الاستدعاءُ العاجل!
كان التوترُ السائدُ في أركانِ المنظمةِ في هذا الليل الحالكِ السوادِ أمرًا يثير التساؤل … فليس من المعقولِ أن يكون اختفاءُ النجومِ خلفَ تخومِ السحابِ … واحتلال اللونِ الأسودِ كلَّ المساحاتِ المحيطة بالمَقَر السِّرِّي الكبير بالصحراء الغربية، ليس من المعقولِ أن يكون هو سببَ التوتر، وسببَ استدعاءِ الشياطين اﻟ «١٣»، وتنبيه رقم «صفر» عليهم بسرعةِ تلبيةِ هذا الاستدعاء … إذن هناك سببٌ آخر.
ولأنَّ رقم «صفر» لم يخبرهم به … فقد انطلقوا يُسابقون أفكارهم للوصولِ إلى المَقَر السِّرِّي الكبير، حيث يقع هذا المجهول الخطير جدًّا.
أفواجًا خرجَت سياراتهم … وحَوْل ميدان الرماية دارت … فارتفع صُراخُ فراملها، واحتكاكُ عَجلاتها بأسفلت الطريق … وفي اتجاه «الإسكندرية» انحرفَت إلى الطريقِ الصحراوي … وعَبْر أجهزة الاتصالِ المتقدمة، المزوَّدة بها سياراتهم … كان التواصلُ بينهم رائعًا ومثيرًا … وكعادته، كانت أول قنبلةٍ من صُنعه … إنه «عثمان»، الذي أطلق هذه القنبلة قائلًا: قرأتُ أنَّ الأرضَ التي يقوم عليها المقرُّ السِّرِّي الكبير حدث بها تَصَدعاتٌ خطيرة.
وكان ﻟ «ريما» سؤال تَهكمي، لم تتمكن من كتمانه، رغم أنَّها تعرف جيدًا نتائجه، فقالت له: وأين قرأتَ هذا؟ في مجلةِ «علاء الدين»؟
تناقلَت أجهزة الاتصالِ ضحكاتِ الشياطين على ما قالته «ريما» … كما نقلَت حَنَق «عثمان» وردَّه عليها بقوله: هناك تقاريرُ متابعةٍ فورية لكلِّ ما يطرأ على مقارِّ المنظمة … وهذه لا يقرؤها إلا المثقفون. وفي جديةٍ شديدةٍ، قال «أحمد» معلقًا: أنا أتابع هذه التقاريرَ بصفةٍ دورية، ولم أقرأ هذا الخبر.
فتح «عثمان» تابلوه السيارة، وأخرج بعض الورقات، وهو يقول: ها هو التقريرُ بين يدَيَّ … وقد حصَلتُ عليه وأنا في طريقي للحاقِ بكم في جراج المَقَر.
أحمد: تقصد أنَّ هذا حدث منذ دقائق؟
عثمان: نعم.
إلهام: وهل وَرَد بالتقرير شيءٌ عن الأضرار التي نجمَت عن هذا التصَدع؟
عثمان: نعم … لقد تم تدمير جزءٍ مُهِم من سقف النفَق الواصل بين الطريق الرئيسي ومدخل المَقَر.
هنا علا أكثرُ من صوتٍ يطلب تفسيرًا لما سمعوه … فقال «أحمد» شارحًا: تعرفون أنَّ مبنى المَقَر ليس له مَنفَذ خارجي على الصحراءِ الغربية … وأنَّ المنفَذ الوحيدَ هو هذا النَّفقُ الذي يصل ما بين الجراج الواقع أقصى يمين غُرف التحكم والمراقبة، وينتهي إلى بوابةٍ خفية تقع على بُعد عدة كيلومتراتٍ من المَقَر … ومُغلقة ببابٍ صخري، لا يُفتح إلا ببث الشفرة الإلكترونية.
وهنا أكمل «عثمان» حديثه قائلًا: سقفُ هذا النفقِ هو الذي تضرَّر من جَرَّاء التصدعاتِ التي حدثَت. وفي قلقٍ، قال «أحمد»: هل هذا يعني أنَّ النفقَ قد انكشف للآخرين؟
وهنا تدخَّلَت «إلهام» تقول في دهشة: ينكشف لمن يا «أحمد»؟ … إنَّها الصحراءُ الغربية، وليست ميدانَ «سفنكس».
وبنفس الحماس، أكملَت «ريما» قائلة: نعم، من الذي سيمُرُّ في الصحراءِ الغربيةِ لكي يطَّلع على هذا النفَق … وإذا رآه أحدٌ فرضًا … فكيف سيكتشف أنه نفَق؟
وتدخَّل «بو عمير» مكملًا بقوله: وحتى لو اكتشف ذلك … فكيف سيعرف أنَّه يخُص المنظمة؟
عثمان: القضيةُ ليست بهذه البساطة … فقد نسيتم قمرَ المنظمةِ «سوبتك» الاصطناعي، الذي قام بتصويرِ هذه المنطقة … وظلَّ يُرسِل سيلًا من الموجاتِ الكهرومغناطيسيةِ لفترةٍ ليست قصيرة … على أرضِ المَقَر ومبناه … رغبةً منهم في معرفةِ ما يدور في هذا المكان.
