Wave Image

الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة١

في البدء كان الفعل .. وانبثق عنه الفكر.

حين صدر لي عام ٢٠٠٢م كتاب «الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل» ظن كثيرون أنني اخترت عنوانًا يعبر عن نزعة تشاؤمية. بيد أنني كنت ولا أزال، أرى أنه عنوان متفائل؛ ذلك لأن التفاؤل عندي ليس كما يرى المتطيِّرون منحة تنبني على مبررات طوباوية، وإنما أرى التفاؤل أملًا ينبني على جهد إنساني وليد إرادة وسعي نضالي منهجي واضح المقصد والهدف، أعني أنه ثمرة فعل إنساني مجتمعي عقلاني وليس شيئًا مجانيًّا.

لهذا فإن عبارة سوسيولوجيا الفشل تعني أن الفشل راجع لأسباب اجتماعية تدخل في نطاق مسئولية الإنسان/المجتمع؛ وأن الإنسان قادر بإرادته وفعله وفكره، ومنهجه العلمي في الفعل والفكر، أن يصحح الخطأ ويزيل الأسباب إذا عرف نفسه كوجود تاريخي؛ أي وجود له امتداد في الزمان، وعرف عصره، ومقتضيات هذا العصر وتحدياته؛ وتكيَّف اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا .. إلخ للاستجابة نحوها .. ويصبح البحث عن الأسباب أكثر إلحاحًا حين يتواتر الفشل بينما الآخرون انعقدت لهم وبجهدهم أسباب السبق والنجاح دون أن نقارن أو نسأل كيف ولماذا؟ ورضينا بالبقاء قانعين بالاكتفاء والانكفاء على الذات ثقافة وتراثًا.

ويعني الفشل أن المجتمع عاطل من المعرفة الكاملة والصحيحة نسبيًّا ومرحليًّا لتوجيه مسارات حركته وطاقاته وأنشطته الاجتماعية بصورة فعالة في الاتجاه الصحيح للتطوير .. أي للتكيف مع حضارة العصر بهدف البقاء والعطاء والارتقاء والمنافسة. وطبيعي أنه في حالة غياب هذه المعرفة/الفكر في صورة نسقية شاملة، وغياب التكامل بين الفعل المجتمعي وثيق الصلة بالنهضة ومن ثم غياب الفكر النهضوي. هنا يغدو واقع المجتمع أو نشاطه ضربًا من الشواش/المحاولة والخطأ مع نسبة عالية من الإخفاق، وحركة غير مطردة، وغير سوية ولا مستوية مختلَّة التوازن، عاجزة عن كفالة أسباب البقاء ناهيك عن المنافسة والتطوير ..

قضيتنا المحورية هي أزمة الفكر الاجتماعي العربي التي هي في جوهرها أزمة فعل التحول الاجتماعي الحضاري، أو أزمة إنتاج المجتمع لوجوده على مستوًى منافس لحضارة العصر. والقضية ليست جديدة بل قديمة مُعادة ومكررة تواترت على ألسنة المصلحين الاجتماعيين: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ولكنني استكمالًا وتوضيحًا للرؤية، أطرح مع السؤال أسئلة أخرى: كيف تقدم غيرنا وقد كانوا في السابق أسوأ حالًا؟ وكيف نتقدم نحن؟ ما هي شروط وآلية ومعايير التقدم؟ ثم كيف تكون ثقافتنا الاجتماعية حافزة لفعل التقدم والتحدي والمنافسة، حافزة لفعل الإبداع والتجديد والتغيير؟ وما هو الخطأ في أسلوب تناولنا للقضية بحيث مضت قرون وتعاقبت أجيال وتفاقمت الحال، وأزمن الفشل، وضاعت من أقدامنا الطريق وبقي السؤال مجرد سؤال ولا فعل؟

أحاول الخروج من السياق التقليدي في النظر إلى عصر ذهبي مضى، والزعم أن الفشل مرجعه أننا تنكبنا طريق السلف. فالحضارات أطوار تراكمية صاعدة، وليست امتدادًا متجانسًا. والحضارة فعل ذاتي بالأصالة وليس بالنيابة .. وإن ما صنعه السلف لا يغني عن جهد الخلف، وليس السلف بإنجازاتهم قدوة للمحاكاة بل قدوة لمنهج وثقافة الفعل وصناعة الوجود ومواجهة التحدي.

