القرن الأمريكي: البداية والنهاية
البداية
أحسب أن القرن الأمريكي بدأ بعد أن أجهز الشمال الصناعي الأمريكي على الجنوب الزراعي فيما عُرف باسم الحرب الأهلية ١٨٦١–١٨٦٥م. انتفض المارد وتطلع في نهم إلى الخارج .. بداية الطريق. ولكن بأي لسان ومن وراء أي قناع يتحدث إلى العالم؟ شأن جميع القوى الطامعة تشرع في غزواتها تحت اسم رسالة جديدة إلى الإنسان والإنسانية. وهنا كان الحديث عن «العالم الحر». وجرت تسمية الهيمنة على الجنوب اسم «تحرير العبيد» والإعلان عن التزام «العالم الحر» الجديد بأن «الناس جميعًا سواسية» على نحو ما أعلن أبراهام لنكولن.
ويمكن القول بعبارة أخرى أن الولايات المتحدة بدأت أولى خطواتها على طريق زعامة العالم، ومن ثمَّ مطلع القرن الأمريكي مع بداية أُفول عصر السلم البريطاني وبداية تخلف بريطانيا أو تراجعها مع بداية الكساد العظيم عام ١٨٧٣م كما أوضح أندريه جوندر فرانك في كتابه «الشرق يصعد ثانية» ترجمة شوقي جلال؛ إذ في هذه الفترة انتزعت ألمانيا وأمريكا الشمالية من بريطانيا موقعها المتميز ومصدر كبريائها. والمعروف أن الولايات المتحدة كانت عام ١٨٦٠م تحتل المركز الرابع من حيث الإنتاج العالمي. وقبل نهاية القرن أو في عام ١٨٩٤م أضحت الدولة الأولى في العالم من حيث حجم الإنتاج.
وتجلت مشاعر الزعامة العالمية أو الطموح إليها على ألسنة الزعماء والمفكرين والأدباء. ويكفي أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت «١٨٥٨–١٩١١م» يصرح عند ضم قناة بنما إلى الولايات المتحدة «إن الولايات المتحدة إذ تضم قناة بنما إليها إنما تأخذ طريقها الصاعد كقوة عظمى» وهو القائل أيضًا: «أمركة العالم قدر ومصير أمتنا.» (انظر، شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، دار مدبولي للنشر.)
وبدأت الولايات المتحدة خلال هذه الحقبة تبحث لنفسها عن فكر جديد يعبر عن أصحاب السيادة في الاقتصاد وفي السياسة وفي المجتمع، ويعبر عن أساليب الحكم وكفالة الأمن والاستقرار لصالحهم، ثم يعبر بعد ذلك عن مضمون الرسالة ذات الحدَّين إلى العالم والتي حملت بعد ذلك العبارة المجازية العصا والجزرة الأمريكيتين.
شهدت الفترة من ١٨٦٠ إلى ١٨٩٠م مراجعة عنيفة لطابع الحياة الأمريكية والتماس فكر جديد. ويعتبر الربع الأخير من القرن اﻟ ١٩ بداية العصر الذهبي للفكر الأمريكي النزَّاع إلى الهيمنة على صعيد عالمي. ظهر مفكرون اقتصاديون من أمثال هنري كاري، وفرنسيس إيه ووكر، وأدوين لورنس جودكين. وأكد هؤلاء مبدأ حرية الإنسان من حيث كونه حيوانًا سياسيًّا واقتصاديًّا، وأن المال معيار القيمة، والهيمنة أو الاحتكار الهدف الأسمى. ونجد من بينهم من عبَّر عن ذلك بقوله: «إذا قلَّت المنافسة هي حياة التجارة فأنت تردد حكمة عفا عليها الزمن.» وساد الولايات المتحدة قولٌ مأثور: «كل ما يحقق الكسب حتى وإن كان النهب فهو موضع تقدير.» ويتسق هذا مع قول ألكسندر هاملتون: «النجاح لا يعرف الأخلاق». وتضخمت مشاعر الذات الأمريكية العنصرية قرينة مشاعر الطمع. ويتجلى هذا في قول السيناتور ألبرت بيفريدج «نحن أنجلو ساكسون، يتعين علينا أن نلتزم بما يفرضه علينا دَمُنا ونحتل أسواقًا جديدة، بل وأراضي جديدة.»