وهنا تدخَّل «أحمد» مُصدِّقًا على ما قاله «عثمان»، بقوله: ولا تَنسَوا أنَّ أكثر من مطاردةٍ دارت على أرض الصحراءِ الغربية، بالقربِ من الموقع القديم للمَقَر.
قيس: هل لهذا استَدعَونا؟
خالد: لا أعتقد أننا سنعرف لماذا استَدعَونا حتى نصل.
وهنا صاحت «ريما» قائلة: لقد اقتربنا من «الإسكندرية» … وأرى أن نتناول غذاءنا على شاطئ البحرِ … فماذا ترون؟
لاقى اقتراح «ريما» موافقة الشياطين جميعًا، عدا عثمان … الذي اعترض مُتعنِّتًا بقوله: ليس لدينا وقتٌ لذلك … وأرى ألا نتوقف إلا للحصول على بعض السندويتشات أو الوجبات الجاهزة التي يمكننا تناوُلها ونحن في الطريق.
وشعَرَت «إلهام» أنَّ «عثمان» لا يعترض إلا ليثير «ريما»، فنظرت إليها، وقد كانت معها في نفس السيارة، ففهمَت ماذا تقصد … فقالت مُعَلقة: ليس عندي مانعٌ في أن أوافق على اقتراح «عثمان» ونتناول وجباتٍ جاهزة.
كان موقف «ريما» مفاجأةً ﻟ «عثمان». غير أنَّه تَدارَك أمره سريعًا، وقال يُشاكِسها: لا … لا … أعتذر عن اقتراحي … فالوجبات السَّريعة تُسبب السمنة وتزيد الوزن … وهذا لا يتفق مع طبيعة عملنا ولا مع الصحة العامة.
كان هذا ما تريد أن تصلَ إليه «ريما» وبقيةُ الزملاء … وأيضًا «عثمان» الذي شارك في إعداد موقع التجمع مشاركةً جيدة … وافترشوا جميعًا الرمال، يفترسون في نهَم ما حَوَته الأطباقُ البلاستيكيةُ المغلفةُ بورقِ الألومنيوم … حتى أتَوا على كل ما حَوَته، ولأنَّ الطعام كان شهيًّا … والهواء نقيًّا … والسماء صافيةً … والبحر هادئًا … فقد تمدَّدوا جميعًا يلتقطون أنفاسهم … استعدادًا لاستكمال رحلتهم … إلا «عثمان» الذي نزل إلى الماء ليتمددَ على سطحه، كما تعوَّد دائمًا … ولم يخرج منه إلا عندما زمجرَت محرِّكات السيارات الجيب الخاصة بالشياطين استعدادًا لاستكمال الرحلة.
وقبل أن تستوي السيارات على الطريق … كانت سيارته هي الأخرى تستَعِد للانطلاق … وردًّا على تساؤل ﻟ «خالد»، قال فيه: ألم نكن في حاجة لهذا الوقت الذي أضعناه في الغداء لنسرع في تلبية استدعاءِ المَقَر؟ إنَّ ما قمنا به هو استعدادٌ واجبٌ لأي مهمةٍ عاجلةٍ أو مواجهةٍ مفاجئة قد تتعرض بالقرب من النفَق المُتصَدع أو منفَذ دخوله.
وأخيرًا، انطلق شعاع ليزر خاطف من سيارة «أحمد» … انطلقَت على أثَره سياراتُ الشياطين في تَتابُع مُنَظم، قاصدةً الصحراء الغربية؛ حيث المقرُّ السِّرِّي الكبير، والنفَق المُتصَدع.
انطلقَت السيارات الجيب، تحمل في قلبها ثلاثة عشر شابًّا عربيًّا، يجمعهم حبُّ وطنهم، وخوفُهم عليه … ورغبتُهم الدائمةُ في التضحية لأجله بالوقت والجهدِ والروح … لم يخافوا يومًا، ولم يهِنوا … وتصَدوا لأعداء أمتهم في داخل الوطن وفي خارجه … ولم يتركوا بلدًا في العالم إلا وسافروا إليه، مُطارِدين أعداء وطنهم، وباحثين عن خطرٍ يُهدِّده … وها هم الآن يسارعون لتلبية نداء قادتهم، دون أن يعرفوا نوع الخطرِ الذي سيواجهونه.
انطلقَت السيارات … وانطلقَت الأرقامُ تتقافزُ على شاشات عداداتِ السرعة، وانطلقَت البرامجُ المعاونةُ تُدير أجهزة المِلاحة، وتُعين في إدارة وحدات القيادة المختلفة … ولم ينتصف النهار، إلا وكانت السياراتُ على مشارف المنطقة «س»، التي يقع بها منفَذ النفَق … وقتها اقترح «أحمد» أن يدخُل بسيارته النفَق، وأن تسير السيارتان الأخريان على جانبَيه لدراسة حالته وما آل إليه التصَدع.