وأحاول الخروج أيضًا عن مقولة التحديث محاكاة للغرب فإن الحداثة معيار متجدد، والتحديث متعدد الآليات، وفعل ذاتي أصيل، والتحديث ثقافة حافزة للفعل والمنافسة نتعلم أسسه ومنهجه، ونستوعب خبراته على صعيد عالمي ولا نستورده .. إنه صناعة لا حيازة، وفعل ابتكاري متجدد وليس مظهرًا للمحاكاة .. والتحديث ثقافة تغيير وتكييف.

القضية هي التطوير .. تطوير الإنسان/المجتمع .. تحول حضاري ومشاركة؛ أي فكر وفعل إبداعيان وليس تنمية. التحول الحضاري امتداد وتعزيز رأسي صاعد أو كيفي يفضي إلى نشوء أنماط وأشكال جديدة، ويحقق إنجازات وفق معايير المنافسة لحضارة العصر، كما يُفضي إلى نشوء فكر ورؤية جديدَين. والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري-القيمي في تكامل، استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان/المجتمع.

وهذا تعريف يتسم بالدينامية إذ يدمج الإنسان كأحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان.

تطوير المجتمع موقف من الحياة ونمط سلوكي في الاستجابة لتحديات الوجود، وفهم للذات ولدورها واستحقاقاتها الوجودية والمعرفية بشأن الواقع الراهن والمستقبل المنشود الذي يصنعه المجتمع بإرادته. وقد تكون التحديات رؤًى وتخيلات من ثقافة موروثة حال انفصال الكلمة/الفكر عن الواقع، وقد تكون التحديات واقعًا ماديًّا نشطًا محليًّا وعالميًّا مثل واقع العلم والتكنولوجيا.

والتطوير الاجتماعي، أو النهضة، نمط من أنماط التكيف الذي هو آلية بقاء وتعزيز الوجود والهوية في إطار المنافسة وصراع الوجود. ويمثل التكيف هنا حلقة في سلسلة تاريخية ممتدة تجسد قدرة بشرية تتميز بالمرونة بدينامية الاستجابة إزاء التحديات الداخلية والخارجية مما يكفل للمجتمع مرونة ومناعة على الصعيدين الفكري والمادي، وقدرة على البقاء والعطاء.

والتطوير الاجتماعي، حركة هادفة وصاعدة للمجتمع من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى وأغنى للطاقة والفعالية والكيف أو الحالة الإنتاجية والتعقد والفهم والإبداع وفرص الاختيار والسيطرة والاستمتاع والإنجاز في إطار معايير حضارة العصر.

ويقتضي تطوير المجتمع في ضوء حضارة عصر الصناعة والمعلوماتية إطلاق وتوجيه مسارات طاقات جميع أبناء المجتمع عبر مزيد من التنظيم الاجتماعي المعقد بهدف تعزيز الطاقة الإنتاجية وتعظيم المخرجات؛ ولهذا تمثل عملية التطوير فكرًا نقديًّا للموروث ومستقبلَي التوجه والمسار، وتمثل أيضًا إبداعًا اجتماعيًّا ذاتيَّ المنطق؛ وبذا لا تكون عملية التطوير محصلة عوامل خارجية محضة، وإن أفادت بها، وإنما تحمل خصوصيات ثقافة وتاريخ المجتمع، وتحمل طبيعة الوعي الاجتماعي بالتحديات وقبول لهذه التحديات والصراع ضدها.

ويمثل العلم، روح حضارة العصر، إنجازًا فكريًّا نظريًّا وإنجازًا ماديًّا ثقافيًّا في تلاحم وتطور مطرد. وأصبح العلم والتكنولوجيا هما قصبا السبق وفرس الرهان، وأساس التغيير والإنجاز والتمايز أو التفاضل بين المجتمعات وعماد البقاء والصراع. ولعل من أهم أدوات التطوير الاجتماعي مع العلم والتكنولوجيا رأس المال الموظَّف اجتماعيًّا نحو الهدف، والتنظيم المؤسسي لأنشطة المجتمع وما تتمتع به من حريات، والبنية الأساسية والسياسية والاجتماعية والتعليم والمهارات أو الخبرات الفنية ووقت الفراغ .. إلخ.

وجميع هذه الأدوات غايتها بناء الإنسان؛ أي تعظيم رأس المال البشري للمجتمع؛ كما وأنها ثمرة المجتمع. أعني أنها تشكل عملية مجتمعية مطردة في سياق صراع الوجود. وحتى لا نقع في خطيئة الشكليات والمظهريات يتعين النظر إلى ما وراء أدوات التطوير؛ أي إلى الإنسان/المجتمع المبدع لهذه الأدوات وخالق التكنولوجيا والفكر، مع التماس الشروط اللازمة للنجاح .. النجاح في بناء إنسان جديد.

