف بثباتٍ لغة وصورًا هوميرية. فتكرارات تيار الوعي تتواتر مثل الصيغة الهوميرية، إلا أنها هنا لا تقدم مُساعدًا نظميًّا للذاكرة ولا إشارات مرجعية موضوعاتية بل طريقة غنائية شعرية: «كل ذلك لأنها كانت تنزل للعشاء برداء أبيض لتلاقي سالي سيتون!» (٣٢)؛ «الليدي بروتون، … قيل إن مآدبها للغداء هي حفلات مسلية جدًّا» (٢٨)؛ «وقد أصابتها دهشة عظيمة عندما أتى بيتر والش إليها على غير توقع صباحًا» (٣٧).
مثل الملحمة، تبدأ الرواية «من صلب الأحداث» وأحداثها عَرَضِيَّة. ومن باب المحاكاة تستدعي صورًا تقليدية قديمة؛ فوصيفة السيدة دالواي وهي تأخذ مظلتها «حملتها وهي تتناولها منها كأنها سلاح مقدس تخلعه إلهة بعد أن أبلت بلاءً حسنًا في ساحة المعركة، ووضعتها في مشجب المظلات» (٢٨) [ترجمة عطا عبد الوهاب، الطبعة الثانية، ص٣٥]. السؤال «حسنًا، وماذا حدث لك؟» في الحوار بين بيتر والش وكلاريسا بعد غياب بيتر الذي دام خمسة أعوام هو سؤال معروض في صورة استهلال عسكري: «وهكذا فقبل ابتداء معركة ما تضرب الخيول بحوافرها الأرض، وتهز رءوسها، والضياء يلتمع على خواصرها، وتنثني رقابها. وهكذا تحدى بيتر والش وكلاريسا أحدهما الآخر وهما جالسان جنبًا إلى جنب على الأريكة الزرقاء» (٤١) [ترجمة عطا عبد الوهاب، الطبعة الثانية، ص٥٠]. وكحال هيلين طروادة، تحيك السيدة دالواي. ومثل هيلين طروادة لديها ابنة واحدة، إليزابيث. ويُبالَغ في وصف عينَيْ إليزابيث الصينية الغريبة، ومظهرها المنغولي، وجمالها الرائع. الجمال، في واقع الأمر، هو محور تَرَكُّز أفكار كلٍّ من سبتيموس وارن سميث وأفكار بيتر والش. أثناء سيره إلى حفل كلاريسا، يعرف بيتر بحدسه، «أنه كان على وشك أن يمر بتجربة. ولكن أي تجربة؟ الجمال على أية حال. ليس الجمال الفج الظاهر للعيان … إنها تخلب اللب إلى حد الاستغراق، غامضة، ذات ثراء مطلق، تلك الحياة» (١٤٤-١٤٥). أثناء جلوسه في متنزه ريجنت بارك، يصغي سبتيموس الذي يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة ويقدم ملاحظةً: «بدا كأن العالم يقول: الجمال» (٦٣). الجمال في هذه الرواية ليس جمال هيلين طروادة المطلق، لكنه جمال الحياة وما يستتبعه من قدرة على أن تعيش في اللحظة الراهنة.
كان في مقدور وولف أن تستبعد شخصية هيلين، مثلما تفعل في روايتها التالية، «إلى الفنار»، التي تموت فيها السيدة رامزي في منتصف الرواية، ولقد نوت في مرحلة ما أن تفعل ذلك (كانت كلاريسا ستُقْدِم على الانتحار في النهاية). عوضًا تعيد شخصية كلاريسا-هيلين في رواية وولف الالتحاق بالحياة. وعلى الرغم من ذلك — كما هو نمطي من شخصيات هيلين، وكما هي سمة من سمات هذه الرواية التي تنتهج أسلوب تيار الوعي — تظل باقية في اللحظة: «هناك كانت» (١٧٢). تنتهي الرواية بعجز بيتر عن نقل سحر كلاريسا-هيلين باستخدام اللغة (وهو عجز — كما سبق أن رأينا — معتاد في سرديات هيلين).
في هذا الفصل انتقلت هيلين من الملحمة إلى الكوميديا ومن الشعر إلى الرواية. ما زال ينتظرها ابتكار سردي آخر: إذ تغير لون بشرتها من الأبيض إلى الأسود، مع هيلين الكاريبية في قصيدة ديريك والكوت «أوميروس».
