طريقٌ آخر إلى المَقَر!
كان ﻟ «عثمان» رأيٌ منطقي في قضية بحيرة الماء، وله فيه أسبابٌ وأدلة، فقد قال: هل رأيتم هذه البحيرة من قبلُ وأنتم في طريقكم إلى المَقَر؟
سألهم، ولم ينتظر إجابتهم … بل أكمل قائلًا: لم يسبق لنا أن رأينا هذه البحيرة … ولا يمكن أن تكون قد تفجَّرَت من بين الصخور، ولا نعلم عنها شيئًا.
أحمد: إذن، فهي بحيرةٌ صناعية … تُخفي تحتها منشآتٍ متطورة … وأنا ما زلتُ عند رأيي … وسأخوض التجربة بالسيارة … إلى نهايتها، ولن يَثْنيَني عن ذلك أحد.
قال هذا، ثم التفَت إلى «إلهام»، التي كانت تجلس إلى جواره، وقال لها: يمكنك النزول والركوب مع «عثمان» في سيارته.
وفي ثقةٍ شديدة، قالت له «إلهام»: لا، بل سأبقى معكم ونخوض التجربة سويًّا، وكذلك «ريما» … أليس كذلك؟
التفتَت «إلهام» إلى حيث تجلس «ريما» في الكنبةِ الخلفية … فوجدَتها تبتسم، وتقول لها: سأنزل معكم تحت المحيط.
لم ينتظر «أحمد» مزيدًا من الوقت … بل أدار السيارة، وانطلق في الاتجاه الذي حدده لهم الضابط «محسن»، ومن خلفه سارت بقية سيارات الشياطين … لم يستغرق الأمر كثيرًا … فرغم أنَّ الطريقَ لم يكن ممهدًا … إلا أنَّه لم يكن به عوائقُ تستنزف وقتهم … وعندما بدَت لهم البحيرة عن بُعد، رأَوا حولها صخورًا غير منتظمة، وقد صنعَت ما يشبه السُّور … وقد يسَّر ذلك عليهم الأمر كثيرًا … فقد حدَّد لهم ذلك السور طريقَ نزولهم إلى البحيرة، من خلال منطقةٍ فيه كانت خاليةً من الصخور، فاتجه إليها «أحمد» بسيارته «اللاندكروزر»، واتخذ طريقه منها إلى الماء مباشرة … ولم يندهش كثيرًا عندما وجد طريق النزول إلى الماء ممهدًا … وفي انحدارٍ آمن، انزلقَت السيارة في نعومة، حتى غاصت تمامًا في الماء.
في نفس الوقت، كانت مقدمتُها تخرج من طرف أنبوبةٍ ضخمة، وقد تخلصَت تمامًا مما يعلَق بها من ماء … ولم يمضِ أكثر من خمسِ دقائقَ عندما خرجَت السيارة كاملةً إلى جراج الطوارئ بالمَقَر السِّرِّي … ومن خلفها وبفارقٍ زمني قليل … خرجَت سيارةٌ أخرى من سيارات الشياطين … وهكذا حتى اجتمعَت كل السيارات في الجراج، واجتمع الشياطين في غرفة الاستقبال الكبرى.
ولم تَمضِ دقائق، إلا وسمعوا صوت الضابط «محسن» يأتيهم من خارج القاعة مُرحِّبًا بقوله: لا يفعل هذا إلا أبناءُ المنظمة.
وقبل أن يُتم جُملتَه، كان يقف بالباب، وينظر لهم جميعًا، وعلى شفتيه ابتسامةٌ واسعة، ثم قال لهم: لقد لبَّيتم الاستدعاء في أقلَّ من الوقت المقَدر لكم.
إلهام: لقد كنا في حَيرةٍ من أمر البحيرة … ولولا ذلك لأصبحنا هنا قبل الآن بنصفِ ساعة.
وعَلقَ «أحمد» قائلًا: لم نكن نعلم عنها شيئًا.
نظر له الضابط «محسن» مبتسمًا، وقال له: أنا أقصد، ما الجديد في أن تصدُر لكم الأوامر دون تفاصيل؟
أحمد: هذه الصلاحيات لرقم «صفر» فقط.
الضابط «محسن»: لا أفهم.
أحمد: أقصد أنَّ أمرًا كهذا، كان يجب الرجوع فيه لرقم «صفر»، ويصدُر لنا الأمر منه مباشرة!
