مهامُّ خطيرة!
حين خرج «أحمد» و«بو عمير» من مبنى المَقَر … كان لهما هدفٌ محددٌ وهو اصطياد أحد الكائنات التي يعجُّ بها المَقَر.
وهي مهمةٌ أكثرُ من خطيرةٍ … غير أنَّها حيويةٌ للغاية … فالقبض على أحد هذه الكائنات، سيتم بالتعرف عليها، وتحديد الوسيلة المثلى للتعامل معها … إمَّا بالتفاوضِ أو بالمواجهة.
لذلك، كَمنَا بين الأشجار دون حركةٍ لفترةٍ ليست بالقصيرة … وحين بدا لهما بصيصُ ضوءٍ أخضر يتحرَّك حركةً غير منتظمة … سارا خلفه … إلى أن وصل إلى منحدرٍ صخريٍّ صنَعه الانفجار الأخير … فطلب «أحمد» من «بو عمير» الانتظار على حافته … وانزلق هو خلف هذا الضوء الأخضر، الذي يبدو وكأنَّه مصباحُ كشافٍ صغير، يسير مُعلَّقًا في الهواء.
وحين توغَّل في المنحدر … اشتدَّت حلكةُ الظلام، ولم يعُد يرى أصابع يده … وتعجَّبَ كيف لهذه الكائنات أن تتحركَ بهذه السلاسةِ التي يراها في حركة الضوءِ الأخضرِ الذي يدُل عليهم … وفجأة … وجد نفسه يقع في فخ عنكبوتي لزج … نعم … إنَّها شبكةٌ من غزلِ عنكبوتٍ ضخم … وإلا فماذا تكون غير ذلك؟ … هكذا كان يُحادث نفسه … وهو لم يرَ هذه الشبكةَ، ولكنَّه تحسَّسها وتفقَّدها، في محاولةٍ للتخلصِ منها … ولأنَّه صديقٌ مُخلصٌ للخيال … لا يتخلى عنه قَط … فقد تخيَّل أنَّ هذه الشبكةَ هي لعنكبوتٍ إلكتروني … وأنَّها … أي هذه الشبكة، من الممكنِ أن تكون طريقه إلى حلِّ الكثيرِ من ألغازِ هذه الأحداثِ الأخيرة؛ لذلك، أخذ يتفقَّدها، وفي رأسه كلُّ هذا … آملًا أن يصل إلى عقدةٍ ما أو طرفِ خيطٍ أو خليةٍ كهروضوئيةٍ دقيقةٍ أو خليةٍ عصبيةٍ صناعية … وظلَّت يدُه تنزلق على الشبكةِ جيئةً وذهابًا وصعودًا وهبوطًا، حتى وصل إلى مكان يبغيه … إنَّها عقدةٌ عصبية … ما إن ضغط عليها … حتى التفَّت على جسده خيوطُ الشبكة، وشَعرَ بأحدها يتَسَلل إلى صدره، وآخر إلى رأسه، وثالث إلى جبهته، ورابع إلى عُنقه … ما هذا؟ … أهي شبكةٌ عنكبوتية أم أخطبوط؟ هكذا حادَث نفسه … ولكنَّه ترك لعقله العِنان ليُفسِّر ما يجري له.
لقد وقع بين براثن أخطر شبكة عرفها على الإطلاق … إنَّها تدرُسه دراسةً مستفيضة … تقرأ نبض قلبه ونشاط الإشارات في مخه … ومن يعرف؟ … فقد تقرأ أفكاره … فليس من المستبعَدِ على أصحابِ هذه التكنولوجيا أن يصلوا إلى قراءة الأفكار إلكترونيًّا … وماذا أيضًا؟ … لا أحد يعرف حتى الآن ماذا يدور، ولكن طال احتضانُ الشبكةِ العنكبوتيةِ ﻟ «أحمد» … وطال انتظار «بو عمير» له … ولم يقوَ على الانتظار أكثر من ذلك، فقرَّر الانزلاقَ في المنحدَرِ الذي اختفى فيه «أحمد»، ليعرف أين هو، وماذا جرى له.