(٣) هيلين الكاريبية: قصيدة ديريك والكوت «أوميروس» (١٩٩٠)
تغطي هذه القصيدة — المكونة من ٦٤ فصلًا مقسمة على سبعة كتب — أربع قارات وقرابة أربعمائة عام. وهي تبدأ وتنتهي في سانت لوسيا حيث يتنافس صيادا سمك، أخيل وهيكتور، على حب الجميلة المحلية، هيلين. يوظف مربي خنازير (رجل إنجليزي أبيض متقاعد، الميجور دنيس بلونكيت) وزوجته الأيرلندية، مود، هيلين كخادمة (ويطردانها من خدمتهما لاحقًا). يتألف السكان المحليون في «مقهى لا عناء» التي تمتلكها السيدة ما كيلمان، من صياد السمك فيلوكتيت (الذي يعاني من جرح متقيح بالساق) وبحار عجوز أعمى، يحمل اسم سفن سييز (ويُعْرَف أيضًا باسم هوميروس). تطوف سردية ذاتية — تتداخل تفاصيل سيرتها مع تفاصيل والكوت؛ من سانت لوسيا إلى بوسطن، ولشبونة، ودبلن، ولندن. ويقوم أخيل أيضًا بمسيرة عندما يرتحل — في رؤيا ناجمة عن ضربة شمس — إلى أفريقيا، أرض أجداده.
بحث الشخصيات عن الأصول محاطٌ بإطار من أسطورة أصل أكبر: وهي أسطورة إله الإنبات الآخذ في الموت والتولد. تبدأ القصيدة بسقوط أشجار سانت لوسيا لتصنع زوارق كانوي. مشاهد شروق الشمس الثلاثة التي تقوم بدور استهلال هي في نفس الوقت محلية وكائنة منذ الأزل: «شروق الشمس يدل على الأزلي، اللحظة التي يغمر الضوء فيها الخواء لأول مرة ويمنح شكلًا لما لا شكل له» (أوستين ١٩٩٩: ٢٩). الجزيرة الخضراء — مثل حديقة أوركيد مود بلونكيت أو المساحة الخضراء في موطنها أيرلندا — هي وثنية، العصر الذهبي (عصر بدء الخليقة)، وكذلك توراتية؛ «مثل آدم وحواء …/قبل الحية. بدون كل الآثام» (١٠. ٣. ٥٨-٥٩).
طوال القصيدة تُذَكِّرُنا الأصداء الهوميرية بالأصل الملحمي للقصة. فكعب أخيل يعلَق مرتين في نبات غابات متعرش، صيغت نقطة ضعفه في إطار تهديد بالغابة. تصنع الآلهة — في ظهورها الوحيد — إعصارًا (سيكلون وما راين)؛ فالزوبعة هي في الوقت ذاته عملاق سايكلوب ذي عين واحدة، مما يمنح فارقًا دقيقًا في المعنى لعبارة «عين العاصفة». وللشخصيات أسماء هوميرية (هيلين، هيكتور، أخيل، إلخ) وهيكتور وأخيل يتنافسان في سباق جري «إلياذي». منذ الإصدار الأول للقصيدة، تجادل النقاد بشأن النوع الأدبي الذي تندرج تحته. ينبذ والكوت خصائص الملحمة لكنه يقول بأن القصيدة ملحمية: «إن عاملًا طبيعيًّا هو أكثر تحديًا من جيش. لربما تستطيع مواجهة جيش. ولا يمكنك مواجهة إعصار. وذلك أكثر ملحميةً» (والكوت ١٩٩٧: ٢٤٤). في مقابلة أخرى يشير إلى أن القصيدة ينقصها المعارك الملحمية. ولكنَّ بها قتالًا من نوع مختلف: صراع من أجل البقاء. وهذا الصراع هو (كالقصيدة) صراع أنتيلي (نسبة إلى جزر الأنتيل في الهند الغربية) ويوناني على السواء، وحديث وقديم.