وعبَّر الأدب عن حقبة الصعود إلى منبر الزعامة العالمية. ونقرأ كمثال على لسان الروائي الأمريكي هيرمان ميلفيل «١٨١٩–١٨٩١م»: «نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب .. والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير .. بات لزامًا على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة .. نحن الطليعة ننتقل إلى البرية لنقدم ما لم يقدمه الأوائل ..»
وتشكلت نوادٍ من المفكرين الساعين للوفاء بمتطلبات المرحلة وتقديم أيديولوجيا أو قناع فكري للرسالة الأمريكية إلى العالم. ولعل أبرز هذه النوادي ما عُرف باسم النادي الميتافيزيقي «١٨٧١–١٨٧٤م». ضم النادي عددًا من أهم أعلام الفكر الفلسفي الأمريكي الجديد. نذكر من بينهم أولًا «جون فايسك» المؤرخ الذي عبَّر عن الحلم الأمريكي العظيم في قصة خيالية؛ إذ حدثنا عن رؤيته ورؤياه للمجتمع الأمريكي العظيم الذي يمتد في تواضع من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، بل ويتجاوز هذه الحدود إلى ما بين الأفلاك.
ونذكر أيضًا «شارلس بيرس» الفيلسوف وعالم المنطق بامتياز. ولكن الذي يعنينا هنا دوره في تيسير الأداة الفكرية لهيمنة الدولة، وتبرير كل الأساليب بما في ذلك القهر والتعذيب لكفالة الهيمنة تحت عنوان «تثبيت إرادة الاعتقاد»؛ إذ قال: «إرادة الدولة هي التي تصوغ الاعتقاد لدى الناس وتثبته في الأذهان بما تملكه من قوة وسلطان ..» ثم يقول: «ولنجعل كل من ينبذون الاعتقاد الرسمي الأمريكي يلزمون جانب الصمت في هلع .. ولنُجرِ تحريات وتحقيقات عن طريق تفكير المشتبه فيهم .. ولنوقع عليهم العقوبات .. أو لنبدأ مذبحة عامة لكل من لم يفكر على النحو الذي أرادته الدولة (الأمريكية طبعًا!)» (شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، ص١٢٦). وإذا قلنا الدولة الأمريكية وأبدلنا الناس بالمجتمعات الدولية سوف يتضح المعنى والنزوع إلى الهيمنة.
وأرجو من القارئ أن يتذكر كلمات «بيرس» إذ سنعود إليها عند الإشارة إلى تأزم الفكر والمجتمع والشعور بأن فكر «بيرس» طوق النجاة لدفع الأخطار.
النهاية
ولكن هل انتهى القرن الأمريكي ومتى؟ أم أن العالم بصدد قرن أمريكي ثانٍ على نحو ما يأمل اليمين الأمريكي؟ الإجابة ليست فيما يأمل فيه أو يريده الأمريكيون يمينيين أو يساريين، بيضًا أو سودًا. والإجابة أيضًا ليست فقط فيما يُرجى داخل الولايات المتحدة حصرًا بل وحسب منهج البحث الكوكبي فإننا نسأل عن عاملَين: ماذا يجري داخل أمريكا؟ وماذا يجري في العالم؟ وما هي المؤشرات والمظاهر والوقائع القائمة والمحتملة في ضوء علاقات الصراع أو التناقض؟ إن العوامل المتفاعلة والحاسمة ليست الداخلية فقط بل الكوكبية .. وليدة بنية ووظيفة النطاق الكوكبي ذاته والذي تحاول الولايات المتحدة الآن، باعتبارها القطب الأوحد، أن تستأثر به كقوة فاعلة، حفاظًا على زعامتها. ولكن مثل هذا النهج يصادف هوًى في نفس القوى القائدة ومن ثم يحمِّلها ما فوق طاقتها فيكون الهاوية.
