الأيديولوجيا والتاريخ البديل
اختلطت الأسطورة بالتاريخ، وصبغت الأيديولوجيا نسيج الحقيقة بلونها، وانتفت الموضوعية والشفافية. ويرى جمهرة الباحثين ما تؤكده سوسيولوجيا المعرفة، وما يؤكده مبحث السيميوطيقا من أن التاريخ نسيج جامع في خيوطه المتشابكة ما بين الذاتي والموضوعي، وأن التدوين التاريخي لذلك يقترب ويبتعد بدرجات متفاوتة عما يمكن إثباته تحت اسم «الحقيقة الموضوعية».
الأيديولوجيا من حيث هي منظومة رمزية تُحدد للباحث ما الذي يُغفله وما الذي يُدركه، وكيف يفهمه ويصوغه في لغة .. الأيديولوجيا هي البارادايم أو النموذج الإرشادي أو الإطار الفكري الذي يصوغ الرؤى الممكنة عن النظام الاجتماعي في خطاب متسق مع نفسه ومفهوم لأصحابه صياغة هادفة .. يرى المرء من خلالها أهدافه/توقعاته/آماله/أفعاله .. ثم ينفثها أو يغرسها في رأس الآخر الخصم ليتبناها وليتوحد معه فكرًا، منسلخًا عن ذاته، ويبقى أسير وعي جديد مفروض عليه قسرًا من طرف له الهيمنة .. والبشر كائنات مستخدمة للرمز/اللغة.
واللغة ليست شفافة؛ فاللغة قناع بقدر ما هي أداة توصيل؛ ولهذا فإن خبرتنا بالواقع والحقيقة الواقعية «الحدث التاريخي» تتم صياغتها بناءً على معنى الأشياء عند المرء، ويتم تأطيرها على أساس المعتقدات والمُثل العُليا والعواطف المشتركة ضمن الوعاء الرمزي الذي نسميه اللغة.
وتأسيسًا على هذا الفهم تستلزم منا المعرفة التاريخية، وفقًا لمبحث سوسيولوجيا المعرفة، دراسة العلاقة بين الفكر والمجتمع، وفهم الظروف الوجودية الاجتماعية للمعلومة، الظروف التي أحاطت بإنتاج وتلقي الأفكار التي صِيغت أيديولوجيا في نسق معرفي هادف .. وهذا هو منهج تأويل الفكر «الهرمينوطيقيا».
وكما يقول كارل مانهايم: «جميع الأفكار بما في ذلك الحقائق وثيقة الصلة متأثرة بالموقف الاجتماعي والتاريخي الذي انبعثت عنه.»
وتحدد أيديولوجيا الباحث؛ أي ثقافته، هدفه من البحث والمعرفة والكلمة المنشورة، وتحدد له اللغة والأسلوب ورؤيته للحدث وللعالم .. والأيديولوجيا بذلك هي القوة الناعمة في إطار الصراع للسيطرة على الأذهان/الرؤية/الفهم/النظر إلى الأمور .. ومن ثم السلوك والفعل .. وتُعيد صياغة الإطار الفكري التاريخي. هذا هو ما يحدث على الصعيد المحلي بين شرائح وتيارات المجتمع، وعلى الصعيد العالمي فيما بين المجتمعات .. الصراع المسلح الذي يتوِّجُه صراع الثقافات؛ ولهذا نقول إن مبحث التاريخ في حد ذاته هو أحد ميادين الصراع الأيديولوجي.
مبحث التاريخ حلبة صراع بين الثقافات: الرؤى والمصالح والسلوك .. والكلمة العليا لصاحب الغلبة، للمنتصر دائمًا .. لهذا يشمل التاريخ على ما نسميه المنفى الفعَّال .. أعني ما حجبته قسرًا قوةُ المنتصر وسلطانه، وإن ظل باقيًا كامنًا كمن يتربَّص إلى حين فرصة تمنحه قوة وقدرة على الظهور مثلما كان في الماضي دون اعتبار للتغيرات، فيكون رِدَّة؛ أو في ثوب جديد ملائم لمقتضيات روح العصر فيكون تطورًا وارتقاءً. ويصدق هذا أكثر ما يصدق على تاريخ مصر المهزومة سياسيًّا منذ ٥٠٠ق.م.
