توماس كون .. ونسبية المعرفة
القرن العشرون الذي أفل منذ عقد، هو بمعنًى من المعاني الوجه المقابل للقرن التاسع عشر، على نحو يؤذن بعالم جديد تمامًا في فكر وفلسفة إنسان القرن الحادي والعشرين. كان القرن التاسع عشر قرن العقل واليقين؛ أما القرن العشرون فهو قرن الشك والاحتمال. وكان القرن التاسع عشر قرن الإيمان بالنظريات والمذاهب، بل وواحدية النظرية أو المذهب، أما القرن العشرون فهو قرن التمرد والثورة التعددية. وكان القرن التاسع عشر قرن الثقة في الاستقرار وانتصار الإنسان، أما القرن العشرون فهو قرن الأزمات والصدمات. وكان القرن التاسع عشر قرن الذات-الجوهر الفاعلة المتعالية على السياق والتاريخ؛ أما القرن العشرون فهو قرن الذات-الموضوع رهن السياق ووليد التاريخ. بدا القرن التاسع عشر تتويجًا لفكر التنوير، عصر العقل وتأكيد الذات واستقلال الأنا عن الموضوع؛ وهو ما لخَّصه شعار فلسفة «ديكارت» أنا أفكر، لينطلق من الأنا الديكارتي والإيمان بالوجود. ومن ثم كان القرن التاسع عشر قرن استقلال الفكر والعقل والثقافة والحقيقة؛ أما القرن العشرون فهو قرن تاريخ وسوسيولوجية الفكر والعقل والثقافة، الحقيقة أنه قرن البنية التي تُشكِّل فيها الذات والموضوع نسيجًا واحدًا في بُعدي التاريخ والمجتمع.
وأهلَّ القرن العشرون بأزمة عصفت بكل دعائم الثقة، وبكل أركان اليقين، وبكل مبررات استقلال الذات أو الموضوع. وثار العقل على نفسه في سياق من الأحداث الاجتماعية المأساوية وبقوة دفع التطورات والإنجازات العلمية الطبيعية منها والإنسانية. وتغيرت مقومات الفكر بل وأسس الثقافة ذاتها.
وفي ضوء الثورة الكاسحة التي شملت الفيزياء الكلاسيكية امتدت إلى علوم طبيعية أخرى وانعكست على الفكر الفلسفي والعلوم الاجتماعية، بات مشروعًا أن يسأل عالمٌ مثل «هيزنبرج»: ما هو محتوى الحقيقة أو الصدق للفيزياء الكلاسيكية أو الحديثة؟ لقد غيرت نظرية النسبية صورة الكون بعد أن غيرت مفهوم الزمان والخصائص الهندسية للمكان. وأثبتت النظرية النسبية أن أساس العلوم المضبوطة الذي كان يعتبر أمرًا بديهيًّا يمكن أن يتغير بعد أن أحاطت الشكوك بجوهر الفيزياء الكلاسيكية. لقد انتفى الاعتقاد بأن مسار الحدث موضوعي ومستقل عن المُشَاهد.
هكذا فرضت إشكالية الأسس الأبستمولوجية للعلم نفسها في ضوء جديد حددته، وألقت أضواء على أزمة العلوم الطبيعية وما انطوت عليه من مشكلات فلسفية معرفية ومنطقية. هذا علاوة على الأضواء الكاشفة لإنجازات العلوم بعامة بما في ذلك العلوم الإنسانية مثل علوم اللغات والأنثروبولوجيا وسيكولوجيا الإدراك وسوسيولوجيا المعرفة ودراسات الثقافات المقارنة. وقد أسهمت جميعًا في تفسير العديد من المفاهيم السائدة وتوضيح العملية المعرفية، وعدلت من أسلوب تناول الظواهر، وغيرت صورة العالم تغيرًا جذريًّا. نضيف إلى هذا الحوار المضطرم بين هذه العلوم جميعًا حول محور العملية المعرفية والذات والموضوع. وعلاقة المعرفة العملية بنسق الموضوعات والمناظرة.