منذ انتصاف القرن العشرين بدت الولايات المتحدة أكثر قلقًا وحديثًا عن «المستقبل» على عكس الحال قبل جيلين. اقترن الحديث ليس بالآمال العراض على نحو ما كان الحال بعد الحرب الأهلية بل اقترن بهواجس ونُذر الخوف على المستقبل. اعتلت الولايات المتحدة ذروة الهيمنة سياسيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا مع نهاية الحرب العالمية. وظهر هنا نقيضها متمثلًا ليس في نهاية عصر الاستعمار الأوروبي فقط بل وفي بداية صعود بلدان الشرق الأقصى في محاولة لاستعادة ثقافتها، حضارتها، ذاتها، مكانتها في التاريخ وعلى الساحة العالمية كقوى إنتاجية فاعلة ومؤثرة. وبدأ الصراع وبدأت معالم الهزيمة مع فيتنام إعلانًا يؤكد انتصار الشعوب؛ ثم صحوة التنين الأكبر-الصين .. وامتدت الصراعات، وتواترت التدخلات العسكرية الأمريكية لإكراه الوضع العالمي على البقاء حيث تريد هي له.
ويمثل هذا امتدادًا وتطويرًا لحديثه عن أسباب صعود وسقوط القوى العظمى في كتابه الذي يحمل هذا العنوان؛ إذ يرى أن الولايات المتحدة في سبيل الالتزام بعقيدة أو عقدة التفوق والاستعلاء والزعامة العالمية وبسط قوتها العسكرية باتساع نطاق يتجاوز كثيرًا قدراتها وطاقتها الاقتصادية. ويقرر أنه إذا زادت الالتزامات الاستراتيجية للدولة عن إمكانياتها الاقتصادية فإنها تأخذ طريقها إلى السقوط والاضمحلال. وإن خروج الولايات المتحدة بكامل قواتها وطاقاتها الحربية إلى أقاصي الأرض والبحار والمحيطات لإخضاع هذا البلد أو ذاك وإلزام الجميع بالطاعة والصمت إنما هو دليل على رفض الخارج لها وتحميلها أعباء اقتصادية تفوق قدرتها على استمرار تحمل عبء الزعامة العالمية.
إن عقدة العظمة والاستعلاء الأمريكية تجعل من الصعب نفسيًّا وعقليًّا قبول الأمريكي العام، ناهيك عن جنس الأبيض المسئول، حقائق التاريخ والتغيير أو قبول أحداث الواقع ومطالبة الآخر بالتكافؤ والمساواة والندية في حق البقاء والتقدم. ويفضي مثل هذا الوضع بالمريض المصاب بحالة البارانويا — أي جنون العظمة — إلى تخطئة العالم-الواقع ومن ثم ترى الولايات المتحدة الآن أن رسالتها تفرض عليها الآن وفي ضوء الأحداث تصحيح الوضع بما يتسق مع عقيدتها أو عُقدَتها. ويتسق هذا مع ما قاله شارلس كروتامير في مقال له بعنوان «قرن أمريكي ثانٍ» في ٢٠ ديسمبر/كانون أول ١٩٩٩م إذ يقول:
إذا كان القرن العشرون هو القرن الأمريكي فإن تسعينيات هذا القرن شهدت تظاهرات استعراضية للقوة الأمريكية الطاغية في الخليج وكوسوفو (ونضيف أفغانستان والعراق وسوريا الآن). وهذه هي قمة تحلل أمريكا. لقد كان الاتحاد السوفيتي قوة عظمى عسكريًّا ولكن قوته لم تحمِه من الانهيار أو التراجع. ومنذ قرنين كانت فرنسا القوة العظمى بقيادة نابليون ولكن تحالفت روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا لهزيمتها. بيد أن الوضع الآن مختلف من حيث عدم وجود عناصر قوية لإقامة تحالف قوي مناهض. فضلًا عن الردع النووي، ولكن هناك تحالف على طريق النمو.
