قنبلة الثقب الأسود!
علت الهمهمات في القاعة، وتداخلَت حين أطلق «عثمان» قنبلته، وقال: لا يملك هذه المقدرة غير الثقب الأسود.
ولم تهدأ هذه الهمهمات إلا عندما أكمل حديثه قائلًا: تذكُرون عملية «الثقب الأسود»، تلك القنبلة التي كانت تصنع مجالًا مغناطيسيًّا هائلًا في مكان تفجيرها … فيَسحَق هذا المجال كلَّ الأجسام الموجودة في هذا المكان؟
أعتقد أنَّ ما يحدث هنا هذه الأيام هو من صُنع آلةٍ متطورة للغاية، تعمل عملَ هذه القنبلة.
كان ﻟ «أحمد» تعليق، وكان عليه أن يُصرِّح به، ليرى رأي الآخرين فيما طرحه «عثمان»، فقال: لو أنَّ هناك آلةً يمكنها بث مجال جاذب بهذه القوة لأثَّر ذلك على كل محتويات مبنى المَقَر، إن لم يؤثِّر على مبنى المَقَر نفسه.
عثمان: لا … أنا أقصد أنَّ هذا المجال يجذب النوتونات فقط، وهي الجُسيمات المكوِّنة للضوء.
أحمد: سيكون هذا شيئًا رائعًا لو أنَّه حدث … وستكون هذه الكائنات أكثر تقدُّمًا من الإنسان.
وكان ﻟ «رشيد» رأيٌ آخر، وقد طرحه قائلًا: لو افترضنا أنَّ هذه الكائنات أتت من خارج الكرة الأرضية … فليس من الضروري أن تكون أكثر تقدمًا منَّا؛ لأننا تمكَّنا من غزو كثيرٍ من الكواكب … أمَّا عن جاذبية الأضواء … فأعتقد أنَّها ليست آلة … بل نَيْزك، ذو قدرة جاذبة فائقة … وقد أحضروه معهم في سفينتهم.
وكان ﻟ «أحمد» رأيٌ فائقُ الغرابة، ولكنَّه الأكثر واقعية؛ فقد قال: «أنا أميل لهذا التصور … وهو يؤدي إلى تصوراتٍ أخرى أكثر منطقية … فلو أنَّ نَيزكًا سقط من السماء وكانت له هذه الجاذبية، حيث إنه يجذب إليه كلَّ شعاع ضوء، المفترض أنه سيصل إلى عيوننا … وعثَر عليه أحدٌ ما … فإنه سيظلُّ خفيًّا، ما دام هذا النيزك معه.
إلهام: معنى هذا أنَّه لم يكن نيزكًا واحدًا، لا … بل عدة نيازك حملها أولئك الرجال وساروا بها … وما دامت معهم، ظلوا مختفين، لا يراهم أحد … لأن موجات الضوء الساقطة عليهم لا تنعكس أبدًا … فهذا النيزك الفائق الجاذبية يمتص هذا الضوء.
السيد «قاسم»: إذن، هناك غُزاة لنا من سكان الأرض.
أحمد: وقد تكون جماعة «سوبتك» أو أي جماعةٍ جديدة.
السيد «قاسم»: وما العمل؟
أحمد: يجب إجراء اختبار قدراتٍ للمجموعة الموجودة بالمَقَر.
السيد «قاسم»: تقصد هذه الكائنات؟
أحمد: نعم!
السيد «قاسم»: كيف؟
أحمد: بالمواجهة … سنُواجههم.
السيد «قاسم»: متى؟
أحمد: ستخرج مجموعةٌ منا الآن لتنفيذ الخطة «اختبار»، وستكون معنا أجهزة استقراءٍ مغناطيسي تدُلنا على أيِّ جسمٍ جاذبٍ موجودٍ في نطاق تحرُّكنا.
السيد «قاسم»: وفقَكم الله.
- (١)
يخرج «عثمان» و«بو عمير» و«رشيد» و«خالد» معه لإجراء اختبار القدرات.