واحتلت مشكلة تطور العلم في التاريخ مكان الصدارة منذ مطلع القرن العشرين ولا تزال. وبرزت أسماء لعلماء مرموقين؛ وتعددت أو تضاربت الآراء، وانعقدت مؤتمرات دولية لمناقشة القضايا المتعقلة بتطور العلم في التاريخ. وتضافرت جهود علماء الطبيعة ومؤرخي العلم لصوغ اتجاه جديد للبحث النظري التاريخي يمكن أن نسميه منطق التطور العلمي، وموضوعه دراسة ميكانيزمات إنتاج وحركة العلم، وتحليل تطور بنية العلم، ومناهج تحصيل المعارف الجديدة، واكتشاف قوانين التقدم العلمي ومعاييره، وأشكال وصيغ التقدم، وعلاقة العلم بالتراث الثقافي ونسق الفكر المشترك «الأبسيتمي» وعلاقة التقدم العلمي بالتقدم الاجتماعي والارتقاء الحضاري، والعلم والتنبؤ بالمستقبل؛ والعلم والسياسات القومية؛ والعلم والإبداع في ضوء العلوم المختلفة، والعلم والتعليم .. إلخ، والعلم وما قبل العلم أي معايير الحكم على معرفة بأنها علمية ولاعلمية. وحين بدا أن العلم أو إنجازات العلم تشكل خطرًا يتهدد الإنسان بل والوجود الحضاري فرض السؤال نفسه: هل مسيرة العلم عشوائية أم يمكن للإنسان أن يحكم قبضته على مسيرة العلم تخطيطًا وتوجيهًا ضمانًا لسداد وصواب تطوره؟ وبرزت أهمية فهم قوانين العلم كعملية تاريخية ممتدة وكقوة اجتماعية فاعلة، سواء من زاوية معرفية أو من زاوية التوجيه العملي لمسار العلم.
وتعددت مدارس الفكر، وتعقدت مناهج التناول مع تعقد فروع المعرفة واتساع نطاقها وازدياد تخصصها وغزارة إنجازاتها وعمق إشكالياتها. ومؤرخ العلم لا بد وأن يضع في الحسبان كل فروع المعرفة، ويبحث العلاقات المتداخلة بينها، المتواترة والمركبة. هل يدرس العلم كفرع معرفي، أم العلم كظاهرة اجتماعية ونشاط له تاريخ؟ وهل هناك علم عام ينصب عليه البحث وتُستقى منه معطياتنا؟ وهل يدرس العالم الفرد أم العلماء كقوة اجتماعية؟ وماذا عن الجوانب النفسية للعلماء المبدعين وأسباب تميزهم؟ وكيف عبروا عن أنفسهم، ودور البيئة والتراث في هذا كله؟ وهل يدرس التسلسل المنطقي لحركة العلم وترابط الوقائع العلمية وتقديم تفسير منطقي للاكتشافات؟
ويعتبر علم العلم نسقًا مركبًا يتألف من أفرع وجوانب كثيرة: البنية المنطقية للعلم، منطق تطور العلم، وسوسيولوجيا العلم، تنظيم العلم، اقتصاد العلم وطبيعة الإبداع وسيكولوجيا النشاط العلمي، ونظرية تنظيم العلم أو إدارة العلم باعتباره مؤسسة اجتماعية .. إلخ. وتجري دراسة هذه الجوانب جميعها في وحدة متكاملة مع بيان تأثير كل منها في الآخر. ويهدف هذا المنهج في البحث إلى الكشف عن أداء وتطور العلم كنسق خاص والإفادة بهذه النتائج في النظرية والتطبيق.
وعلى الرغم من أن الاهتمام ببحث موضوع المعرفة بعامة، والمعرفة العلمية بخاصة باعتبارها ظاهرة متطورة تاريخيًّا ليس بالبحث الجديد، فإن الجديد هو تباين وجهات النظر، وتعدد مناهج البحث والنشاط المحموم إلى حد الصراع والتطاحن في هذا الصدد؛ مما يكشف عن اهتمام وحاجة ملحة، وإدراك لأهمية دراسة هذه الظاهرة في إطارها الثقافي الاجتماعي التاريخي مع الاستفادة بإنجازات العلوم الإنسانية التي دفعت إلى تغيير مسار التفكير الفلسفي والدخول في مواجهة مع فلسفة اتخذت لنفسها اسم «الفلسفة العلمية» ونعني بها الوضعية المنطقية.