ونحن نرى أن نهاية القرن الأمريكي، وبداية النهاية، تزامنت في منتصف القرن العشرين مع بداية حقبة نهاية الاستعمار، ونشوء ظرف كوني جديد خلق سياقًا عالميًّا مغايرًا. ونلحظ هنا مسار النقيضين معًا؛ بدايات الصعود مع بوادر الانحسار على المستويين المحلي والعالمي، والوعي بذلك أيضًا على المستويين الشعوري وما تحت الشعور وهو ما تجسد في الفكر الأمريكي العالمي.
بدأ هاجس الخوف من المستقبل وعليه من خلال كثرة الحديث عن المستقبل بشأن بريطانيا في سبعينيات القرن اﻟ ١٩، وجاء هذا الحديث المتواتر رد فعل لما يلي، كما استلزم رد فعل مناوئًا من أمريكا:
-
صعود البلدان المستعمرة سابقًا وإصرارها على إحياء ثقافتها وبناء نهضتها وهو ما تعارض مع أطماع وأحلام الولايات المتحدة في وراثة مستعمرات القارة الأوروبية. وخاضت الولايات المتحدة معارك حربية ساخنة أو معارك سياسية ضد الدول أو الشعوب التي أصرَّت على انتزاع حقها واستقلالها مثل فيتنام وكوريا ج. والصين.
-
ثورات الطلاب والشباب واليسار الجديد في الستينيات داخل أوروبا والولايات المتحدة. واتسع نطاق حركات الاحتجاج ضد قهر السلطات والاحتكارات، وضد بطش الآلة وميكانيكية الحياة، وضياع القيم الإنسانية وسقوط الحرية الفردية التي وصفها فلاسفة السلطة آنذاك، ومن بينهم «سكينر»، بأنها وهم. ومن ثم بداية سقوط الحلم الأمريكي أو زوال الغشاوة عن أعين الشباب مع الإحساس بانهيار المُثل العُليا للمجتمع الأمريكي العظيم. الحلم الذي لم يتحقق.
-
ظهور نزعات انفصالية ويسارية وفوضوية وسط الأقليات خاصة السود وكذلك أقليات الهنود الأمريكيين.
-
الحركة العمالية والشبابية في الغرب تتمرد ضد قيادات السلطة التقليدية. وبلغت الحركة ذروتها عندما نشأ في أمريكا تحالف العمل عام ١٩٦٨م الذي يدعم الاتجاهات التقدمية في الحركة العمالية والمطالبة بالتغيير.
-
شباب اليسار الجديد في الولايات المتحدة يصدر بيانًا يتهم فيه نظام وسلطات المجتمع الأمريكي جاء فيه إريك فرم؟ الهرب من الحرية: «نحن نتهم المجتمع الراهن بأنه أسير إطار عقل فاسد شرير. إطار عقل يتسامح من الظلم وبلادة الحس والافتقار إلى الصدق والإنسانية. ونحن نتهم المجتمع مثلما نتهم مشروعات الأعمال والسلطة والحكومية والأوساط الأكاديمية المسئولة بأن ليس لهم جميعًا من هدف أسمى من الحفاظ على الوضع القائم الذي يقصر كثيرًا دون الوعد الأمريكي».
-
بعد الحرب العالمية الثانية، وتولد هاجس الخوف من المستقبل، وإزاء هذه التحولات ظهرت المكارثية والإعدام على الكرسي الكهربائي ضد العلماء والمفكرين ومن تُسول لهم أنفسهم المعارضة.
-
في هذا المناخ منذ الخمسينيات بدأ الشعور في أوساط مفكري السلطة بأن نفوذ الفلسفة البرجماتية تدهور. وهنا تعالت صيحة «العودة إلى بيرس ..» ونذكر هنا رأي بيرس الذي أسلفناه في الكيفية التي تُحكم بها السلطة قبضتها وثُبت عقيدتها بين الناس .. وظهرت اتجاهات تروج لمقولة انتهاء عصر الأيديولوجيا، والمقصود هنا تفريغ الرءوس من الفكر الاجتماعي المناهض.