- (٢)
يجلس «قيس» خلف شاشاتِ المراقبة، ويستَعِد للتدخل إلكترونيًّا هو و«مصباح».
- (٣)
تستَعِد «إلهام» و«ريما» بالوسائل المساعدة، ومعهما «هدى» و«زبيدة»، أمَّا «باسم» فيستَعِد للتدخل المفاجئ.
- (٤)
على الجميع أن يتناولوا ولو إفطارهم قبل التحرك، وأمامهم عشرون دقيقةً لإتمام ذلك، والنزول إلى أرضِ العملياتِ سيكون في الساعة التاسعة تمامًا.
وفي خطواتٍ جادة، تحرَّك الشياطين إلى قاعة الطعام، وكأنَّ على رءوسهم الطير … فقد دخلوا في حالةٍ خاصة، لا يمكن لأي طارئ أن يُخرجَهم منها … إنهم لا يسمعون إلا ما يقوله القائد … ولا ينفِّذون إلا ما طلَبه منهم … ولا يتحرَّكون إلا في حدودِ ما رسَمه لهم … إنهم الآن محاربون.
انتهى الإفطار … وانتهى الوقت المحدَّد لاجتماعهم في غرفة الطعام … وبإشارة من يد «أحمد» تفرَّقوا … كلٌّ إلى واجبه. أمَّا هو … فقد خرج ومعه «بو عمير» من باب غرفةِ الطعام إلى حديقةِ المَقَر … وبعد عدةِ دقائق، خرج «عثمان» ومعه «رشيد» من باب غرفة الاجتماعات إلى الحديقة الخلفية … أمَّا «خالد» فقد انتظر لدقائقَ أخرى، ثم خرج من باب قاعة الاستقبال إلى حيث الجراج، ومن الجراج استَعَد ليغادر مبنى المَقَر … إلا أنَّه لاحظ أنَّ هناك من عَبث بسياراتهم … فقام بإرسال رسالةٍ إلى «أحمد» أخبَره فيها بما حدث … فردَّ عليه برسالة يقول له فيها: أبلغ الإدارة الفنية … واخرج أنت إلى مهمتك.
أطاع «خالد» الأمر، وقام بإبلاغ الإدارة الفنية، ثم غادر الجراج … وعلى بابه الخارجي، وجد دراجة الشاطئ، ذات العَجلاتِ الأربع … فقام باختبارها، فوجدها جاهزةً للانطلاق … فقام بالدوران بها حول مبنى المَقَر، وتفَقد رَدهاتِه جيدًا، وأبوابَه، وممَرَّاتِ الحديقة، فوجد أن الانفجار الذي وقع سبَّب تلفياتٍ كثيرةً في المكان … وقد لاحظ أن الماء بدأ يتدفق من شروخ صنعها هذا الانفجار.
انطلق «خالد» يتفَقد أحد الممرَّات إلى نهايته، فلم يتمكن من العودة فيه؛ فقد غمَرَته المياه عن آخره … فانحرف إلى ممرٍ جانبي، وانطلق يسبق الماء الذي تدفق بغزارة من شروخ أخرى في هذا الطريق … فلم يتمكن من الفرار منه … فقد لحق به الماء … فانحرف مرةً أخرى، ولكن هذه المرة إلى نفقٍ يقع أسفل غُرف الإمدادات … وأطلق لدرَّاجته النارية العِنان … فعبور هذا النفَق قبل أن يغمره الماء، هو عبورٌ من الموت إلى الحياة.
