حوار بين التقليد والتجديد
«اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيمًا.»
الحوار مع الآخر يعني في نظرنا حوارًا مع آخر مغاير قوميًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا .. إلخ، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك دائمًا؛ إذ قد يكون الآخر هو الذات نفسها، تاريخًا وثقافة وأداءً .. ذلك أن الذات المجتمعية عملية لها وجودها التاريخي متعدد المراحل، في تفاعل حيوي مع الواقع والسياق المحلي والإقليمي والعالمي، تفاعل بين ثقافات واقتصاد وعلاقات، بل وقوى قسر وهيمنة. إنها الذات كامتداد تاريخي فاعل أو كما نسميه امتدادًا أو فعلًا حضاريًّا وليست هي كامتداد معرفي ثقافي، ذلك لأن الثقافة والمعرفة كلتيهما منتج العقل الحضاري المتطور زمانًا ومكانًا. ومن هنا يمكن وصف الذات المجتمعية بأنها موقف وخطاب أو محصلة موقف.
لذلك فإن الذات المجتمعية في وضعها الأمثل فاعلة مؤثرة ومتفاعلة؛ ومن ثَم متغيرة في تطور تكاملي. ويجري الحوار دائمًا كنوع من المونولوج بين واقع راهن له مقتضياته من حيث الفعل الإبداعي والمُنتج المعرفي والثقافي وبين الذات المجتمعية في حاضرها وموروثها، بين ضرورات الانطلاق من قيود ومحددات حضارة الماضي إلى قيود ومحددات حضارة جديدة. إنه حوار بين السابق والراهن وصولًا إلى مستقبل لاحق رهن الوعي والإدراك والإنجاز الإبداعي. إنه فعل التكيُّف والمواكبة حفاظًا على البقاء وتأكيدًا لدينامية الوجود، وخوفًا من الجمود والركود الذي يعني العيش بغير زمن أو تاريخ؛ حيث الزمن والتاريخ هما الفعالية المجتمعية الإبداعية.
هنا تواجه الذات نفسَها وتدخل في توتر بين السكون والتغيير، بين إيثار الحاضر المألوف أو تأكيد قوة الدفع للتجديد في مواكبة وتحدٍّ ومنافسة مع ماضيها وواقعها ومع سياقها الإقليمي والعالمي، وهو سياق متغير أبدًا ويفرض تحديات جديدة باطِّراد.
ويتلخص هذا المشهد في عبارة التفاعل الثقافي المتوتر على أصعدة متباينة ومحتويات متنوعة، حوار بين ثقافة الماضي التي ترسخت مرحليًّا ولفترة من الزمن ونسميها التقليد، وثقافة جديدة هي وليدة فعل مجتمعي ابتكاري جديد، ووعي بتحديات السياق الإقليمي والعالمي. وأن ما نشير إليه باعتباره حوارًا مع الذات ماضيها وحاضرها ورؤيتها للمستقبل هو ما نعنيه بالحوار بين التقليد والتجديد، وهو حوار مطَّرد ومتصل أبدًا مع اطراد فعالية المجتمع، ولا ينقطع ويتوقف إلا حين يُصاب المجتمع بداء الركود ومن ثم التخلف. ويعني الحوار بين التقليد والتجديد أيضًا مراجعة الذات لنفسها، لحصادها ومتاعها الموروث ومدى ملاءمته ليكون قوة دفع على طريق التغيير والتكيُّف الحضاري والبناء في ضوء فهم عقلاني نقدي للذات. إذن الموروث من حيث هو وعاء ثقافي يُشبه المياه الجوفية المتجددة أبدًا بفضل الفعل الإبداعي المتجدد أبدًا، وليس ينبوعًا محدودًا جف عطاؤه مع جمود أصحابه.
لذلك فإن الحوار بين التقليد والتجديد ليس قاصرًا على مرحلة تاريخية بعينها ولا ثقافة تقليدية بذاتها، وإنما هو مبدأ مطرد. وليس غريبًا أن تنبه الفقهاء والحكماء من السلف في عصور النهضة والتغيير الإبداعي إلى هذه الحقيقة وعمدوا إلى تأكيدها وإن نسيها الخَلَف في عصور الرِّدة والتخلُّف. مثال ذلك أن قال الفقهاء قديمًا: «النص متناهٍ، وقضايا الحياة نهر دافق غير متناهٍ»، وهو ما يعني توترًا مطردًا بين حَرْفية النص ودينامية الحياة. وتتمثل حكمة هذا القول في استحالة حصر الحياة وقضاياها داخل إطار نص نظنه قابلًا للصدق في كل زمان ومكان. وبديهي أن حصر قضايا الحياة في نص مضى زمانه، أو نص غريب عن مكانه، ينطوي على تناقض مع طبيعة الحياة، ويمثل محاولة عقيمة لفرض الجمود على الحركة. وطبيعي أن الجمود أو الالتزام بحَرْفية الموروث وأبديته في سياق التفاعل داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات إنما يعني شللًا محليًّا .. شلل في الفكر وشلل لفعالية الإنسان/المجتمع؛ وبالتالي العجز الكامل عن التكيف وعن مواكبة التغيير؛ مما يفضي بالمجتمع إلى تسليم أو لنقُل الاستسلام للآخر القادر على التطوير المطرد.