فقد شهد العلم تطورات دفعت مفكرين عديدين إلى أن ينحوا نحوًا آخر جديدًا غير وضعي في تناول فلسفة العلم. والجدير بالذكر هنا أن الفلسفة الوضعية نزعت إلى إغفال تاريخ العلم باعتباره غير ذي صلة بفلسفة العلم، وبناء على الاعتقاد بأنه «لا منطق للاكتشاف» وأن عمليات ملاءمة الاكتشاف العلمي والتقدم العلمي هي موضوع تختص بدراسته علوم أخرى مثل علم النفس أو علم الاجتماع أو غيرهما، حيث إن فلسفة العلم مقتصرة على منطق البحث فحسب، وأن عالِم المنطق مهمته تحديد اللغة ضمانًا لدقة وتطابق الاصطلاحات، وأن ما يعنيه هو البنية المنطقية لكل القضايا الممكنة التي تزعم أنها قوانين علمية.
واعتاد فلاسفة التجريبية المنطقية النظر إلى تاريخ العلم باعتباره أساسًا مسجلًا لعمليات إزاحة تدريجية للخرافة والهوى وغير ذلك من معوقات التقدم العلمي. وتتمثل عمليات الإزاحة في إضافات متزايدة باطِّراد وتوليف للمعارف لتندرج كل فئة من المعارف العلمية الجديدة في إطار البحث العلمي الخاص بها .. وهذا هو التفسير المألوف لتاريخ العلم، والذي أطلق عليه توماس كون وغيره «مفهوم التطور عن طريق التراكم» الذي يتصدى له في كتابه هذا.
وبرزت خلال حركة التمرد على فلسفة العلم هذه آراءٌ زعمت أنها جديدة وراديكالية ليس فقط من حيث مذهبها بشأن العلم وتطوره وبنيته بل وأيضًا من حيث تصوراتها للطرق الملائمة لحل مشكلات فلسفة العلم وبيان هذه المشكلات ذاتها.
ومن هذه الدراسات المتمردة كتاب «بنية الثورات العلمية» تأليف «توماس كون» العالم الأمريكي الذي تخصص في تاريخ العلم. وصادف كتابه استجابة واسعة، وأثار جدلًا ساخنًا لم يهدأ بعد، واحتل الصدارة في جداول عدة مؤتمرات دولية معنية بتاريخ العلم. وصدرت دراسات عديدة تركزت على نظريته ما بين تأييد أو معارضة لها أو توضيح لآثارها وانعكاساتها على مناهج بحث لفروع علمية متباينة وبخاصة العلوم الاجتماعية.
والنماذج الإرشادية غير قياسية؛ إذ ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم النظرية الأساسية المختلفة في العلم. ومن ثم فإن حركة العلم، أو لنقُل النظريات العلمية أو النماذج الإرشادية الجديدة، ليست نتيجة منطقية ولا تجريبية للنظريات السابقة عليها.. إنها لا قياسية وحقائقها نسبية، وفي كل حقبة علمية أو مع كل ثورة علمية تكون السيادة لنموذج إرشادي له الغلبة. والنماذج الإرشادية في تاريخ العلم الواحد مختلفة عن بعضها اختلافًا أساسيًّا، وتحل محل بعضها البعض على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية.
ويرفض «كون» رأي الوضعية المنطقية في اعتبار بنية النظريات العلمية نسقًا من العلاقات الشكلية الخالصة لأبنية لغوية؛ إذ يرى أن نسق النظرية غارق أو منغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد كلًّا من طابع ومسارات كل تطور جديد للنظرية، وكذا أسلوب تحديد التجارب وتفسيرها. وهو هنا متأثر بفكر وفلسفة «وورف» الذي استخلص بالاشتراك مع «إدوار سابير» من نتائج دراساتهما للغات، مجموعةً من القوانين على أساس عرقي، وانتهيا إلى ما يُعرف باسم فرض النسبية اللغوية.