-
وبعد الحرب العالمية الثانية سطع نجم بورهوس فريدريك سكينر نبي فلسفة التربية وتكنولوجيا السلوك الاجتماعي وخليفة بيرس في تثبيت عقيدة الدولة. ونراه يقدم فكره لرجال السلطة — أو للدولة — ويقول كمثال ما يصدق في رأيه محليًّا وعالميًّا:
-
الأقوى هو الغالب وصاحب الحق والحرية.
-
البقاء للأصلح؛ أي للأقوى .. هذا هو قانون الطبيعة وهي طبيعة حمراء الظلف والناب.
-
ويبشر أو يبرر هيمنة الثقافة الأمريكية إذ يقول: «إذا كان الإنسان قد خرج من الصراع وهو سيد الأنواع، فلماذا لا نتطلع إلى سلالة بشرية تكون سيدة السلالات (طبعًا يقصد هنا الجنس الأبيض الأنجلوساكسوني). وإذا كانت الثقافة تطورت بعملية مماثلة فلماذا لا نتطلع إلى ثقافة سيدة الثقافات؟»
-
ويُصدر كتابًا يوجز عنوانه موقفه وموقعه من الأيديولوجيات المدافعة عن الحريات والكرامة؛ إذ العنوان «بعيدًا عن الحرية والكرامة لأنهما وهم».
ومضت السنون بعد الحرب العالمية الثانية تخللتها بعض الانتصارات السيادية الأمريكية ضد حركات الثقافة المناهضة، وتخللتها استعراضات عضلية عسكرية ضد البلدان العاصية. ولكن لم يحُل هذا دون اعتمال وتخمُّر عوامل سلبية أخرى تنذر بتعقد الأوضاع في نظر السلطات الأمريكية. وأضحت الولايات المتحدة تعاني من مشكلات على الصعيدين المحلي والعالمي. ما بين صراعات اقتصادية وثقافية وسياسية بين أوروبا القارة وبين الولايات المتحدة الأمريكية وما بين منافسة قائمة أو محتملة ومنذرة بين بلدان آسيا (اليابان، الصين، سنغافورة، كوريا الجنوبية، ماليزيا، وغيرها). ونذكر هنا ما قاله وزير الثقافة الفرنسي عام ١٩٩٩م عن الغزو الثقافي الأمريكي إذ وصف ديزني لاند باريس بأنها «مفاعل تشيرنوبل الثقافي». ونذكر أيضًا ما صرحت به مارجريت تاتشر عن احتمالات نمو الاقتصاد الياباني: «إنها لكارثة حقيقية، إذا ما نما الاقتصاد الأمريكي، كما تنبأ له البعض، على نحو أبطأ من الاقتصاد الياباني في التسعينيات؛ إذ سيؤدي هذا إلى تحول الميزان من واشنطن إلى طوكيو.» «بول كينيدي، الإعداد للقرن ٢١ ص٢٩٧».
-
-
بدأت تتجمع عناصر معارضة عالمية مستقبلية للولايات المتحدة من ذلك:
- (أ)
الاتفاقات بين روسيا والصين.
- (ب)
محاولة اليابان والصين إنشاء صندوق نقد دولي موازٍ لصندوق النقد الذي تهيمن عليه أمريكا.
- (جـ)
الاتحاد الأوروبي في ديسمبر ١٩٩٩م أعلن عن تشكيل قوة «الردع السريع» قوامها ٦٠٠٠٠ جندي تحت قيادة أوروبية خالصة. إنها بذرة جيش أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة.