ولعل من المفيد أن أوضح قبل الاستطراد أن فكرة العودة إلى الموروث الأصيل لها ما يبررها أثناء الاستعمار ومعركة الاستقلال؛ إذ إن الغازي عادة يسعى إلى تجريد المجتمع من ثقافته/هويته؛ لذا فإن دعامة المقاومة كردة فعل هي الحفاظ على الأصل والتشبث به وتأكيد الذات المستقلة .. إنه الأنا القومي الوطني الثقافي .. وثقافة الاستعمار هي الآخر العدو. ولكن ثقافة الاستعمار تحمل ضمنًا دلالة مكانة وامتياز؛ لأنها ثقافة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يفتقر إليه البلد الثائر. وهنا نجد الموقف من ثقافة الاستعمار موقفًا ينطوي على نقيضين: رفض وقبول؛ ولهذا يُخطئ البلد الذي يقف عند غايةٍ قوامها الرفض فقط والعودة إلى الأصل، وإنما يتكامل مع الرفض موقف هو حشد القوى المعنوية والمادية للمجتمع من أجل التطوير والنهضة والتقدم واستيعاب روح العصر، وهي اليوم العلم والتكنولوجيا.
لذلك نقول: اتصف عصر الاستعمار وما بعد الاستعمار بأنه عصر المواجهات الثقافية بين الموروث والوافد، وعصر المراجعة النقدية المنهجية للموروث والمستحدث محليًّا وعالميًّا في ضوء مقتضيات التطوير. وتباينت مواقف الشعوب في تعاملها مع الجانبين. تولدت لدى بعض البلدان روح المراجعة النقدية قبولًا ورفضًا إزاء الوافد والموروث لتأكيد الذات في سعيها لإعادة بناء نفسها وتعبئة قواها لمواجهة تحديات النهضة والتقدم، ورأى هذا الفريق أن الهوية عملية أو فعل تاريخي يكتمل مرحليًّا بفضل الفعالية. وتولدت لدى البعض الآخر روح الانطواء والانكفاء أو لنقُل الانتصار للموروث عبر الهرب من المواجهة .. والانتصار للماضي عبر الهرب من المستقبل أو على حساب المستقبل. ونلحظ أن هذه الشعوب أكدت ذاتها بالابتعاد عن فعل التحدي القائم على النهضة والتطوير وتوطين روح وأسس وقواعد وإمكانات العلم والتكنولوجيا وإن قنعت بالتحدي كلامًا ومفاخرة انطلاقًا وتأسيسًا على إنجازات ومفاخر الماضي. ورأى هذا الفريق أن الهوية جوهر كامل، اكتمل في مرحلةٍ ما هي مرحلة أيديولوجية تعود إلى الماضي. وينطوي هذا المذهب على نفي للفعالية، فعالية الإنسان المطَّردة والمتصلة في تطور ارتقائي على مدى مراحل التاريخ، وينطوي على نفي لمؤثرات السياق الاجتماعي أو البيئة المحلية أو العالمية.
ويزداد توتر الجدل بين الموروث والمستحدث حدَّة وخطرًا حين يحمل الموروث — اعْتِسَافًا — صفةَ المقدَّس لفرض الالتزام القسري بالنص وتعميم تأويلاته في شئون وقضايا الحياة المتغيرة بطبيعتها. ويسود وهم المطابقة أو الخلط بين ما هو من شئون الدين (العبادات) وما هو من شئون الفعل الحياتي المنوط بالعقل العلماني؛ أي التفكير عقلًا في شئون الدنيا.
ولقد عاشت شعوب في ثقافة لها قوة دمج طاغية ومتماهية مع الدلالة الدينية والقيم الأخلاقية باسم التراث الديني الذي يتسع خطأً ليشمل السياسي والاقتصادي .. إلخ، ويمثل محتوى الوعي الاجتماعي أو أيديولوجيا معنى الحياة. وهذا هو حال الشعوب التي تعثرت خطاها على طريق النهضة وإن علا صوتها باسم المقدَّس، فظلموا المقدَّس وظلموا أنفسهم وعاشوا خارج الزمان، بل وبغير مكان؛ إذ أصبحت بلادهم قسمةً بين أصحاب القوة والنفوذ.
نجد هذا واضحًا جليًّا في تجارب الشعوب شرقًا وغربًا، حاضرًا وماضيًا .. هكذا كانت أوروبا على مدى مرحلة امتدت بضع قرون.