في بؤرة قصيدة والكوت — مثلما في بؤرة قصيدة هوميروس — نجد الغياب، وهو في هذه الحالة: غياب الاسم، والتاريخ، والوطن، والهوية. الأسماء الكلاسيكية القديمة لها علاقة بتراث العبودية بنفس قدر علاقتها بالإرث الكلاسيكي. لقد كان من عادة مُلَّاك العبيد أن يمنحوا أسماءً ميثولوجية أو توراتية لعبيدهم، ماحين هويتهم الأفريقية. عندما يسافر أخيل إلى أفريقيا، يشعر أفولابي بالدهشة لأن أخيل لا يعرف «المعنى» من اسمه: «الاسم يعني شيئًا …/فإن لم يكن الصوت يعني شيئًا. فمن ثم تكون أنت لا شيء» (٢٥. ٣. ٢٨، ٣٢) يوضح والكوت أنه «بالنسبة لمن لا يعرف/تعرف معني صوت اسمه أو اسمها، فذلك يعني أنه/أنها بلا اسم، لا يملك/تملك هوية» (والكوت ١٩٩٧: ٢٣٨). وهناك وصف لتنويعة على هذه المعضلة الوجودية في الفصل الثاني عندما يتجمع صيادو السمك في ضوء الصباح الباكر: هيكتور، وثيوفيل، وخريسوستوم، وفيلوكتيت؛ «في هذا النور،/لديهم فقط أسماء مسيحية» (٢. ١. ١-٢). إن هذه أسماء «وثنية» ومع ذلك فإنها — كما يلاحظ نورمان أوستن — أسماء مسيحية «وفي ذلك فإنها ليست ألقابًا» (أوستن ١٩٩٩: ٣٦-٣٧). وهكذا فإن الأسماء تعكس التراث المنقسم للشخصيات، ومسعاهم هو كيفية حل مسألة هويتهم المزدوجة: ثقافيًّا وجسديًّا بيضاء وسمراء (مثل الراوي، الذي له أجداد من أصحاب البشرة البيضاء)، أفريقية وكاريبية، كلاسيكية ومسيحية (مثل القصيدة). هذا السعي ينطبق على الشخصيات ذات البشرة البيضاء كما هو منطبق على الشخصيات ذات البشرة السمراء. فبلونكيت الإنجليزي يشعر بالاضطراب عندما يكتشف أن أسلافه اسكتلنديون، وعندما تتعرض سيارته لحادث طريق، يسيء إليه ركاب السيارة الأخرى بأن يدعونه «هونكي» (صيغة تحقيرية لوصف «الرجل الأبيض»، وهو ما لا يتناسب مع إقامته لمدة ٢٠ عامًا على الجزيرة؛ ٥١. ١. ٣٤–٣٨). إن هذه الهوية المختلطة هي التي تجعل من بلونكيت — الذي يبدو في البداية هدفًا سهلًا كمهاجر — شخصية متعاطفة.
يتجسد استجلاء القصيدة للهوية المنقسمة في غموض النوع الأدبي الذي تندرج تحته: أهي ملحمية أم إنها ليست كذلك؟ ما الذي يعنيه أن «تكون» شيئًا دون أن تكون هذا الشيء كليًّا؟ أن يكون ملحميًّا دون أن يندرج تحت تصنيف الملحمة؟
إلى أيٍّ من هذه الثقافات ينتمي اسم أوميروس/هوميروس؟ ماذا «يعني»؟ في هذا السياق، لدى أخيل ما يبرر عدم معرفته لمعنى اسمه.
ومما يبرر أيضًا جهل أخيل بأسماء الأعلام هو أنه ليس هناك معنًى ليعرفه. يوضح نورمان أوستن أن أخيل ليس اسمًا «بل غياب اسم، كونه علامة على الاسم الذي أُخِذ منه» (أوستن ١٩٩٩: ٣١). قصيدة والكوت «أوميروس» — مثل كل سرديات هيلين — هي قصة عن الاختطاف لكن المختطَف هو هوية السود، وتاريخ السود، واستقلالية السود؛ كل هذا أوجز في محو الاسم الأفريقي واستبداله بالوسوم الأوروبية.