وهذه المرة لم يتمكن؛ فالمنحدَر كان مسدودًا أو مغلقًا … اندهش «بو عمير» لما رأى … فقد رأى «أحمد» بعينَيه ينزلقُ في هذا المنحدرِ … فأين هو إذن؟ وأين «خالد» و«عثمان» و«رشيد»؟
وأين أنا؟ نعم، سأل «بو عمير» نفسه هذا السؤال … فقد نظر إلى نفسه، فلم يَرَ شيئًا … إنَّه يرى كل ما حوله؛ أي إنَّه في وعيه … ونظره في أحسن حالاته … إذن، لماذا لا يرى نفسه؟
هل ضاع هو الآخر … هل اختُطِفَ؟ ولكن أسيضيع من نفسه، ويُختطَف من نفسه … إذن، أين هو؟
إنَّه يرفع يده إلى عينَيه فلا يراها، رغم أنَّه يشعر بها، ويمسك بها وجهه وشفتَيه ويده الأخرى. إذن، أين هي؟
وأخيرًا، فهم «عثمان» … فهناك من يحمل نيزكًا جاذبًا للضوء يقف بجواره … إذن، هو ليس وحده … وهو معرَّضٌ الآن للاختطاف … وعليه أن يجري بأقصى ما لديه من قوة.
وما إن فعل هذا … حتى ظهَرَت له قدمه، وكأنَّها تخرج من آلة الزمن … ثم بدأ يرى بقيةَ جسده … ولم يتوقف عن الجري، حتى بلغ بوابة جراج المَقَر … فوضع يده على شاشةِ الكاشفِ … فانفتح له بابُ الجراج … فانطلق يعدو حتى دلفَ من البابِ الداخلي إلى غرفة الاجتماعات … ومنها انتقل إلى غرفةِ المراقبةِ الإلكترونية … فوجد «قيس» يجلس خلف شاشة كمبيوتر، فقال له: مساء الخير يا «قيس».
نظر له «قيس»، وقال مندهشًا: تقصد صباح الخير يا «بو عمير».
بو عمير: هل ما زال الوقت صباحًا؟
نظر له «قيس» في حَيْرة، وقال: إنَّها لم تتَعَد بعدُ العاشرة.
بو عمير: لقد كِدتُ ألا أرى نفسي من شدة الظلام في الخارج.
نظر له «قيس» مليًّا، ثم قال له: كيف … هل الليل في الخارج فقط؟
نظر له «بو عمير» في حيرةٍ، وقال: أقسِم لك أني لم أرَ نفسي منذ دقائقَ إلا عندما جرَيْت.
قيس: هذه قضيةٌ أخرى … فقد تعرَّضتَ لجوار أحد النيازك … أليس كذلك؟
بو عمير: أعتقد ذلك.
قيس: ليس لها تفسيرٌ آخر … وهل يمكنك تحديد المكان الذي كنت تقف به؟
بو عمير: طبعًا … ﻓ «أحمد» قد اختُطِف في هذا المكان، ولا يمكنني أن أنساه.
قيس: اختُطِف كيف؟
بو عمير: انزلق من منحدَر هناك ولم يرجع … وعندما ذهبتُ لاستطلاع الأمر لم أجد هذا المنحدَر.
قيس: إذن علينا عقد اجتماع فورًا مع الموجودين في المَقَر.
بو عمير: ألا يُمكنك إبلاغ «باسم»؟
قيس: سأستدعيه حالًا.
وخلال ثوانٍ معدودة، كان «باسم» يجلس بينهما، يسمع لما جرى. وأخيرًا قال: ومن قال لك إنَّ «أحمد» في خطر؟
إنَّه حتى الآن في مهمةٍ يحاول إتمامها، وعلينا أن نعطيه الفرصة والوقت الكافي … أليس كذلك؟
بو عمير: واختفاء المنحدَر الذي انزلق فيه؟!