وحسب هذا الفرض فإن العالم الذي ندركه ونفسره قائم لاشعوريًّا على أساس معايير لغوية محددة. ونحن نحلل أو نجزِّئ الواقع إلى عناصر وفقًا لقواعد تصنيف «وهي قواعد مجسَّدة في وحدات قاموسية أي مفردات اللغة» ووفقًا للأبنية النحوية الأصيلة في اللغة موضوع البحث. وحيث إنه لا توجد لغتان متماثلتان فإن بالإمكان القول إن المجتمعات المختلفة موجودة في عوالم مختلفة. فنحن نحلل الطبيعة وفق خطوط حددتها لنا لغتنا الوطنية وهو ما يعني أساسًا أن تنظيمها يتم على أساس أنساق اللغة الموجودة في الأذهان. وهكذا ندخل في مبدأ جديد من النسبية يقضي بأن جميع المشاهدين لا يسترشدون بنفس الدلائل أو الشواهد الفيزيقية وصولًا إلى نفس صورة الكون ما لم تكن خلفياتهم اللغوية متماثلة. وحسب فرض النسبية اللغوية فإن الصور اللغوية المختلفة عن العالم يمكن أن تصنع أبنية فئوية مختلفة؛ ومن ثَم تؤثر على معايير التفكير، كما تؤثر بالوساطة على معايير سلوك مجتمع معين.
ولقد استطاع «كون» أن يلفت الأنظار في دراسته عن نظرية العلم وتاريخه ومناهج بحثه إلى سلسلة كاملة من المشكلات التي كانت في الظل، ولكنها واقعية وجوهرية لفهم بنية ووظائف المعرفة العلمية التاريخية الفعلية لتطوير العلم.
ولكن «كون» بقدر ما أثار من اهتمام ودويٍّ، أثار شكوكًا وانتقادات. وانصبَّ اتهامه بالذاتية أو النسبية الذاتية بسبب مشكلة الانتقال من نموذج إرشادي إلى آخر؛ أي الثورة العلمية التي تعني في رأيه الانتقال إلى عالم مغاير إدراكيًّا ومفاهيميًّا غير العالم الذي يعمل فيه الباحث. لقد تغير العالم لمجرد إبدال النموذج الإرشادي. إن الباحث العلمي عقب إبدال النموذج الإرشادي؛ أي عقب الثورة العلمية، يرى العالم في صورة مختلفة؛ بل إن ما كان بديهيًّا لم يعد جزءًا من خبرته حتى وإن استخدم ذات المصطلحات القديمة. ذلك أن الصيغ والقواعد والمصطلحات تأخذ معنًى كيفيًّا جديدًا في إطار الصورة الكلية الجديدة ذات الدلالة المغايرة. معنى هذا أن الإبدال أو التحول أو الثورة ليست لها أسباب منطقية أو تجريبية. ويرى «كون» في هذا دليلًا على وجود عناصر لا عقلية في تاريخ العلم.
وإذا كانت الانتقادات تركزت أساسًا على مفهوم «كون» لمعنى الثورة العلمية؛ أي الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر، وما ينطوي عليه هذا الفهم من إيحاء بوجود عناصر لاعقلية ونفي للارتقاء الحضاري العلمي على نحو متتابع، فإننا سنجد من بين منتقديه مَن يحاول أن يدفع بهذا الجانب اللاعقلي إلى أبعد مما ذهب إليه «كون».
وناقش كُتَّاب كثيرون المشكلات الفلسفية لفكرة تغيير النماذج الإرشادية، ودلالة ذلك بالنسبة لجدوى الحوار بين المجتمعات العلمية التي تلتزم بنماذج إرشادية متباينة، وأيضًا إمكانية فهمنا نحن المعاصرين للمجتمعات البدائية. وعُني هؤلاء المفكرون أساسًا بفكرة «النسبية» المترتبة على رأي «كون» من أن النماذج الإرشادية يمكن النظر إليها باعتبارها تستجيب إلى عوالم مختلفة ومن ثم يتعذر التفاهم بينهم، ويستحيل حسم الخلاف باللجوء إلى أية لغة خارج النموذج الإرشادي، بمعنى أن الحوار بين الثقافات هو حوار طرشان.