وإذ تتمحور حول الاسم الغائب، تتمحور قصيدة «أوميروس» — مثل «الإلياذة» — حول غيابات أخرى، يُرمَز إليها مرارًا وتكرارًا بصور تمثل الفراغ (كالجليد الأبيض، والصفحات البيضاء). ينبري بلونكيت لتأريخه للجزيرة بسبب غياب جزيرة سانت لوسيا وشعبها من كتب التاريخ الرسمية. وهناك غيابات تتعلق بسلسلة النسب: قصتا حياة بلونكيت وأخيل. يقبع ضابط الصف البحري بلونكيت غير مُلاحَظ في دفاتر السجلات لمائتي عام قبل أن يُطالب به الميجور بلونكيت كي يعتبره أحد أجداده. البحر الشاسع يغيب في وقت حرج: أثناء تأدية بلونكيت للخدمة في الصحراء الكبرى ضد روميل في الحرب العالمية الثانية (ليثوسر ١٩٩١: ٩٢). وكما هو شائع في سرديات هيلين، تواجهنا معضلة ملء الفراغ. في قصيدة «أوميروس» ذلك يعني: كيف يتذكر المرء تاريخه الثقافي دون أن يصبح ضحيته؟ كيف تحول التنافس والصراع (الفكرة الرئيسية في «الإلياذة») والرحلة (الفكرة الرئيسية في «الأوديسة») إلى قصيدة عن العودة للوطن («النوستوي (العودة للوطن)»)؟
طوال هذه القصيدة التي تتكلم عن الألم والتعافي (يقول الراوي موضحًا «المعاناة هي فكرة رئيسية/لهذا العمل»، ٥. ٢. ٢٠-٢١) تطفو هيلين. مبدئيًّا تبدو هيلين عند والكوت صورةً معتادةً من سرديات هيلين الكلاسيكية؛ فهي متحفظة، ومحتفظة بشئونها لذاتها، ونائية بنفسها، من الناحية الوجدانية أو من ناحية البنية السردية («فهي تؤدي دورها باستقلالية عن مصائر الشخصيات الأخرى»؛ مينكلر ١٩٩٣: ٢٧٣). مثل هيلين عند فيرجيل، ترتدي ثوبًا أصفر اللون. هذا الثوب سُرِق من — أو أُعْطِي لها من — مود بلونكيت؛ وذلك إبهام لم يُلاقِ حلًّا مطلقًا في القصيدة، ومن ثَمَّ نقل السؤال المعتاد منذ القِدَم حول جُرمها أو براءتها. يتساءل بلونكيت: «ماذا أرادت (هيلين)؟ أن يُطهِّر التاريخ إثم سرقتها للعباءة الصفراء؟» (١٠. ٣. ٥٠-٥١). (يلخص سؤاله تحديًا أدبيًّا عبر ٢٨ قرنًا.) يتنازع أخيل وهيكتور على هيلين، نزاع يؤدي بطريقة غير مباشرة إلى موت هيكتور. ويوقف جمالها الحركة: في ظهورها الأول، بينما تشق طريقها بثقة وخفة إلى الشاطئ، يتسبب جمالها في أن يتوقف الجميع ويحدقون. لاحقًا، وعندما يمسك بها بلونكيت بفعلة سرقة سوار، هو الذي يَجْمُد وليس هي: «جمدته نظرتها» (١٨. ١. ٣٩). هي أيضًا مجهولة. يستعلم الراوي، في إعجاب: «من تلك؟» لا يجيب رد النادلة على السؤال: «هي؟ هي مغرورة جدًّا» (٤. ٣. ٢٧).
عندما تعيش في هذا البلد (الولايات المتحدة الأمريكية) … يجب عليك أن تُجْري باستمرار مقارنات مثل «لو جوسِت (ممثل أسود) هو ممثل جيد مثل شخص آخر.» هذا هو النهج والرعب الذي يشتمل عليه العيش في هذا البلد، باستمرار القول بأن الشيء الأسود في جودة الشيء الأبيض. (والكوت ١٩٩٧: ٢٣٢)
هذه الاستقلالية في الروح والوجود — المتحررة من وسواس تأثير هوميري أو مارلوي — تمثل الهوية السوداء التي يعلنها الراوي وفيلوكتيت عندما يصبحان مواطنَيْن فخورَيْن من سانت لوسيا لا منحدرَيْن متدنيَيْن من أصل أفريقي. إن هيلين هي شخصية ولكنها أيضًا ترمز إلى الجزيرة (مثلما — في العمل الأدبي لكاتب أسبق يجابه القيود الاستعمارية — أن هيلين عند ييتس تمثل أيرلندا). حملت سانت لوسيا لأمد طويل لقب «هيلين الهند الغربية» بسبب جمالها، وكذلك بسبب أنه جرت حرب من أجلها. (تغير زمام السيطرة عليها ١٣ مرة، كما يروي والكوت في القصيدة.) عندما يقرر الميجور بلونكيت — الذي يحب هيلين من بعيد — أن يكتب تاريخها، فيكتب تاريخًا للجزيرة. يبدأ تاريخ الجزيرة في كتب التاريخ فقط عندما يتنازل الفرنسيون عن الجزيرة للبريطانيين عام ١٧٨٢. «إحساس بالالتفاف/كسفينة تتفادى حيدًا بحريًّا» (١٨. ١. ٢٩-٣٠)، يشير التاريخ الاعتيادي إلى «غير الأوروبي … فقط بكونه يعبر عن الغياب؛ هذا إن أُشير إليه أو إليها على الإطلاق» (ويليامز ٢٠٠١: ٢٨٠). إن مقصد بلونكيت من التنقيح التاريخي هو مقصد كل كُتَّاب هيلين من سلسلة الملاحم وما يعقبها؛ فهو يريد أن ينقذ هيلين من الحواشي، ليضعها في مركز الصدارة، ليجعل من التاريخ قصتها: «هيلين تحتاج إلى تاريخ،/…/ليس تاريخه، بل تاريخها. وليس حربهم، حرب هيلين» (٥. ٣. ٤٦، ٤٨).