وجدير بالذكر أن الصراع بين التقليد والتجديد امتد طويلًا باسم المقدَّس في أوروبا قبل النهضة وما بعدها. ومن ذلك مثلًا الصراع حول استثمار المال بالوكالة؛ أي حق إيداع مال بفائدة الاستثمار لصالح صاحبه، وهي الفائدة التي اصطلح فقهاء المسيحية على أنها رِبا وأن الربا حرام. وهذه قضية تشبه تمامًا الصراع السجالي داخل المجتمعات الإسلامية على مدى أكثر من قرنين دون حسم. أصر كبار رجال الكنيسة في تحالف مع رجال الإقطاع وملاك الأراضي في أوروبا على تحريم استثمار المال بالوكالة مقابل فائدة باعتبارها رِبا. وحدث هذا وقت ذروة النشاط التجاري بين آسيا وأوروبا عبر المنطقة الإسلامية. ونشط اليهود وأصبحوا هم ملوك الصيارفة واستثمروا التحريم المسيحي واستحوذوا على الأموال والتمويل. وأحس نشطاء المسيحيين بالخطر، وأن موقف الحَرْفيين الجامدين من فقهاء الكنيسة ورجال الإقطاع إنما يستهدف مصالحهم هم المالية ويُعِيق أوروبا عن التقدم على طريق النهضة البازغة. وانبثق عن الصراع ورواد العلمانية رجال دين تطهيريون هم قادة المذهب البروتستانتي، وتقدموا بتأويل جديد يُجيز استثمار المال بالوكالة وقرنوا ذلك بتفسيرات جديدة عن علاقة المال بالعمل والزمن مما يبيح لصاحب المال حق الاستثمار بفائدة. ومن عجبٍ أنهم اعتمدوا هنا على تفسير إسلامي سبق أن قدمه ابن رشد في الأندلس في فصل «القِراض» من كتابه «بداية المجتهد»؛ بما يعني أن العلمانية التي قرنها بعض الإسلامويين خطأً بالكفر إنما عادت على أيدي رجال دين تطهريين متشددين وأن مرجعيتها إسلامية.
وشهدت اليابان كما شهدت الصين من بعدها صراعًا وسجالًا نظريًّا، كاد أن يصل إلى حد الاقتتال بين التقليد والتجديد. وحفز إليه في كل مرة، مثلما حدث في أوروبا، توفر مقتضيات تطوير المجتمع على طريق الرأسمالية الصناعية. وصل الصراع إلى حد تكفير من يخالف النص في أبسط شئون الحياة الدنيا؛ كأن يتناول طعامه بغير العصى التقليدية.
وظهر من قال: «لقد جفَّت ينابيع التقليد.» وقال المصلح الاجتماعي «طاي تشن» في القرن ١٨ في الصين مثلًا: «كتب التقليد لا طائل منها ما لم تعالج أمراض المجتمع.» وراج تساؤل: «أيهما أحب إليك، كونفوشيوس أم الحقيقة؟» واصطلحوا أخيرًا على إجابة مشتركة: «كان كونفوشيوس محبًّا للحقيقة ساعيًا إليها؛ ومن ثَم حيث الحقيقة يكون كونفوشيوس.» وأعادوا إلى الحياة مقولة كونفوشيوس: «اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيمًا.» وأخذت اليابان — كما أخذت الصين — سبيلها إلى النهوض في إطار تجديدٍ للفكر التقليدي، وظهرت تأويلات جديدة مناسبة للعصر ودافعة لحركة التقدم.
وطبيعي أننا لسنا استثناء من القاعدة، فإن الحوار بين التقليد والتجديد مستمر أبدًا يجري عنيفًا صاخبًا حينًا خاصة في فترات عقد العزم على النهوض؛ ونراه يصمت أحيانًا أو تُخرسه قوى التقليد بحكم سطوة تحالف السياسة والموروث معًا وغياب العقل النقدي قرين قوة الدفع الاجتماعي للنهوض. وتُدافع قوى التقليد عن مكانها ومكانتها بإدانة محاولات النهوض محتميةً زيفًا بعباءة النص والإجماع والتزام الأصولية ورفض الآخر .. تعلن قدسية النص ووجوب الالتزام بما اصطلح على تسميته إجماع الفقهاء.
وينبري بين الحين والآخر من يتحدث باسم الإسلام كأن يقول: أنت تسأل والإسلام يُجيب. ونسي هؤلاء أو تناسوا: أولًا، ليس من حق أحد أبدًا أن يقول: «أنا الإسلام»؛ ذلك أن الوحيد صاحب هذا الحق تاريخيًّا كان الرسول. ولتكن لهؤلاء أسوة في «علي بن أبي طالب» الذي قال: «القرآن حمَّالُ أوجه.» لذلك أحرى بهم أن يقول كل منهم «أفهم الإسلام هكذا».