باسم: هل اتصل ليستغيث بأحد؟
بو عمير: لا.
قيس: إذن، عُد إلى هناك مرةً أخرى، وحاول الاتصال به.
كان «أحمد» في هذه الأثناء يُحاول التخلصَ من ساعته؛ لأنَّها لم تتوقف عن الوخز، مما أثار أعصابه، وسبَّب له ألمًا شديدًا … وعرف أنَّ هذا الوخز ليس تلبية لطلب أحد الشياطين … بل لأنَّ شبكة العنكبوت التي تحتضنه الآن … تُرسِل العديد من الموجاتِ الكهرومغناطيسيةِ في قراءةٍ مستمرة لأحوال ونشاط جسده … فتثير هذه الموجات خلال الساعةِ الإلكترونية، فتُولد هذه الوخزات. وبالفعل، تمكَّن من خلعه للساعة … ووجد نفسه حرًّا طليقًا … وبدلًا من العودة إلى حيث أتى، قرر التمادي والسير في هذا المُنحنَى الذي يواجهه، ليستكشف الخفي من حياةِ هذه الكائنات وصفاتها.
غير أنَّ هذا المُنحنَى لم يحمله إلا إلى النقطةِ التي بدأ منها، بجوار باب جراج المَقَر، حيث يقف «بو عمير»، الذي لم يتمالك نفسه من الضحك، عندما رأى «أحمد»، وقال له: إنَّها أقصر عمليةٍ تقوم بها.
أحمد: رغم أني لم أبذل جهدًا كبيرًا في هذه العملية … إلا أنني اكتشفتُ سرًّا خطيرًا، سيكون مدخلنا لإنهاءِ هذه المغامرة لصالحنا.
بو عمير: وهل يمكنني الاطلاع على هذا السِّر؟
أحمد: ستكون معلومةً بلا جدوى … إن عرفتها مجرَّدة.
بو عمير: إذن، سأنتظر اجتماع المساء.
نظر «أحمد» إلى ذراع «بو عمير»، فوجده لا يزال يرتدي ساعته، فقال له: لماذا لا تتصل ﺑ «خالد» وكذلك ﺑ «عثمان» و«رشيد»؟
اندهَش «بو عمير» من مطلبه هذا … فقد اعتاد «أحمد» أن يُجري هذه الاتصالات بنفسه … ثم قام بالاتصال ﺑ «خالد»، الذي أجابه في حماسٍ، قائلًا: أين أنتم يا «بو عمير»؟
بو عمير: هنا، عند بوابة جراج المَقَر، ومعي «أحمد».
خالد: وهل قمت بالاتصال ﺑ «عثمان»؟
بو عمير: سيحدث الآن.
كان «عثمان» قد اصطحب «رشيد» إلى البحيرة التي حملَتْهم إلى داخل المَمَر … إنَّه يريد الغوصَ فيها واستكشافها … ليس هي فقط … بل كل عيون الماء، التي انبثقَت أخيرًا في المنطقة …
وفي هذه البحيرة، فقد رأى سمكةً في حجم سمكة القرش الكبيرة … ولها ألوانٌ خرافية، ما بين الأزرقِ والأحمر، مرورًا بالأصفر والموف والأخضر، والكثيرِ من الألوانِ الصدفيةِ القزحية.