اصطلحت إرادات القوى الغازية على اختلاف مشاربها على طمس الذاتية الثقافية لمصر ووعيها بذاتها التاريخية الذي يُشكل ركيزة جوهرية لتماسك البنية الاجتماعية، ولوحدة الوعي التاريخي؛ واستعادة مبررات قوتها الإقليمية لكي تعقد العزم على الشروع في بناء نهضة جديدة. تاريخ مصر الذي افترى عليه الغزاة، وافترى عليه مصريون أيضًا باسم الأكاديمية الزائفة حينًا، وباسم المقدَّس حينًا آخر، وأصبح منذ احتلال الفرس لمصر ومن جاء بعدهم من الغزاة موضوعًا للتجريم أو التحريم. والأمر في الحالين تعبير عن صراع أيديولوجي يُخفي صراع مصالح، ولا تزال الجريمة ممتدة في حق التاريخ على الرغم من استقلال مصر.
وأذكر قصة «فيثاغورس» كمثال لغرابتها ودلالتها؛ إذ تمثل قصةُ حياة «فيثاغورس» وإنجازاتُه تطبيقًا لهذا النهج في الصراع الأيديولوجي الذي استنَّه الغزاة السابقون وإن تباينت موضوعات الانحياز. وتحول فيثاغورس في سياق تاريخ الفكر الغربي إلى لغز من حيث النشأة الفكرية وتعاليمه ومنهجه، وعرفناه نحن والغرب أنه صاحب رؤية وممارسات حياتية صوفية، وأنه صاحب نظرية رياضية سُميت باسمه، ولكننا لا نعرف من أين استقى علومه .. بل لا نكاد نجد ذكرًا لتاريخه إمعانًا في إخفاء دور مصر العلمي. ويدخل هذا النهج المتواتر ضمن جهود استلاب تاريخ أمة وانتحال ثقافتها، وتزييف دورها العلمي لغرس مشاعر التفوق والهيمنة في نفوس الغازي، وغرس مشاعر الدونية عند أهل مصر لإعاقتهم عن النهوض أو الاعتزاز بذاتيتهم التاريخية .. تعددت سُبل الاستلاب والهدف الواحد.
ونقرر من باب الأمانة أن بعض مفكري الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين بخاصة كانوا أسبق في بذل الجهد لنقد كتابة التاريخ من منظور غربي؛ ومن ثَم رد الاعتبار لمصر ودورها الحضاري. وهذا هو ما حدث بالنسبة لتاريخ العديد من المستعمرات التي انبرى كُتَّابها ومؤرِّخُوها لكتابة تاريخ بلادهم من منظور وطني؛ ليكون التاريخ أرضية صلبة تؤكد وحدة الذاتية القومية والانتماء وتوحيد الجهود للنهضة؛ إذ إن الوعي بالتاريخ يمثل دعامة أساسية بل حيوية لحشد الجهود نحو هدف قومي مشترك.
وجدير بالذكر أنه التزامًا بروح وطنية مؤسَّسة على فكر علمي ظهرت دراساتٌ مصرية عديدة ترد الاعتبار لمصر القديمة. وأوضحت دراسات كثيرة مصرية وغربية أن التفاعل الفكري بين الحضارات، مصرية وبابلية وإغريقية .. إلخ. كان ثراءً وإثراءً للإنسانية جمعاء.
وتكشف دراسات عديدة الآن عن فضل مصر الفرعونية على علم الرياضيات والعمارة والفلك والفكر الفلسفي. ونذكر هنا الدراسة الصادرة عن الجمعية الفلسفية الأمريكية التي أصدرت عدة مجلدات ضخمة وموثَّقة بنصوص فرعونية تحت عنوان «العلم المصري القديم، كتاب مرجعي». نذكر من بينها المجلد الثالث بعنوان: «الرياضيات في مصر القديمة» الصادر عام ١٩٩٩م.
وظهرت أيضًا دراسات أوروبية ومصرية حديثة توضح أن فيثاغورس شخصية حقيقية وفَدَ إلى مصر طالبَ علم مثله مثل طاليس وأفلاطون. والتحق بمعابدها بعد أن اجتاز اختبارات التأهل للالتحاق. ونهل من علمها ومكث عشرين عامًا إلى أن أسرَه الفرس وأرسلوه إلى بابل حيث بقي هناك ١٨ عامًا عاد بعدها شيخًا هرمًا إلى ساموس مهبط رأسه.
وبرزت أسماء علماء وباحثين ومؤسسات أبدوا عناية كبيرة بتراث مصر العلمي في عصر الفراعنة، وهو تراث كان مصيره الإغفال أو الانتحال زمنًا طويلًا.
إن تاريخ مصر حجبته أساطير وأكاذيب كثيرة هي بعض محاولات تزييف متعمَّدة هدفها اصطناع تاريخ بديل. وهدفنا رد اعتبار لتاريخ انسلخنا عنه وصدَّقنا الأسطورة. واستعادة صورتنا الذاتية في بنية تاريخية هو شأننا، وأهل مصر أحق بذلك حين نكون على الطريق لصنع تاريخ حقيقي جديد.