وكان الماء أسرع من الدراجة … فقد لحق به … وتَدَفق وتَدَفق … وهو يضغط، بكل ما أوتي من قوة، على بدال السرعة … والدراجة النارية، ذات العَجلات الأربع، تدخُل النفق كالطلقة … غير أنَّها تتعثَّر في الخروج … نعم، السَّير على الماء غير السَّير على الأسفلت … فالعَجلات الضخمةٌ تُعاني وتتأخر … والماء يتدفق … غير أنه يتمكن أخيرًا من الخروج من النفَق، في الوقت الذي تدفق فيه الماء من الاتجاه المقابل، وكاد يعود به إلى قلب النفَق ليغرقه … وانطلق يعبُر الممرَّ الواصل إلى محطات الطاقة … فرأى عن بُعد فالقًا كبيرًا يقطع المَمَر … فأبطأ من سرعته، حتى اقترب من حافته … فترجَّل، وسار بحذَر إلى أن وصل إلى الحافة، وأطلَّ منها … فرأى عُمقًا ليس له نهاية … فأدار ظهره، وقبل أن يغادر موقعه، امتدَّت من هذا الفالق يدٌ أمسكَت برقبته … أخذَت «خالد» المفاجأة، وقفَز إلى الماء، غير أنَّه لم يرتفع أكثر من عدة بوصات … وعاد إلى الأرض مرةً أخرى، واليد ما زالت ممسكةً برقبته … والحَيْرة تمسك بأفكاره، فلا يتمكن من التخلص من أيٍّ منهما.
فأيُّ يدٍ تلك التي تخرج من هذا العمق السحيق … ولأي كائن تكون … يدٌ كهذه تدُل على وجود كائنٍ عملاق … وهذا يعني أنَّ غزاة النيازك ليسوا من البشر … فإمَّا أنَّها كائناتٌ فضائية، أو كائناتٌ تحت أرضية، لم نَرَ لها مثيلًا، ولم نعرفها من قبل الآن.
بدأ الماء يتدفق، ولحُسن الحَظ، فقد كان هذا الفالق يبتلعه … وهو ينظر لما يجري، وينتظر الخلاص، غير أنَّ فكرةً واتَتْه، جعلَتْه يضع يده في أحد جيوبه، ويخرج قنبلة غازات … ويخلع صِمام أمانها … ثم يرمي بها في الفالق … ولم تمر إلا دقائق، عندما سمع خُوارًا يتردَّد في عمق الفالق … ثم تسترخي اليد، وتترك رقبته … فتدبُّ في أوصاله الحياة … ويجري ليركب دراجته، ويديرها، ثم ينطلق عائدًا، وفي رأسه هذه المرة البحث عن «أحمد».
البحث عن «أحمد» الآن هو المهم … فقد خرجوا في مهمةٍ استكشافيةٍ لتحديد هوية الكائناتِ التي تملأ المَقَر … وهو قد وصل إلى أحدها، وعليه أن يُخبر «أحمد» … وكانت الوسيلة الأسرع في الاتصال هي ساعته … فقام بطلب «أحمد» … فأطلقَت الساعة أصواتًا غريبة، لم تصدُر منها من قبلُ … وعندما حاول مرةً أخرى … انطفأَت تمامًا، فأعاد تشغيلها … وحاول مرةً أخرى الاتصال بالمَقَر … فسمع الأصوات السابقة تصدُر منها، ثم مرةً أخرى، تنطفئ وتتوقف تمامًا عن العمل.
ولم يعُد أمامه إلا البحث عن زملائه، أو العودة إلى مبنى المَقَر … ولكن أين هو مبنى المَقَر؟ لقد اختفى كلُّ شيء، وتغيَّر المكان تمامًا، ولم يعُد هو المكان الذي يقع به مقرُّهم … فأين هو الآن؟ هل ابتعد عن المَقَر وخرج عن نطاقه ووصل إلى منطقةٍ أخرى؟
وهل ما يراه في الصحراء الغربية؟
إنَّه يرى حدائق وقصورًا وجداول ماء … لا … إنَّه يرى الآن جبالًا من الجليد الأبيض الناصع البياض … إنَّه يعكس ضوء الشمس على عينَيه، ما هذا … ما هذا؟ هل أنا مُرهَق، أم أنا محموم … هل ما أراه حقيقةٌ أم أنَّها تخيلات؟ هكذا أخذ «خالد» يسأل نفسه، قائلًا: كيف يكون حقيقةً وأنا أعرف أني في الصحراء الغربية … وأني خرجتُ منذ نحو الساعة في مهمةٍ رسمية … وأني لم أخرج من سياج المَقَر؟
ولكن، كيف أكذِّب عيني فيما ترى وأنا متأكدٌ من أني لستُ نائمًا؟
– إذن، ما أراه هو الحقيقة … وما أظنه هو الوهم … فلستُ في المَقَر … ولم أخرج في مهمة … ولكن … هذه الدراجة …
نظر «خالد» إلى الدراجة مليًّا … فلم يجد بها من العلامات ما يدُل على أنَّها تخُص المَقَر، فعاد يقول: إذن، فهي تخص هذا المكان … إنَّها للسير على الجليد.