يعدل بلونكيت مع ذلك عن محاولته، لأنه يصبح مدركًا — أو شاعرًا — بأن تأريخًا من هذا النوع يشكل تجسيدًا متعاليًا، مثال على التملك الاستعماري الذي يخجل منه والذي يحاول تصحيحه. كان بلونكيت قد بدأ بصوغ تناظرات بين حرب طروادة ومعركة القديسين عام ١٧٨٢. هذه هي نسخته — ونسخة التاريخ — لتفسير والكوت لما يدعوه «الشأن الأسود» فيما يخص «الشأن الأبيض». يريد كل كاتب أن يستغل هيلين، والسرد التاريخي هو شكل من أشكال هذا الاستغلال. يدرك بلونكيت حق هيلين، كامرأة وكجزيرة، في أن تكون ذاتها، متحررة من المعاني التي يفرضها التاريخ والسرد.
عندما نلتقي هيلين للمرة الأولى، نجدها تغني أغنية فريق البيتلز «بالأمس»، إلا أن الأمس لا مكان له في قصة هيلين ولا هويتها. (على نحو مماثل يدرك أخيل أن سانت لوسيا، وليس أفريقيا، هي وطنه.) يبدد والكوت عنها السمات الأسطورية: «إنها لم تكن قضية ولا مدعاة للصراع، فقط اسم/لأعجوبة محلية» (٦١. ٣. ١٩-٢٠). وهذه هي الحالة التي يصورها عليها، كأعجوبة محلية، وليس كرمز.
وينطبق هذا أيضًا على شكل القصيدة. فدانتي يقدم البنية ثلاثية المقاطع وإدخال سردٍ «ذاتي» على بحث شخصي (تحرك «أوميروس» هو تحرك داخلي بالمخالفة لطريقة هوميروس). أما الكاريبي فيقدم لهجة الباتواه العامية، التنشئة الاستعمارية، البنية «الهاملتية» (شبح وُرِكْ والكوت الذي يزور ابنه). كاليبسو هي كلاسيكية وكاريبية معًا. هذا «النهج النصي الانتقائي … يفصح عن شاعرية في الهجرة» (تيمى ١٩٩٩: ١٥٨)؛ وهو أيضًا يجسد بنية الأسطورة وبنية المحاكاة: التقليد والتجديد (بو ٢٠٠٦: ١٨٧).
فوق كل ذلك هناك روح لعوب في كلٍّ من المضمون (كثرة التلاعب بالألفاظ، الخطأ في تهجئة اسم قارب أخيل: في الرب «نوثق») والقافية. أُخضِع الابتكار في القوافي التي يستخدمها والكوت في القصيدة لتحليل جيد من قِبَل براد ليثوسر، إذ تشتمل على: القوافي الثلاثية، والقوافي البصرية، والقوافي الفوقية، وقوافي الجناس التصحيفي، والقوافي المُرَخَّمة، والقوافي التي يختلط في تركيبها كلمات دارجة وأخرى لاتينية، والقوافي غير التامة، وقوافي الترخيم الاستهلالي. مع ذلك يحتفظ ليثوسر بتعليقه النهائي من أجل استخدام والكوت للقوافي الأنثوية («مزاوجة مستغربة لنوع مخصص عادةً للشعر الخفيف»).