يلزم عن هذا أن لا سبيل للوقوف خارج الحوار بين أنصار نموذجين إرشاديين والاهتداء إلى حجج «عقلانية» ومعايير برهانية تجريبية تكشف عن صواب صورةٍ ما للعالم وخطأ الأخرى؛ إذ لكي يكون الحوار مجديًا بين طرفين لا بد وأن يدور داخل ذات الإطار بلغته ومفاهيمه. وواقع الحال أننا مع إيماننا بالدور الحاكم للإطار الفكري في الحياة العامة إلا أنه ليس دورًا حاكمًا أبديًّا داخل الحياة العلمية، وليس قدرًا إلا إذا كان ذلك استنادًا إلى أحكام قيمية على نحو ما نجد في ظل الجمود العقائدي الذي يخرجنا من دائرة العلم. وإذا كان الخلاف ينشب داخل المجموعة العلمية إزاء ظواهر معينة تشذ عن الإطار الحاكم، فإنها ظواهر طبيعية أو واقعية ليست مبتدعة ولا مصطنعة، ومصدرها العالم أو الطبيعة؛ ومن ثَم فإنه لا بد — استطرادًا مع نظرية «كون»، ولكن التزامًا بنهج مغاير — أن يكون المرجعُ والحكمُ هنا الإشارة إلى العالم الخارجي، مصدر الظاهرة، وإقامة البرهان التجريبي لحسم الخلاف.
ولكن هذا لا يمنع أن نشاهد في الحياة العامة من يرفض الإقرار بالظاهرة الجديدة، ويستعصي عليه بحثها، ويسعى إلى تطويعها قسرًا لإطار فكري موروث أو قياس انعقد عليه الإجماع، حسب ما يرى «كون»، بيد أن الأمر هنا لا يتعلق بظاهرة طبيعية يختص ببحثها العلم الطبيعي بمنهجه البرهاني التجريبي، بل ظاهرة إنسانية اجتماعية أو ثقافية لها منطق متميز. وهذا لا يعني أيضًا الاحتفاظ بالإطار الفكري أو النموذج الإرشادي القديم له ذات القدر من الصواب والإنتاجية أو الفعالية العلمية بشأن النموذج الإرشادي الجديد .. ذلك أن من شاء أن يظل على إيمانه بأن الأرض مسطحة له حقه في هذا، ولكن اعتقاده لن يكون ندًّا ولا كفؤًا لنظرية كروية الأرض. ثم إن الأمر هنا ليس اعتسافًا، ولا اختيارًا إراديًّا بل رهن بمرجع تحتكم إليه وتدعمه أجهزة البحث التي هي جزء لا يتجزأ من عناصر البرهان التجريبي.
ولهذا نقول إن نظرية «كون» كانت مؤثرة، ولها صداها في مجال العلوم الاجتماعية الثقافية، على عكس الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية. فإن زاوية رؤية الإنسان للعالم من حوله نتاج ثقافي اجتماعي موروث. وتظل هذه الرؤية باقية في جوار مع رؤية علمية مغايرة. وتتألف هذه الرؤية في شمولها من عناصر تضم اللغة وقواعدها ودورها في صياغة صورة العالم وبنيته، ولبنات هذه البنية؛ ولهذا أثار بعض النقاد موضوع العلاقة بين لغة الحياة اليومية ولغة العلم في الحياه وتجاور الاثنين معًا. ويقرر هؤلاء أن إطار ما نشهده في التجربة العلمية يحدده محتوى النظرية، غير أن أبنية الإدراك الأساسية مثل تفسير العالم في ضوء اللغة الطبيعية للحياة اليومية، تتشكل عند المستوى قبل العلمي. فالإنسان العام لا يزال من الوجهة الاجتماعية هو الإنسان بمكوناته الإدراكية ووسائل تعبيره؛ إذ لا يزال يدرك حسيًّا أن الشمس تدور حوله، ولا يزال يقول، وتفرض عليه لغته قول: أشرقت الشمس، وإن كانت لغة العلم وصورة العالم في العلم غير ذلك. وهذا من شأنه أن يثير قضية التواصل بين العلم ولغة العلم والعلماء وبين الحياة اليومية واللغة الطبيعية والإنسان العام أو الحس المشترك .. أو حدود التواصل بين العلمي في الحياة العامة.