الضابط «محسن»: وإذا اعتذرتُ لكم، فهل ستقبلون اعتذاري؟
وهنا تدخَّل «قيس»، ليُغيِّر مجرى الحديث، فقال له: متى سنعرف سبب استدعائنا؟
الضابط «محسن»: غدًا صباحًا، في غرفة الاجتماعات الكبرى!
كانت هذه هي الإشارة للشياطين بأن يلجئوا إلى أسِرَّتهم بغُرف نومهم في الطابق الثاني ليحصُلوا على ما يحتاجون له من الراحة والنوم، استعدادًا لاجتماع الغد … واستعدادًا لعمل يعرفون أنَّه سيبدأ فور انتهاء الاجتماع … ولأنهم لم يتناولوا عَشَاءهم بعدُ … فقد آثَرَت إدارة المَقَر أن ترسل لكلٍّ منهم عَشَاءه في غرفته.
وكم كان «عثمان» سعيدًا للغاية، عندما وجدها تنتظره على المائدة … وبرفقتها أنواع الجبن التي يحبُّها وكوب اللبن ومُربَّى المشمش الأثيرة لديه … إنها بالطبع صينية العَشَاء، التي أنهاها على عَجل، ليغسل أسنانه … فشَعَر بوخزات في رسغه، من ساعة يده … وبنظرة سريعة على شاشتها، عرف أنَّه اتصال من «ريما»، فسحَب سماعة الأذن من جراب في أوستيك الساعة، ووضَعه في أذنه، وقال: هاي «ريما».
ريما: هاي «عثمان»، ماذا تفعل؟
عثمان: لقد فرغتُ لتَوِّي من العَشَاء، وأقوم بغسل أسناني … هل حدث شيء؟
ريما: لقد رأيتُ ضوءًا كضوءِ الكشاف الشخصي الصغير يتحرك حول المبنى.
عثمان: وما الذي يُقلِقكِ؟ إنهم رجال أمن المَقَر.
ريما: يا «عثمان»، إنه ضوءٌ أخضر، وانعكاسُه ضعيف … ومن يتحرك إمَّا أنه لا يحتاج للرؤية، أو أنَّ لديه القدرةَ على رؤية انعكاس هذا الطولِ الموجي.
عثمان: ماذا تقصدين؟
ريما: أقصد أنَّ صاحب هذا الكشَّاف لا يستعين به على الحركة … ولكنَّه يحمله لغرض آخر.
عثمان: معنى ذلك أنَّه قادرٌ على الرؤية في الظلام.
ريما: أو أنَّه يرتدي نظارةً تتعامل مع هذا الطول الموجي.
عثمان: وهل يكون من رجال أمن المَقَر أيضًا؟
ريما: لا أظنُّ … وعلينا الاتصال بالأمن لنعرف.
عثمان: هل تظنين أنهم لم يرَوْهم؟
ريما: علينا الاتصال بأحد القادة لاستشارتهم.
عثمان: سأتصل ﺑ «أحمد».
وما إن شَرَع في وضع إصبعه على زرِّ الِاتصال في ساعته … حتى أتاه وخزُها … وبالنظر إلى شاشتها، عرف أنَّه «أحمد»، فقال له: أهلًا يا زعيم … خيرًا.
أحمد: هل رأيتَهم؟
لم يَزِد «أحمد» على هذه الكلمات الثلاث … ولكن «عثمان» فهم مقصده، فقال له: لقد كِدتُ أن أتصل بك لأجلهم.
أحمد: أظن أنهم سبب هذا الظلام التام، الذي تتعرض له المنطقة.
عثمان: تقصد لأنَّهم يرَوْن في الظلام؟
أحمد: أقصد أنهم لا يرَوْن إلا في الظلام!
عثمان: أهذا استنتاج؟
أحمد: طبعًا، وأرى أيضًا أنَّ الضوء يؤذي عيونهم.
عثمان: هل هذا ما سيُخبروننا عنه غدًا في الاجتماع؟
أحمد: تقصد أنهم يعرفون؟ … إذن فلننتظر للغد.
عثمان: لا … أنا سأخرج الآن، لأرى ما يُمكن عمله.
أحمد: إنَّ في خروجك خطورةً جمَّة عليك … فلن يمكنك إضاءةُ كشَّاف، ولا استعمال وسيلةٍ أخرى للسير في الظلام.
عثمان: سأفعل مثل الخفاش.
أحمد: ليس لديك مُولِّد ذبذباتٍ ولا مستقبلٌ حساس.