والفهم له قواعده وقوانينه وحدوده وملابساته .. وحيث المصلحة مصلحة المجتمع، فثمَّ شرع الله .. والمصالح متباينة ومتطورة. ثانيًا، حُجة الإجماع صحيحة في زمانها ومكانها. إن الإجماع إجماع بشرٍ هم فقهاء عصرهم، لهم قضاياهم ومشكلاتهم، اجتهدوا لها سواء أصابوا أم أخطئوا. وليس صحيحًا أبدًا أن ينسحب إجماع زمان ما أو مكان ما ليفرض صدقه زيفًا على كل زمان ومكان؛ فهذا نقيض منطق الحياة. وأحرى بنا أن نقول: «نحن فقهاء عصرنا». إن الاحتماء بالمقدَّس دفاعًا عن مصالح أنانية لطائفة أو شريحة دون المجتمع ظلمٌ للدين وللمجتمع. ومثل هؤلاء يتحملون وزر إعاقة حركة تطوير المجتمع وتعطيل قدرته على التحدي. وإن واقع حياتنا شاهد على ذلك.
الدين وحق المجتمع في التطوير
نحن نؤمن بأن الأديان نشأت لخير البشرية، بمعنى تنظيم المجتمعات في عصرها تأسيسًا على قيم تشكل قاعدة ثقافية للسلوك الإنساني على نحو يكفل تماسك النسيج الاجتماعي ويؤمِّن حركة المجتمع واطراد بقائه. ونؤمن كذلك بأن النص الديني، كما يقول الفقهاء، نص متناهٍ، وأن نص الحياة، أو لنقُل نهر أحداث ووقائع الحياة، غير متناه؛ فهناك الجديد والمتنوع والمتعدد دائمًا الذي يقتضي وجوبًا إعمال العقل العصري فيما يختص بشئون الدنيا دون إخلال بقيم إنسانية راسخة ومتعارف عليها بين جميع الأديان.
ويتجلى هذا الجديد المتنوع والمتعدد في العلاقات والتنظيمات الاجتماعية وفي المؤسسات ومحتوى وشروط ونطاق مصطلحات متطورة مثل العدالة والحكم والولاية والسلطة والمرجعية الحاكمة والإنسان ودوره، وطبيعة التنظيم الاقتصادي والسياسي والعلمي .. إلخ، وأن هذا الجديد كله يلتقي مع الأديان في الهدف تأسيسًا على القيم الإنسانية، وهي خير الناس وخير المجتمع؛ مما يكفل لهم — حسب منطق كل عصر — إمكانية الترقي والنهضة والانتصار على التحديات وبناء مجتمع عادل تنتفي فيه المظالم.
والنصُّ الدينيُّ لا يُصادر حق المجتمع في تطوير نفسه وإبداع إطاره الفكري، وانتخاب آلياته، واختيار الشكل الأمثل والأنسب لتنظيم العلاقات بين الناس وتحديد معنى الإنسان وهويته ودوره، وهي معانٍ وأدوار متغيرة متطورة دومًا.
حق المواطنة
قديمًا كانت العشيرة أو الأسرة الكبيرة أو القبيلة هي الأمة ووحدة البناء الاجتماعي، وكان بقاؤها يعتمد على التجانس والتلاحم على أساس رابطة الدم أو العرق أو العقيدة؛ ولهذا يصدعها ويفسد وجودها خروجُ الفرد على رأي الجماعة؛ ومن ثَم تعتبره فاسقًا مارقًا، وتنظر إلى التمايز والتنوع نظرة تجريم وتحريم. ومثل هذه البنية الصغيرة تتلاءم من حيث شكل السلطة الفردية والعلاقات الاجتماعية مع طبيعة الإنتاج في العصور القديمة. ولكن المجتمعات تطورت وتغيرت وانتقلت عبر مراحل من القبيلة إلى الأمة المدنية ثم إلى الأمة القومية، إلى الوطن الذي ضم جماعات متباينة ربما في العرق أو الدين أو الجنس .. إلخ. وأضحت بنية الأمة القومية؛ الدولة في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، وحدةً ضمن وجودٍ شبكي عالمي شديد التعقد والتداخل من حيث طبيعة النظم والمؤسسات والاعتمادية المتبادلة، واقتضى هذا إطارًا فكريًّا جديدًا تتعامل الإنسانية على هديه ويختلف جذريًّا عن جميع الأطر الفكرية التي سادت منذ نصف قرن ناهيك عن أطر فكرية مضت عليها قرون.
وأصبح الناس جميعًا سواء من حيث المواطنة القومية والعالمية، ومن حيث الدور والواجب والمسئولية. وتجد المساواةُ تعبيرها الواضح في مشاركة الجميع دون تفرقة على أساس من دين أو عرق أو جنس في الإسهام الحضاري في تنظيم المجتمع والانتماء إلى مؤسساته على اختلاف التراتيبات الهرمية في المجتمع، وأيضًا في تحمُّل مسئولية هذا التنظيم. والناس جميعًا، على قدم المساواة، شركاء في السعي العقلاني لتأكيد الذاتية الاجتماعية الواحدة والمتلاحمة في إطار التنافس على الصعيد القومي والإقليمي والعالمي، وفي إطار استثمار مصادر الطبيعة وبناء الثروة الاجتماعية والانتفاع بها.. وإن هذا واجب وحقٌّ مشترك للجميع كمواطنين دون تفرقة على أساس غير أساس صدق المواطنة وكفاءة الأداء. وحق/واجب المواطنة يعني أن الناس جميعًا على قدم المساواة في الاختيار الحر للسلطات دون تمييز أو تفرقة، وأنهم بحريتهم واختيارهم شركاء ورقباء؛ فاختيارهم ليس بيعة وإنما عهد ومسئولية ورقابة ومحاسبة.