وأعود إلى سؤالي الأساسي: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ المشكلة المأساة أننا عند محاولة الإجابة ظللنا أسرى التأمل النظري المجرد للمجتمع والواقع العالمي، وبقي السؤال سؤالًا دون إجابة. لم ننظر إلى واقع حال المجتمع، والمجتمعات في وجودها التاريخي، ولم نقارن بين الوجود الحركي الدينامي المتغير وبين البقاء الساكن الراكد ونعرف أو نفكر في أسباب هذا وذاك ونصوغ فكرًا علميًّا عن تطور المجتمعات وعن دور الإنسان العام صاحب الإرادة والمشاركة الفعالة وفق مقتضى حضارة العصر ونحدد معنى الفعالية .. فعالية الإنسان/المجتمع .. ولم نفكر في قانون صراع الوجود وأسبابه الطبيعية وأن المنافسة/الصراع هما قانون الوجود .. وغاب عن الأذهان معنى وضرورة التكيف كفعالية وإنتاج اجتماعي، وإنما قنعنا بالنظر المجرد في إطار الموروث المفارق زمانًا ومكانًا .. وحين يقع المجتمع أسير النظر المجرد، مع تعطل الفعل الإنتاجي الإبداعي الاجتماعي فإنه عمليًّا يقع أسير الفكر التقليدي الموروث، ويكون الوجود الاجتماعي عنده مجرد امتداد سكوني نمطي للماضي.

هذا على عكس تأمل الواقع في تغيره بفعل الإنسان نشأة وتكوينًا وصيرورة، وتأمل الممارسة العملية والعمل الاجتماعي في مواجهة التحديات. ذلك لأن هذا الواقع الحي المتغير بفعالية الذات هو أساس ومعين التفكير الإبداعي .. تجديد الفكر وأدوات وأسلوب ممارسات العمل إزاء ظواهر الوجود؛ ولهذا السبب ترانا دائمًا نبدأ فكريًّا من جديد .. تمضي العقود وربما القرون، ونعيد الأسئلة ذاتها، ونعيد تأملها من خلال إطار فكري تقليدي. يحدث هذا مرارًا لا لشيء إلا لأننا لم نتغير؛ أعني لأننا لا نعمل؛ إذ العمل الاجتماعي هو القوة الدافعة للتغيير، وقوة لتركيز الانتباه والفهم واستخلاص الفكر الجديد أي الإبداع.

وعشنا قرونًا بغير مشروع وجودي، وقنعنا بالبقاء. والوجود غير البقاء .. البقاء اطراد عشوائي بينما الوجود مشروع راهن ومستقبلي، وفعل إرادي عقلاني، والفعل المجتمعي؛ أي العمل الاجتماعي هو أساس توليد الفكر المجتمعي المتجدد .. فكر جديد لصناعة مشروع الوجود .. ولكن الشعور أو الظن بأننا خير الأمم بمعايير الحياة الدنيا وتجلياتها وأنشطتها الحضارية يعني نهاية الفعل المجتمعي الذي هو قوة التغيير الهادف، ومن ثم نهاية لعملية توليد فكر جديد.

ولكن النشاط الإنتاجي للمجتمع ارتقاء مطرد، إنه عمل اجتماعي هادف متوحد بالفكر، حيث الفعل والفكر وجهان متلازمان للعمل الاجتماعي وبينهما تغذية متبادلة تحفز نحو مزيد من التطور. وإذا تعطل الفعل تعطل وانحسر الفكر، ويظل النشاط الفكري حدثًا فارغًا لأنه غير ذي محتوى؛ أي بغير رصيد واقعي، وبغير معنًى علمي. صفوة القول: «قضيتنا فعل حضاري جديد، يولِّد فكرًا عصريًّا، يضع أقدامنا على طريق النهضة العربية.»

١  لا توجد كلمة واحدة جامعة بين دلالة الفعل والفكر معًا؛ إذ هكذا اللغة الدالة على صورة العالم والإنسان في حياتنا. وساد الفصل بين الاثنين على الرغم من أنهما، الفعل والفكر، وجهان لوجود واحد .. وجود متفاعل مطرد التطور حتى وإن نزعت الكلمة كثيرًا إلى الاستقلال والتجرد اكتفاء بذاتها والانفصال عن الفعل ليعيش الإنسان/المجتمع أسير ثقافة الكلمة، والغفلة عن الفعل إنجازًا ومعنى؛ أي غياب الواقع في حركته التطورية، وقوانينه، وإن بقيت قوانين الكلمة وحركة الفكر في صورة تقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