وأن أخطر ما وجهه المفكرون من نقد لنظرية «كون» يتعلق بتعريفه للمنهج العلمي ومعاييره الخاصة بالتمييز بين العلم وغير العلم على نحو أوقعه في تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم. ذلك أن «كون» يساوي بين مناهج بحث الأقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت، وعلى الرغم مما يراه انقطاعًا بين النظريات في التاريخ. ومنهج كون هذا يُفضي، كما يرى منتقدوه، إلى نسبية المعرفة. فكل معرفة صحيحة قياسًا إلى نسقها وبالنسبة إلى نموذجها الإرشادي. ويُفضي هذا المنهج أيضًا إلى التهوين من شأن التحليل العقلي كمعيار حاسم في البحث العلمي. وبهذا نفتقد الدليل العقلي الذي نمايز به بين العلم وغير العلم، مثلما نفتقد معايير قياس التقدم العلمي. وما دام الرأي عند «كون» أن نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وأينشتين جميعها نظريات علمية على قدم المساواة، فليس غريبًا أن يظل الباب مفتوحًا، ولو نظريًّا حسب منهج «كون»، لاحتمال عودة نظرية قديمة لتحل محل أخرى جديدة طالما أننا لا نملك المعيار.
ورأى البعض في هذا نوعًا من التشاؤم الأبستمولوجي أو اللاأدرية الأبستمولوجية التي تفضي إلى التشاؤم. فالنظريات جميعًا سواء، ولا أمل أو معيار للتقدم المعرفي للإنسانية. ولا بأس، التزامًا بهذا الرأي أن يستصوب البعض الردة إلى نظريات سابقة.
إن قضية التعارض بين النظريات الجديدة والقديمة، أو الانقطاع بينهما، هي قضية تتعلق بنظرية المعرفة مثلما تتعلق بقضايا منهج البحث العلمي. وهذان هما جوهر العلم الحديث، ومعيار التميز بين ما هو علمي وما هو غير أو قبل علمي، وهما بالتالي أحد معايير التقدم العلمي ومن ثم الحضاري.
إن الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية، قد تكون واحدة عند الأقدمين والمحدثين، والاهتمام بهذه أو تلك قد يكون واحدًا عند هؤلاء وأولئك. ولكن الفارق الجوهري هو فارق معرفي من حيث محتوى المعرفة ومنهج البحث الذي يقره العلم الحديث، والذي يسبغ صفته على الباحث بحكم الالتزام به، وبدونه تسقط عنه صفة العلمية.
ولهذا فإن النظريات التي أشار إليها «كون» عند المقارنة بينها وبين النظريات الحديثة هي، في رأي منتقديه، نظريات غير علمية. والأمر جدًّا مختلف عند الحديث عن نظريات بطليموس وغيره من الأقدمين السابقين على المنهج العلمي الحديث أو عند الحديث عن نظريات علمية حديثة غير كاملة. فالأولى غير علمية تمامًا، والثانية، إذا ما توافرت فيها شروط المنهج، تكون خطوة على الطريق نحو نظرية كاملة تُحدث تغييرًا شاملًا في مجال بحثها؛ أعني ثورة بالمعنى الذي ذكره «توماس كون». معنى هذا أن نمايز بين سعي الإنسان إلى المعرفة، وأن نضع إنجازاته في إطار عصره وسياقه الاجتماعي وبنيته الفكرية، وبين البحث العلمي في عصر المنهج القائم على البرهان التجريبي. وهذا السعي أو البحث مشروع أو ظاهرة اجتماعية متطورة تدريجيًّا على مدى التاريخ، ولها شروطها التي تمايز بين مراحلها.
وماذا عن النظريات التي تثبت صحتها مثل «ميكانيكا نيوتن» ثم حلت محلها نظريات أخرى أكثر نجاحًا «النظرية النسبية وميكانيكا الكم»؟ يقول «لأنساتا كيتا» أستاذ فلسفة العلوم في سيراليون: من الخطأ القول إن نموذج البحث في إحدى النظريتين الأخيرتين حل محل نموذج البحث في النظرية الأولى كبديل عنها؛ إذ يمكن الجمع بين النماذج الثلاثة والفارق هو فارق في المدى والدرجة بمعنى أن ميكانيكا نويتن أكثر دقة من ناحية المسافات والسرعات النهائية.
هذا نزر يسير من اعتراضات كثيرة انصبَّت على كتاب «توماس كون» «بنية الثورات العلمية» وهي اعتراضات لم تهدمه ولكنها اتخذته منطلقًا لإضافات غنية ولأبحاث أكثر ثراء.