ولكن نسمع مَن يتحدث عن الدين الإسلامي والمساواة بين المصريين أو أبناء المجتمع مسلمين ومسيحيين.. إلخ، ونراه يلجأ أولًا إلى كلمات وعبارات قالها العرب عند دخولهم غزاة لبلدان حضارات وأديان أخرى؛ إذ اعتادوا وصف أبناء هذه المجتمعات ممن لم يدينوا بالإسلام بأنهم ذميون. وينسى أن المواطنة ليست منحة أو منة يتكرم فريق من أبناء المجتمع أو فريق وافد إلى المجتمع، بمنحها أو إغداقها على فريق آخر، وينسى أن مقولة «أهل الذمة» أضحت في ذمة التاريخ بإيجابياتها — إن وجدت — وسلبياتها أو مبرراتها. ويتناسى أن أحد قادة الإسلامويين أعلن صراحة منذ عهد قريب أن أقباط مصر — وهم مصريون أصلاء وليسوا وافدين — ليس لهم مكان داخل جيش مصر!
ويتناسى المتحدث أن عديدين من المصريين الأكفاء لا يجدون سبيلًا لشغل مناصب قيادية بسبب الانتماء الديني! فهل يستقيم هذا مثلًا مع مقولة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» التي يسوقها البعض للإشارة إلى الموقف الديمقراطي للإسلامويين؟ وهل تعني أن المواطنين أمام القانون سواء .. وإن كانت قد صدرت في زمن وفي مجتمع لا يعرف الدستور والقانون؟! أي هل يستقيم المعنى التاريخي بظروفه مع حق المواطنة بالمعنى العلمي والذي لا يمس قواعد وقيم الدين، بل يؤسس قاعدة دينية هي أن يكون المجتمع بنية متراصَّة متماسكة لخير المجموع ولمواجهة عدو مشترك هو التخلف الذي جعل أرضنا مستباحة لإسرائيل، وجعل بلدنا ذليلة في يد طاغية مستبد، وأفضى إلى الحال التي نعاني منها حتى أصبحت «أمة الإسلام» أمثولة للتخلف بين شعوب العالم بسبب الإصرار على مقولات مثل تلك التي يرددها البعض باسم الدين، والدين الحق منها براء.
وهل يقبل مثل هذا المتحدث أن يُعامل المسلمون في فرنسا أو إنجلترا أو غيرها على أساس منهج التعامل مع أهل الذمة؟ إنه سيدافع وسيدفع بحجج علمانية يرفض هو وإخوانه سماعها على ألسنتنا هنا! وإذا شاء الإسلامويون أن يضعوا معنًى عصريًّا لهذه العبارة فأجدر بهم أولًا أن ينتقدوا تطبيقها في العصور السابقة، وأن يقتدوا بالإسلامويين المقيمين في الغرب إذ يدافعون عن العلمانية نهجًا صحيحًا للحياة وأن يقرءوا رأي المفكر الإسلامي الأكبر محمد خاتمي إذ يقرر: «تجوز ولاية غير المسلم على المسلم بأسلوب ديمقراطي»، وهذه ثورة في الفكر الإسلامي.
شعار «الإسلام هو الحل»
ونجد من يُردد أن شعار «الإسلام هو الحل» يشتمل على البرنامج الأمثل، وإن بدا مجتزأً .. ولست أدري كيف لشعار مجتزأ مبتور أن يكون برنامجًا يرسم خطوات حركة المجتمع ورؤيته المستقبلية؟ أو كيف يكون لجماعة تطمح إلى الحكم برنامجٌ غير معلن ومجهولٌ للجماهير؟ ثم إن الحديث عن برنامج عمل لنظام حكم يطرح نفسه بديلًا لا يستقيم إلا إذا اقترن بدراسة علمية تحليلية عن الواقع المحلي والعالمي، وبنظرة علمية نقدية لنظم الحكم التي وصفت نفسها بأنها إسلامية، الآن وفي الماضي، وبيان أسباب فشلها، وأن يطرح البرنامج رؤيته التصحيحية البديلة مع بيان معالم الطريق. وهذه للأمانة أزمة جميع الأحزاب والتنظيمات.
إن العديد من المجتمعات الإسلامية على تباينها وعلى مدى قرون التخلف عرفت العديد من الحكام والولاة والسلاطين الذين نصَّبوا أنفسهم خلفاء وأمراء للمؤمنين ودفعوا ببلادهم إلى مهاوي الانحطاط والتفكك. وتعج بلدان العالم الإسلامي الآن بحكام يعلن كل منهم أنه أمير المؤمنين وراعي المسلمين والحرمَين. ويقتضي واجب كل مَن يتصدى للمساهمة في إدارة شئون البلاد أن يُقدم رؤية نقدية تكشف حقيقة الوضع وأسباب الفشل، ويعرض الجديد الذي يجدد الأمل في النهضة.