عثمان: أيمكنك العثور على إحداها الآن؟
أحمد: بالطبع لا.
عثمان: ولكن يجب أن تكون هناك وسيلةٌ للتصرف.
أحمد: أعتقد أننا يجب أن ننتظر حتى اجتماع الغد.
عثمان: لماذا لا نبحث عن سلكٍ طويل ونصله بمصباح ونُمِده بالكهرباء من إحدى الوصلات في غرفنا … ونخرج سويًّا مع ضوئه؟
أحمد: لا يوجد في المبنى كهرباء.
عثمان: كيف عَرفتَ؟
أحمد: هل ترى مصباحًا واحدًا مُضاءً هنا؟
عثمان: لا.
أحمد: هل تسمع صوت موتورٍ يدور؟
عثمان: لا.
أحمد: ألا يدُل ذلك على عدم وجودِ كهرباء في المَقَر؟
عثمان: لا … فقد يدُل على وجود عطلٍ ما، وعلينا أن نبحث عنه.
أحمد: وهل تظن أنَّ مقرًّا كهذا يفتقد لمهندسين ومتخصصين لديهم الكفاءةُ لإصلاح هذا العطل؟
عثمان: إنَّك تصوِّر لي الأمر وكأني أحيا قصة خيالٍ علمي.
أحمد: إنها شيءٌ من هذا القبيل، وعلينا أن نبحث عن أسبابه، وفورًا.
في هذه اللحظة، كان «بو عمير» يطرق باب «عثمان»، قائلًا: افتح يا «عثمان»، أنا أريد الحديث معك.
فقال «عثمان» ﻟ «أحمد»: إن «بو عمير» يقف بالباب … سأفتح له وأعود للحديث معك.
أحمد: لا، لا … تعال أنت و«بو عمير» إلى غرفتي؛ فأنا أريدكما.
أغلق «عثمان» تليفونه، وأسرع إلى الباب، ففتحه … فوجد «بو عمير» يدفعه إلى داخل الغرفة، قائلًا: هناك كائناتٌ غريبة تملأ مزرعة المَقَر.
عثمان: هل رأيتَها؟
بو عمير: نعم … إنَّ لهم قوانينَ خاصة في التعامل مع النور … وأحدهم خلفي الآن.
ساد الظلام غرفة «عثمان»، وكذلك المَمَر الفاصل بين الغُرف، فقال «بو عمير» له: أترى … إن كل مكان يتحركون فيه تنقطع عنه الكهرباء، ويسوده الظلام.
عثمان: هل تقصد أنَّ هناك العديدَ منهم في المبنى؟
بو عمير: نعم.
عثمان: فلنذهب إلى غرفة «أحمد»، ونتدارس الأمر.
تحسَّس «عثمان» و«بو عمير» طريقهما إلى غرفة «أحمد»، دون أن يضيئا بطاريةً، أو يشعلا عود ثقاب … وعند باب الغرفة، توقفا، وطرق «عثمان» الباب، فانفتح وحده … دليل أنَّه لم يكن مغلقًا … فصاح مناديًا بقوله: «أحمد» … هل أنت هنا؟
أحمد: ادخل يا «عثمان» وأغلق خلفك.
شَعَر «عثمان» أنَّه لم يسمع صوت «أحمد» … وأنَّ من يحادثه هو شخصٌ آخر … وأنَّ هناك خدعةً ما تجري الآن له ولمن بالمَقَر … فقرر التصدي لها أيضًا بخدعة، فقال له: هل أنت على استعداد لاستضافتنا؟
الصوت: ادخل يا «عثمان»، ولا داعي لهذه الأسئلة الغريبة.
وبقانون الهجوم خيرُ وسيلةٍ للدفاع … باغته «عثمان»: من أنت؟
ضحك الصوت عاليًا، ثم قال: أنا الليل!
عثمان: أين «أحمد»؟
الصوت: لقد اختطفه أعواني … هل تريد الاطمئنان عليه؟
أجابه «عثمان» بلهجةٍ آمرة، قائلًا: الآن.
وبلهجةٍ متعالية، قال الصوت: لا تأمرني؛ فليس لديك القوة لذلك.
عثمان: من أنت؟
الصوت: لا تسأل كثيرًا.
ومن المنطقة التي يأتي منها الصوت … رأى مصباحًا صغيرًا، ذا ضوءٍ أخضر يتحرك في اتجاهه، حتى اقترب منه، فاستَعَد له … إلا أنَّه تجاوَزَه، إلى أن خرج من الباب.