إن استحضار ليثوسر للمحاكاة، والأسلوب الهزلي، والشعر الخفيف هو استحضار كله في محله. إذا أخذنا في اعتبارنا «هدف والكوت طويل الأمد وهو أن يجسد سانت لوسيا كتابةً» (تيمى ١٩٩٥: ١٧٧) وملحمة ترحاله المختلطة، اللعوب، الساخرة برأفة، فقد يكون بوسعنا أن نصف هذه القصيدة بأنها تحاكي الأسلوب الساخر لكتابات لوقيان السميساطي وبأنها تحاكي حرفيًّا لوقيان السميساطي.
في جنازة مود بلونكيت، يخبرنا الراوي أن «قصة حياتها احتاجت لخاتمة جيدة» (٥٣. ٢. ١٥). وهذا — كما رأينا من بداية هذا الكتاب — ينطبق على كل سرديات هيلين. يختم والكوت قصة هيلين بتركها مفتوحة، ويتركها مفتوحة بتقسيمها، فهيلين يخلفها اثنتان. الأولى هي ابنة أخت ما كيلمان، كريستين، التي تحضر للعمل في مقهى لا عناء: أعجوبة محلية جديدة، «هيلين جديدة» (٦٣. ١. ٩). هذا يتماشى مع تركيز والكوت على استمرارية التبدل (وتلك هي وتيرة البحر — الذي ترتكز عليه هذه القصيدة — وهي في الوقت ذاته بنية الأسطورة نفسها). إلا أن هيلين أيضًا تُقدِّم مَن تخلُفها في صورة جنينها. إن هذه هي هيلين الوحيدة التي تصبح حبلى (هيلين الحبلى عند فاوست هي وهْم) وتتركها قصيدة «أوميروس» في حملها. خصوبتها تصبح استعارة عن أشكال محاكاة هيلين التي تفحَّصناها طوال هذا الفصل: كينونتان في جسد واحد، تعملان جنبًا إلى جنب إلى حين، لكنهما بالأساس مستقلَّتان إحداهما عن الأخرى.
•••
عندما تموت مود بلونكيت في قصيدة «هوميروس»، يدرك الراوي أنه يحضر جنازة شخصية قد ابتدعها. من يوربيديس إلى جوته (وما بينهما وما يتجاوزهما) تدرك هيلين نفسها على نحو مماثل أن وجودها هو وجود أدبي. بيْد أن حياة مود الأدبية يُفْتَرَض معها وجود واقع ملموس؛ مع البيانوات، والتطريز، وأزهار الأوركيد، والوصيفات، وسيرة حياتها يمكن أن تُرسَم من أيرلندا إلى سانت لوسيا. وكذلك أيضًا حياة هيلين، من أسبرطة إلى طروادة (وعائدةً ثانيةً إلى أسبرطة، حسب أقلام بعض الكُتَّاب). هذه هي الرحلة التي سعيت إلى تأريخها، في كتاب يمثل سيرة أدبية (بيان لتطور هيلين في الأدب) وكذلك سيرة شخصية أدبية.
في مسرحية شكسبير «حلم ليلة صيف» يتناقش ثيسيوس وهيبوليتا بشأن القصة التي يرويها العشاق الأربعة عن تجربة التحول الذي يصيبهم أثناء الليل في الغابة الأثينية. فثيسيوس متشكك، يقول بأن عقول العشاق هي كعقول المجانين والشعراء: فهم يتخيلون أشياء، ويخلقون أوهامًا. فمثلًا العاشق سيرى «جمال هيلين في جبهة غجرية.» تعارض هيبوليتا بأن شيئًا دائمًا قد نشأ من التجربة التي عاينها العشاق: فقصتهم «تشكل رواية متسقة اتساقًا عظيمًا» (٥. ١. ١١، ٢٦).
قد تكون هيلين الأسبرطية بدأت الحياة الأدبية مُسبغًا عليها خصائص إلهة، أو كتأويل سببي، أو كمبرر للحرب، إلا أن أصلها الصحيح لا يهم من الناحية الأدبية؛ فقد اتخذت لها — كحال ثيسيوس — حياة خاصة بها؛ فحضورها الأدبي عبر القرون ضخم للغاية مما جعل كتابًا كهذا ليس ممكنًا فحسب بل ضروريًّا. وعندما يستحضر ثيسيوس — الذي هو شخصية خيالية-حقيقية — هيلين، التي هي الأخرى شخصية خيالية-حقيقية، نرى سطوة السرد تتزايد لتصبح «شيئًا متسقًا اتساقًا عظيمًا.»