قضايا الاقتصاد
إننا مع احترامنا وتقديسنا للدين الإسلامي، بل للأديان جميعها، نسأل كيف يمثل الشعارُ المجتزأ حلًّا لقضايا مجتمع تعقدت بنيته وعلاقاته مع التطور الحضاري للمجتمعات؟ الاقتصاد مثلًا .. يقال إن هناك زكاة الرِّكاز! ولم يسأل أحد سؤالًا بسيطًا: لماذا لم يطبق أحدٌ من حكام المسلمين على مدى قرون طويلة هذا النص؟ هل هذا خروج منهم عن قواعد الإسلام، وحرصوا على الاستئثار بأموال الركاز «مثل النفط وكل ما في باطن الأرض» لصالحهم ولتكون أمواله بعض الذمة المالية للحاكم وأسرته دون المجتمع؟ وهل تبقى المجتمعات أسيرة تخلفها ومظالمها إلى حين يقتنع الحكام بهذه القاعدة وهم في حماية قاعدة أخرى ترى أن الحاكم الظالم خير من الفتنة والانقلاب عليه؟ وهل اقتصاد المجتمعات الآن بنفس بساطة مجتمعات القبيلة قديمًا بحيث تصلحه وتنظمه قاعدة زكاة الركاز؟ وإن رفض الوالي أو عصى فأمره موكول إلى الله يحاسبه في الآخرة.
إن القول بأن زكاة الركاز، والزكاة عمومًا، هي الحل الإسلامي لأزمتنا الاقتصادية يشبه القول بأن الحل الإسلامي للفقراء والمحتاجين هو أن يقدم الأغنياء الصدقات بدلًا من التنمية وحق المواطن في نصيب عادل من ثروة أمته التي يسهم في إنتاجها. وطبيعي أن مسئولية توفير موارد تنمية المجتمع وتحديد مصارفها، التي أصبحت علمًا متكاملًا له علماؤه ونظرياته، ليست مقصورة على المسلمين وحدهم وإنما على المواطنين جميعًا دون اعتبار لدين أو جنس وإلا ظهر من يطالب بنظام الجزية، وهذه رِدَّة وتخلف.
ثم إن الحديث المرسل المطلق عن زكاة الركاز يعني أن قضية المجتمع تنحصر في نقص السيولة وفاءً بحاجات المعيشة وليست مسألة تعبئة موارد وتحديد علاقات التعامل وتنظيم المصارف وتوفير الفائض وفاءً بحاجات التنمية وفقًا لاختيار جمهور المواطنين بعامة وعلى مسئوليتهم وليس اختيار ومسئولية ولي الأمر وبطانته. ولم يعد الاقتصاد القومي محليًّا بل طرفًا ضمن شبكة عالمية عناصرها الشركات المتعدية للقوميات، وهذه بينها صراع الجبابرة وخطط لاحتكار براءات الاختراع وإلغاء الحدود والقيود القومية .. وهذه شئون دنيوية خالصة لم يرد بها نص. ولم يعد الاقتصاد اقتصاد ركاز ونعم الله في الأرض، بل الاقتصاد إنتاج المجتمع للثروة وخلق الثروة.
إن فرض الزكاة جاء باعتباره حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، يقدمه الموسرون إلى من يرونهم مستحقين لها. وكان هذا في مجتمع بسيط غير معقد لا يعرف نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها ووظائفها من جمع ضرائب وتحصيل جمارك وتحمل مسئوليات تنمية اجتماعية وإقامة بنية أساسية وطرق وكَبَارٍ ومؤسسات تعليمية وصحية .. إلخ، ولهذا ينصبُّ حديثنا لا على حق السائل والمحروم؛ فهذا واجب، وإنما ينصب على آلية إنجاز الهدف. إن تعبئة موارد الدولة المالية تجري عبر آلية توجه المال إلى مصارفه الاجتماعية لا على سبيل الصدقات وبشكل شخصي، وإنما آلية اجتماعية خاضعة للرقابة والمحاسبة لبناء خدمات تعليمية ومؤسسات وغيرها. ومن ثم نسأل: هل الأفضل أن نعطي السائل صدقة؟ أم نهيئ له عملًا وخدمات تعليمية وصحية .. إلخ، كمصارف لما تحصله الدولة من أموال؟ وبعبارة أخرى: هل نعطيه سمكة أم نعلمه الصيد؟ .. الغرض قائم واجب النفاذ وإن اختلفت آلية الإنجاز.