وتراكمت وتفاقمت مشكلات الداخل التي يعددها علماء ومفكرون أمريكيون وأوروبيون من بينهم «بول كينيدي»، و«جون جراي» وغيرهما. بل ونقرؤها بين ثنايا أسطر كلمات «نيوت جنجريتش» اليميني و«صمويل هنتنجتون»؛ إذ يُدين هذان الأخيران التعددية الثقافية التي ستجعل من الولايات المتحدة الأمم المتحدة. وتعيش أمريكا بالفعل حربًا ضد التعددية الثقافية وهي حرب أهلية طويلة المدى.
- (أ)
-
الركود الاقتصادي وشبح البطالة الذي يتهدد أبناء الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل.
-
التفكك الأسري وانخفاض الدخول باطراد كما يوضح جراي وكينيدي.
-
السياسة الضريبية والمالية ستفضي إلى قيام نظام في الولايات المتحدة أساسه الريع والعيش على الكوبونات.
-
انعدام الأمن الاقتصادي؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة، كما يقول جراي، المجتمع النموذجي بل يسودها قلق سيفرز ويبرز عداوات قديمة تمزق المجتمع وتتفاقم معها المخاطر الاقتصادية والشخصية. مثال ذلك:
عام ١٩٦٠ إجمالي العجز الفيدرالي ٥٩٫٦ بليون دولار إجمالي الدين القولي ٩٨٤٫٣ بليون دولار عام ١٩٩١ إجمالي العجز الفيدرالي ٣٠٠ بليون دولار إجمالي الدين القولي ٤ تريليون دولار وفي مطلع القرن الواحد والعشرين أزمات اقتصادية متوالية وعجز مالي أدى إلى شلل الإدارة.
-
إضافة إلى قوة وعمق الحركات الأصولية أو الدينية المتطرفة منذ أوائل القرن العشرين. وتشرذم المجتمع الأمريكي إلى جماعات انتشرت هنا وهناك تتحدث عن الفناء أو الانتساب إلى عقائد قديمة أو أساطير واتجه بعضهم إلى العنف يصفي به حساباته مع المجتمع ويفرغ طاقاته المكبوتة الغاضبة .. وتدفع بعضهم إلى الانتحار الفردي أو الجماعي.
-
مشكلات التعليم؛ إذ تعاني الولايات المتحدة؛ قياسًا لمهام السباق والتنافس على مستوى حضارة العصر، نقصًا في الفنيين والعلماء المتخصصين. ونذكر هنا ما قالته «ماري لاو جود» في خطاب تسلُّمها ميدالية بريستلي عام ١٩٩٧م وتحت عنوان «هل من قرن أمريكي ثانٍ؟» تقول: «نحن اليوم في منافسة ليس فقط مع البلدان الصناعية المتقدمة مثل ألمانيا واليابان، بل وأيضًا مع منافسين جدد مثل الصين وماليزيا وكوريا وبلدان الاتحاد السوفيتي السابق .. والجميع يصارع من أجل حصة في السوق الكوكبية.» (ولنتذكر هنا بين قوسين أن هذه هي منطقة الحرب ضد أفغانستان والعراق وإيران وغيرها والهيمنة الأمريكية الجديدة).
وتضيف قائلة: «يسود المدن الصغرى بوجه خاص إيمان ضعيف بإمكانية الحراك الصاعد. ويتجلى هذا في انتشار العقاقير المخدرة والجريمة والانتحار ونشاهد أيضًا مشكلات كبرى في العلاقات العنصرية بين السلالات وردود أفعال معادية ضد المهاجرين.»
«ونعاني أيضًا أزمة في الأخلاق تغشى جميع قطاعات المجتمع في الصناعة والحكومة والجيش والصحافة والتعليم بل وفي مؤسساتنا الدينية .. وأضحت آداب السلوك سلعة نادرة.»