ولشدة إعجابه بها … فقد اقترب منها، فلم تُبدِ أيَّة علامات جزع أو قلق … بل دارت حوله في ودٍّ واطمئنان … فربَّت عليها، ويا ليته ما فعل؛ فقد ارتجَّ بشدةٍ في الماء … في الوقت الذي تداخلَت فيه الألوان على جسم السمكة، وتحوَّلَت إلى اللون الأحمر الناري … وتحوَّل الماء إلى كتلةٍ من اللهب … و«عثمان» يتقافز فوق الماء، محاولًا الإسراع بالخروج … غير أنَّ شللًا أصاب عضلاته بسبب ما تعرض له … فلم يتمكن من اتخاذ اتجاهه الصحيح للخروج … ولم يعُد أمامه إلا الغوص تحت سطح الماء، لعله يجد فيه نجاتَه. وقد حدث، وأدى ذلك لاكتشاف نفَق، عبَره «عثمان» في سرعة، فوصل به إلى بحيرةٍ أخرى … وحين طفا على سطحها، وجد نفسه داخل أسوار حديقة المَقَر … غير أنَّه عندما حاول الخروج من هذه البحيرة … لم يتمكن؛ فالماء كان يغور من تحت قدميه … فلا يتمكن من الوصولِ إلى الشاطئ، وهكذا أكثر من مرة. وعندما حاول الرجوع عَبْر النفَق إلى البحيرة الأولى، شعر بوخزاتٍ من ساعته متتاليةٍ بلا توقف، مما أثار أعصابه وأشعره بألمٍ شديدٍ في رسغه، فخلعها … ويا للدهشة! … لقد استقرَّ الماء عند حافة البحيرة … وتمكَّن «عثمان» من الخروج منه بسهولة، حاملًا سرًّا يساوي — أو يكافئ — إنهاء المهمة المُكلَّفين بها بنجاح.
وفي مساء ذلك اليوم، عُقِد اجتماعٌ في قاعة الاجتماعات الكبرى … ضمَّ الثلاثة عشر شيطانًا … وكان عنوان هذا الاجتماع هو: الاتفاق على خطة النهاية.
بدأ الاجتماع بحديث «أحمد» عن مدى التطور التقني والتقدم العلمي، الذي وصل إليه غزاة النيازك … وقد لمس ذلك بنفسه … وبدأ يحكي لهم، قائلًا: إنَّ لديهم شبكةً عنكبوتيةً عبقرية … إمَّا مَن غَزَلها هو عنكبوتٌ ذكي للغاية … أو برنامجٌ عنكبوتي إلكتروني ماهر، شارك في صناعته أكثر من أكاديميةٍ معلوماتيةٍ متطورة.
وهنا، شعر بوخزٍ في رسغه، من ساعة يده … ولم يكن أحدٌ من الشياطين متغيبًا عن الاجتماع … فعرف أنَّه رقم «صفر»، فأسرع بتلقي الاتصال، قائلًا: نحتاج إليك يا زعيم.
رقم «صفر»: وأنا هنا يا «أحمد».
وفي غير تصديق، قال «أحمد»: هنا أين؟ في المَقَر؟
رقم «صفر»: لا، أنا في غرفتي بقاعة الاجتماعات التي تجتمعون بها الآن.
نظر «أحمد» إلى زملائه، وقال لهم: رقم «صفر» يحضُر معنا الاجتماع.
سرت همهمةٌ بين الشياطين، سمعها رقم «صفر»، فقال ﻟ «أحمد»: وأنا أكثر منكم سعادةً بوجودي بينكم … وأرجو إضاءة الشاشة الكبيرة.
قام «أحمد» بإضاءةِ الشاشة … فبدت عليها صورةُ رقم «صفر»، ولكنَّها مقسَّمة — كالعادة — إلى مربعاتٍ كثيرةٍ صغيرة، تتبادل مواقعَها تباعًا … فلا تُعطي فرصةً لأيِّ ذاكرة لأن تحفظ صورةً ذات ملامحَ ثابتةٍ له … وانطلق صوتُه يتردد بين جنبات القاعة، قائلًا: مساء الخير عليكم.
لقد وصلَتني أخبار الثلاث عمليات الناجحة التي قمتم بها اليوم … وسرَّني جدًّا القرار الخطير الذي اتخذتموه.