الإسلام والعلم والتعليم والثورة المعلوماتية
وتقتضي أمانة الحوار أن نعترف بأن قضية المجتمع ليست اقتصادًا فحسب على الرغم من قصور فهم الإسلامويين لمعناه ونطاقه. ولكن ما الحل الذي نص عليه الإسلام لقضية التعليم وبرامجه بمراحله المختلفة ومناخ وأسس تربية الإبداع وإحداث ثورة تعليمية تفي بمقتضيات حضارة العصر؟ وما الحل الذي نص عليه الإسلام العقيدة لقضية البحث العلمي والتطوير وإنشاء قاعدة بحث وتشجيع حرية الابتكار والتطبيق وإنشاء قاعدة معلومات وشحذ روح النهم المعرفي؟ لم يرد نص ديني يحدثنا عن كل هذا أو عن كيفية بناء مجتمع المؤسسات العلمية أو ما يسميه الباحثون الآن مجتمع العلم الكبير كمؤسسة متشابكة محليًّا وعالميًّا ومتطورة وملتزمة وملزمة. لم يحدثنا نص عن إنشاء منظمة علم وثقافة في المجتمع تكون أداته لتحويل طاقات المجتمع وقدراته العلمية والتقانية إلى مخرجات ثقافية وتعليمية وحربية واقتصادية .. إلخ، والعمل في ترابط بالشبكة العالمية.
لم يعرف عصر صدر الإسلام مسألة تنظيم البحث العلمي أو بناء مجتمع العلم الكبير كمؤسسات وحرية الإبداع العلمي والفكري والمنافسة والسبق الإبداعي على الصعيد العالمي. ونظلم أنفسنا ونظلم الدين (العقيدة) إذا ألزمناه بأن يقدم نصًّا نعيد على هديه بناء مجتمعنا ليكون مجتمع مؤسسات علمية ومراكز بحث وأن يكفل حرية الإبداع واستيعاب علوم العصر على أساس عقلاني نقدي دون قيود حظر أو تحريم.
إن هذا الزعم يشبه رطان من يفسرون «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ» بأنها تعني أن القرآن حوى كل الاكتشافات العلمية التي عرفتها وسوف تعرفها البشرية إلى أبد الآبدين .. وهذا هراء ليس من الدين. لقد اجتاز العالم عتبة عصر جديد هو عصر الثورة المعلوماتية الذي يقتضي ثورة في التعليم والبحث العلمي والعلاقات الاجتماعية وهيكل المجتمعات ومؤسساته وبناء الإنسان ووضع صيغة لنظرة تاريخية مستقبلية علمية. وهو ما لم يرد به نص موروث منذ عصر صدر الإسلام، وليس هناك حل إسلامي لجميع البلدان يوضح لها كيفية تجاوز مراحل التطور الاجتماعي وصولًا إلى حضارة العصر. وليس في هذا الإنجاز نقض لدين ما من حيث هو خطاب روحي، أو قيمي داعم للنهوض.
رطان أسلمة العلوم
ونسمع من يقول: الإسلام هو الحل .. في قضية الصحة والطب، ولكنني أذكِّر الإسلامويين بمقولة عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون الذي قال: جاء الإسلام ليعلِّم الناس الدين وليس الطب والزراعة. إننا نجترئ على الحقيقة والواقع إذا قلنا إن الإسلام هو الحل لعلاج أمراض القلب والذبحة واضطراب الهرمونات والكبد .. إلخ، إلا إذا ذهبنا مذهب البعض، وكما يشيع على ألسنة العامة، أن نطرح العلم جانبًا ونلتزم العلاج بالقرآن ونغلق المستشفيات وكليات الطب والمعامل.
وقد يكون المقصود هو كما يريد الإسلامويون الدعوة إلى أسلمة العلوم، وهذه دعوة يائسة وغوغائية؛ إذ كيف نؤسلم علم الرياضيات؟! وهل نعود إلى الخوارزمي والبيروني؟ وكيف نؤسلم نظريتَي النسبية العامة والخاصة، أو نظرية الكم أو نظرية التطور أو أركيولوجيا الحضارات؟
إننا لو قضينا عشرات القرون في ظل شعارات مبهمة وملتوية لن نحصد غير الوهم .. حصادنا منذ قرون. أفهم أن نتنافس من أجل صياغة القضية، قضية تخلُّفنا ومظالمنا، على نحوٍ علمي موضوعي صحيح، وتكون لنا نظريتنا عن تطور مجتمعاتنا وفكرنا وتراثنا .. إلخ. حريٌّ أن تواتينا الجرأة ونقرر أن المجتمعات الإسلامية على اختلاف مواقعها الجغرافية هي مجتمعات متخلفة، وبينها وبين حضارة العصر هوة مهولة ومروعة. وليس مطلوبًا أسلمة العلوم، بل علمية عقل المسلمين؛ أن يلتزم المسلمون بالفكر العلمي ثقافة، وبالعلم منهج بحث وتطبيق في شئون الحياة، وأن تكون لنا مراكز علمية وإبداعات علمية وعلماء.
إن الدين؛ القِيم والأخلاق دون الشكليات الفارغة والرطان الأجوف، ليس ضد العلم الذي هو إعمال العقل والفهم المنهجي النسقي للظواهر .. ظواهر الطبيعة والمجتمع. ولكن الشعارات المعماة والمبتسرة ابتغاء مصالح سياسية «دنيوية» هي ضرب من التجهيل والتضليل للعامة، وتخليد لواقع متخلف، ونعرف أن الدين الإسلامي ضد الجهل والجاهلية وضد الضلال والضالين المغضوب عليهم.