واعترض الجميع على ما يقول … وطالبوه بأن ينتظر حتى يُجروا عمليةَ استطلاع إلكترونية، يستكشفون مسار النفَق … فلا أحد يعرف ماذا جرى له بعد هذا التصَدع الذي ألمَّ به، وبالأرضِ المحيطةِ به … وبعد أن انكشف جزءٌ من مساره، الذي تحطم سقفه.
ومن منفَذٍ خاص بمقدمةِ السيارة … انطلقَت كبسولةٌ صغيرة، تحمل مُوَلدَ ذبذبات، وظيفتُه أن يُجري مسحًا إشعاعيًّا لكل سنتيمتر من النفَق … ويتم التقاط هذه الأشعةِ الإلكترونية حال ارتدادها بأجهزةِ استقبالٍ خاصة، مزوَّدةٍ بشاشاتٍ ما إن بدأ المُوَلد في العمل، حتى ظهرت على هذه الشاشات تفاصيلُ النفَق، ومدى التدميرِ الذي أصاب سقفَه من جَرَّاء التصَدعاتِ التي أصابت أرضَ المنطقة.
وقد بدَت الأجزاء المنهارة من السقف متناثرةً على أرض النفَق … مما يجعل السيرَ فيه الآن مستحيلًا.
ولأنَّ شاشات الكمبيوتر للسيارات الثلاث، قد نقلَت هذه التفاصيل … فقد انطلق تساؤل جماعي، عبَّر عنه «عثمان» بقوله: كيف سنصل إلى المَقَر وهذا حال منفَذِنا الوحيدِ إليه؟
وكان على قائدِ المجموعة … «أحمد» أن يجيب … ولم يكن لديه غيرُ إجابةٍ واحدة، وهي الاتصال بالمَقَر … وهذا ما حدث … وكانت الإجابة سريعةً للغاية؛ فقد قال له الضابط «محسن»، الذي تلقى الاتصال: هناك منفَذ آخر للطوارئ، يمكنكم استخدامه.
أحمد: وأين هذا المنفَذ؟
الضابط «محسن»: إنَّه في أسفل سطح الماء، في بحيرةٍ على بُعد كيلومترَين شمال شرق بوابة النفَق … وفي دهشةٍ بالغة، سأله «أحمد» قائلًا: هل سننزل البحيرة بسياراتنا؟
وكانت الإجابة مثيرةً للدهشةِ وللعقل … فقال له الضابط: ستنزلون بسياراتكم حتى تختفي تحت سطح الماء.
أحمد: ألن نصابَ بإسفكسيا الخنق، ونموت جميعًا؟
وبسؤالٍ آخر أثاره الضباط «محسن»، قائلًا: كم من الوقت يمكنكم قضاؤه تحت الماءِ دون أن يحدُث هذا؟
أحمد: عشر دقائق.
الضابط «محسن»: لن يستغرق الأمر أكثر من خمسِ دقائق.
أحمد: كيف؟
وفي حسم، سأله الضابط «محسن» قائلًا: ألا تثق في المنظمة؟
وفي احترامٍ شديد … وبلهجةٍ عسكريةٍ صارمة، أجابه قائلًا: بلا أدنى شك.
محسن: إذن لا تضيع وقتك.
كان القرار صعبًا … والاختيار قاسيًا … فلا هو يستطيع العودة إلى القاهرة … ولا هو يستطيع المجازفةَ بالثلاثة عشر محاربًا دفعةً واحدة … لذلك، وللمرة الثانية، قرَّر أن ينفرد هو بالتضحية … وذلك بالنزول وحده بسيارته «اللاندكروزر» تحت سطح هذه البحيرة … فإن نجا، اتصل ببقية زملائه، وشرح لهم الموقف، وإن غرق … أنقذ زملاءه، وعليهم استكمال المسير من بعده … ولأنَّ الأمر شورى بينهم … فقد رفضوا جميعًا أن يقوم بهذه التضحية … وقد عرض «عثمان» أن يقوم بها بديلًا عنه، وكذلك بقيةُ الزملاءِ … غير أنَّ «ريما» كان لها رأيٌ آخر، فقد قالت: ولماذا النزول بالسيارة؟ … لماذا لا ينزل أحدنا غَوصًا تحت سطح ماء هذه البحيرة، ويكتشفها لنا؟
ولم يُعجِب الاقتراح «عثمان»، الذي قال معترضًا: قد يكون في نزول البحيرة بدون سيارةٍ خطرٌ داهم.
وفي حَنَق، قالت «ريما»: كيف تستوعب البحيرة سيارة … ولا تستوعب إنسانًا؟!
عثمان: هل هذه البحيرة صناعيةٌ أم طبيعية؟
لم تُجب «ريما»، رغم أنَّه انتظر إجابتها … فاستطرد قائلًا: بالتأكيد هي بحيرةٌ صناعية؛ لأنَّ الصحراءَ الغربيةَ بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن مصادر المياه. ورأى «أحمد» أنَّ المعلومة ناقصة، فقال مصحِّحًا: إنها غنيةٌ بالمياه الجوفية … وقد تصنع هذه المياه بحيرةً ضخمة.
عثمان: ولكني متأكدٌ أنَّ هذه البحيرةَ صناعية.
إلهام: لماذا؟