صدَّق «خالد» ما يراه، ولم يعُد يعرف ماذا يفعل، وأين يذهب، وكيف جاء إلى هذا المكان، حتى الفيالق التي رآها تشُق الطرق … لم يعُد لها وجود، وهذا الشَّق العميق الذي خرجَت منه اليد العملاقة … ليس له وجود، والنفَق الغارق في الماء، وغيره … وغيره.
لم يعُد أمامه غير السَّير والسَّير، إلى أن يعرف الحقيقة من الوهم. وفجأة، وجد أمامه وحشًا ضخمًا، له رأس ديناصور … وأكثر من عشر أذرع، يمدُّها كلَّها ليمسك به … إنه في حجمِ ناطحةِ سَحَاب، فكيف سيهرُب منه؟ وواتَتْه فكرةٌ جريئة تحتاج لقلبٍ من فولاذ … فغادر دراجته، ونهض واقفًا يواجه هذا الوحش … وقف وليس في قلبه ذرةٌ من خوف … فقد التفَّ الحيوان على نفسه، وتصاغَر وتصاغَر، حتى صار في حجم القطة … ثم اختفى، فعرف أنَّه الوهم.
نعم، فالوهم يخلق كائناتٍ خرافية، أضخمَ مما نتخيل … ولا تحتاج مواجهتها إلا إلى الشجاعة واحترام العقل.
لحظتها فقط، عرف «خالد» اللعبة … وصدَّق أنَّه لا يزال في حديقةِ المَقَر … وأنَّ ما يراه وهم … وسببه تكنولوجيا متقدمة للغاية … وعلمٌ مستقبلي، وصل إليه أناسٌ عباقرة.
إنَّ ما تحدث عنه د. «مستنير» في الاجتماع هو سبب ما يجري الآن … لقد تحدث عن فيض الموجات الكهرومغناطيسية الذي أغرق المنطقة … وهو يعرف أنَّ لهذه الموجات تأثيرًا على الوعي وعلى الإدراك.
وتساءل «خالد» بينه وبين نفسه عما يتعرض له الآن «أحمد» و«بو عمير» … وكذلك «عثمان» و«رشيد». وقرَّر أن يُعيد تجربة الاتصال بهم … ولكنَّه تراجع؛ لأنَّه يعرف أنَّ المدَّ الكهرومغناطيسيَّ الذي يُغرق المنطقة الآن … لن يسمح لأيَّة موجةٍ صوتيةٍ بالسير في مسارها المعتاد.
فقام بخلع ساعته من يده، ولشدة دهشته … فقد اختفى كل ما كان يراه … اختفت جبال الجليد، واختفت القصور والجداول … ولم يعُد يرى إلا ممراتِ حديقة المَقَر والمبنى على مرمى بصره … وكل شيءٍ على حاله … فغادر الدرَّاجة، وجلس على نجيلةِ الحديقة … ثم تمددَ على ظهره … ونظر إلى السماء، وانطلق يضحك، وهو غير مصدقٍ كل ما يجري.
رائعٌ هو العلم … ومدهشةٌ إنجازاته … لقد تخطى حدود العقل … إلى آفاق تخيلاته، وتمكَّن من تجسيدها … حقًّا إنَّه العلم.
وفجأةً، أظلمَت الدنيا تمامًا … ولم يعُد يرى شيئًا.
فماذا جرى؟!