أجدر بنا أن نكف عن شعار مبتسر مثل «الإسلام هو الحل» أو عن شعار غوغائي مثل «أسلمة العلوم»، وأن ندعو إلى نهضة المجتمعات الإسلامية في مجال العلوم المختلفة .. الدين فطرة .. قواعده بسيطة يلتزم بها العامة والخاصة، وإن الأخذ بأسباب النهضة العلمية ليس خروجًا عنها، وإنما العلم والإبداع العلمي والتكنولوجي سبيلنا لامتلاك ناصية حضارة العصر أو اللحاق بركب التقدم. إذا تحقق لنا هذا سوف يشير علماء العصر إلى علماء المجتمعات الإسلامية ويقولون هؤلاء قوة دفع حضاري ومصدر زاد علمي ننهل منه.
الديمقراطية والشورى
ونظلم أنفسنا والإسلام والفكر العلمي حين نزعم أن الشورى هي الحل الإسلامي العصري شأن الديمقراطية؛ ذلك لأن الديمقراطية عملية تطويرية تاريخية بدأت قرينة مجتمع نشأ حديثًا مع حضارة عصر التصنيع وآخذة في التطور ليغتني محتواها مع مر العقود والثراء الحضاري. ولقد كانت الشورى آلية ملائمة لإدارة شئون المجتمع في عصر مضى يحكمه الشيخ أو الولي ومعه من يختارهم هو من أهل الحل والعقد دون حق الإلزام. ولكن التنظيم الديمقراطي آلية مستحدثة ومتطورة وإن تعددت صورها وفقًا لظروف كل مجتمع.
ونظلم الدين إذا زعمنا أنه نظَّم ونصَّ على — وأعود لأقول نظم ونص على — حقوق المواطنين من العامة وواجباتهم دون تمييز إزاء المشاركة في صنع القرار والمحاسبة وإقالة أو تنصيب الحاكم وتنظيم شئون إدارة المجتمع، وتشكيل الأحزاب والنقابات وتوصيف السلطات والمؤسسات الاجتماعية وأساليب حسم الخلافات والتزام المستويات الاجتماعية المختلفة بهذا كله .. إلخ؛ أي ما نسميه الديمقراطية وهي نظام أو آلية متطورة أبدًا وليست وصفة كاملة منتهية. هذا عن الواقع المحلي ناهيك عن المنظمات الدولية وعلاقاتها والمنظمات غير الحكومية وما قد يستجد من تشكيلات غير مسبوقة.
الافتراء على الدين باسم الدين
الفكر الإنساني يرفض الآن كل مقولة عن وجود نسق فكري كامل وتام وناجز يحسم كل مشكلات البشر على اختلاف الزمان والمكان، ومغلق دون أي فكر جديد. وإن الإسلامويين بادعاءاتهم هذه يورطون الإسلام الدين في غير ما تطرق إليه، ويتجاوزونه من حيث لا يدرون، بل يضعون الفكر الإسلامي، لا الدين، في موضع التقصير؛ لأن الدين القيم أجلُّ وأعظم من مزاعمهم حين نلتزم به قيمًا هادية. وأجدر بنا لكي نكون صادقين مع شعبنا الذي عانى الكثير وعرف مذلة التخلف بسبب المقولات الساذجة، ولا أقول المغرضة، أن نتخلى عن أخلاقيات المراوغة في الحوار، وأن نكون على مستوى المسئولية ولا ننطق في شئون الدنيا إلا حقًّا وعلى هدى فكر علمي موضوعي رصين وأصيل.
المجتمع العلمي هو الحل
مأساتنا ليست أننا ابتعدنا عن الإسلام. وإنما أن مجتمعاتنا عزفت عن المعرفة العلمية والبحث العلمي، وعاطلة عن العمل والإنتاج، وتعيش عيالًا على الآخرين، ينتجون العلم والتكنولوجيا، ويتطورون ونحن غارقون في نشوة الاستهلاك السفيه الذي لا يُشبع ولا يُغني .. والإنتاج لا يكون إلا بامتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا وحرية الإبداع .. نحن عاطلون عن العمل الاجتماعي الذي يفي بمقتضيات الظرف الوجودي لعصرنا الراهن، عصر العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات والمشحون بالتحديات على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي تعزيزًا لحق البقاء. إن العمل والإنتاج على مستوى حضارة العصر؛ أي العلم والتكنولوجيا، هو سبيلنا لتحقيق الذاتية الاجتماعية، هويتنا، التي نبحث عنها عبثًا في كتب الأقدمين، وهو سبيلنا لبناء الإنسان وتغيير المجتمع وحسم حالة اختلال الأنا القومية واختلال التوازن الحضاري بيننا وبين المجتمعات المتقدمة. وهو ما لا يتعارض مع قواعد كل الديانات .. هذا وإلا سنقضي قرونًا أخرى أسرى أوهام من يحرثون البحر.