وتمضي قائلة: «تحتل الولايات المتحدة الآن المرتبة ٢٧ بين بلدان العالم من حيث ملاءمة النظام السياسي للتحديات الاقتصادية الراهنة، والمرتبة ٤٩ من حيث ملاءمة قوانين المسئولية عن المنتج.» ثم تضيف قائلة: «تتمثل أسوأ مظاهر حياتنا الثقافية في نقص القوى العاملة الناجحة. إننا نحتل المرتبة ٣٣ من حيث كفاية المهندسين المؤهلين الأكفاء، والمرتبة ٣٢ من حيث القدرة على جذب المواهب الشابة إلى الهندسة. ومدارسنا ومعاهدنا الهندسية تضم أكثر من ٥٠ بالمائة من هيئات التدريس التي يشغلها أجانب ليسوا مواطنين أمريكيين. وإن أي بلد لن يكون زعيمًا تقانيًّا في الاقتصاد العالمي في القرن ٢١ ما لم يستطع أن يملأ غالبية المقاعد التعليمية بدارسين وباحثين من أبنائه. ويوجد الآن ١٩٠٠٠ وظيفة شاغرة في الثقافة المعلوماتية تبحث عمن يشغلها بسبب نقص العاملين المؤهلين.»
وتستطرد قائلة: «على الرغم من جهود الإصلاح في ضوء تقرير «أمة في خطر» لعام ١٩٨٣م إلا أننا لم نحقق سوى نجاح محدود ووجدنا حواجز لا سبيل إلى تجاوزها. من ذلك أن واحدًا من كل خمسة ممن هم دون الثامنة عشرة من العمر يعيش في كنف أسرة دخلها دون خط الفقر. وتزيد النسبة إلى ٢ من كل خمسة بين الأفارقة وذوي الأصول الإسبانية.»
-
وتواجه الولايات المتحدة مشكلة ديموجرافية «سكانية» آخذة في التفاقم الخطر من وجهة نظر الجنس الأبيض؛ إذ يقرر جون جراي أنه خلال جيل واحد تقريبًا سيكون بين قاطني الولايات المتحدة ما يشبه الأغلبية من الآسيويين والسود وذوي الأصل الإسباني، وستنخفض نسبة البيض غير المنحدرين من أصل إسباني من ٧٣٫١ في المائة من مجموع السكان عام ١٩٩٦م إلى ٥٢٫٨ في المائة.
-
ويقترن بهذا تفاقم الصراع العرقي والثقافي والسياسي والحاجة إلى تغيير هيكل العلاقات وثقافة المجتمع.
-
في مواجهة أخطار التفكك والركود الاقتصادي تلجأ الولايات المتحدة إلى سياسة إيداع مئات الآلاف في السجون، كما يقول جون جراي، كبديل عن الضوابط التي تفرضها المجتمعات المحلية، وهي الضوابط التي قضت عليها «السوق الحرة» المتحررة من الضوابط. ويروي بول كينيدي مقولة معلق تلفزيوني يوجز بها مظاهر الأزمة الاقتصادية فيما يلي:
-
أضعفنا أنفسنا بسبب طريقتنا في ممارسة السياسة وإدارة الاعمال وسياستنا في تعليم الأطفال ورعاية المسنين وادخار أموالنا وحماية بيئتنا وإدارة حكومتنا. والنتيجة:
- (أ)
يمثل استهلاك العقاقير المخدرة في الولايات المتحدة أعلى نسبة بالقياس إلى أي بلد من بلدان العالم المتقدم.
- (ب)
ارتفاع نسبة الجريمة والجريمة المسلحة بصورة مذهلة ٦٠ مليون مسدس في أيدي الناس، ١٢٠ مليون بندقية، و١٩٠٠٠ قتيل بالسلاح سنويًّا.
- (جـ)
معدل الانتحار يعادل خمس مرات مثيله في بلدان الغرب.
ويذكر جون جراي في كتابه الفجر الكاذب أنه:
حتى عام ١٩٩٣م كان معدل القتل بين الذكور في الولايات المتحدة ١٢٫٤ في كل مائة ألف مقابل ١٫٦ في الاتحاد الأوروبي وأقل من واحد صحيح في اليابان، الاغتصاب ١٫٥ من كل مائة ألف في اليابان مقابل ٤٢٫٨ في الولايات المتحدة. السرقة ١٫٧٥ من كل مائة ألف في اليابان مقابل ٥٥٫٨ في الولايات المتحدة. السجناء حوالي ٢ مليون، وثلاثة أمثال هذا العدد تحت المراقبة والاشتباه.
وأن أكثر من ١٠٠٠ من بين كل ١٠٠٠٠٠ من السود الذكور داخل السجون.
وبحلول عام ١٩٩٧م كان هناك واحد من بين كل خمسين أمريكيًّا بالغًا محتجز وراء القضبان، وواحد من كل عشرين تحت المراقبة، وواحد من كل سبعة من الرجال السود أودع يومًا السجن.
ويعلق جون جراي قائلًا:
يحدث هذا بينما ينسحب أثرياء الامريكيين إلى مواقع وساحات ذات أسوار وبوابات إلكترونية وحراسات خاصة. وهكذا تحولت النخبة إلى جماعات مغلقة على ذاتها ومنعزلة محاطة بالأسوار مما جعل الولايات المتحدة دولة أشد انقسامًا بكثير من بلدان أمريكا اللاتينية.
ولكن ماذا يعني نهاية القرن الأمريكي في ضوء ما سبق: الانهيار أم الانحسار؟ وما الذي نريده للولايات المتحدة الأمريكية وما نريده منها في سياق عالمي شبكي؟ أو كيف ستحل التناقض أو أزمة التناقض بين محاولات بسط قواتها العسكرية على امتداد الكرة الأرضية لفرض زعامتها قسرًا في عالم متغير وبين ما يشكله هذا من عبء اقتصادي يفوق طاقتها وعاجزة عن استمرار تمويله مما يسبب لها أزمة ضارية في الداخل؟
هذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه الولايات المتحدة والجنس الأنجلوساكسوني الحاكم .. الاعتراف بالواقع والتخلي عن الأيديولوجية العنصرية وعن عقدة الاستعلاء ووهم الزعامة الأبدية ضمانًا للتكيف مع الظرف الكوني الجديد واطراد البقاء الفاعل. وهنا لن يكون مصير الولايات المتحدة مثل مصير روما التي انهارت، بل سيكون شأن بريطانيا التي انحسر سلطانها وظلت مجتمعًا متقدمًا فاعلًا ومؤثرًا ومنتجًا للعلم والثقافة شأن فرنسا وألمانيا واليابان .. أطراف على مستوى الندية والكفاءة. إننا نريد الولايات المتحدة أرض الإنجازات العلمية وليست موطن الصراعات العرقية أو منصة الانطلاق العدواني ضد شعوب وبلدان اخرى.
إن إنقاذ الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين يتمثل في أن تصبح أمة أمريكية جديدة من حيث العلاقات الندية والكفؤ بينها وبين الدول تأسيسًا على تنوير جديد يتجاوز السوق الحرة العالمية المتحررة من الضوابط لصالح الشركات العملاقة وعلى حساب شعوب أخرى. ويتمثل أيضًا في توفير مئات البلايين من الدولارات التي تشكل عبء تكاليف قواتها المسلحة فيما وراء البحار لضمان وهم الزعامة وعلى حساب رفاهة الشعب الأمريكي. ومن ثم نريد تخصيص هذه الموارد للداخل ولتعزيز القدرة التنافسية في العالم والثقافة ورفع مستوى المعيشة. ويتمثل أيضًا في النهوض بالتعليم وهو فضية محورية تشغل المفكرين الأمريكيين وتعثرت الجهود لحلها. ونريد للولايات المتحدة أن تكون بحقٍّ أمةً ديمقراطية حرة متعددة الأعراق والثقافات وكذا في علاقاتها بين الدول، وليست كما يريد لها نيوت جنجريتش أو صمويل هنتنجتون وأمثالها. ونريد منا رؤية مغايرة للذات وللعالم والإنسانية وبدلًا من أن نرى الأمريكي المتوسط يعرف أن خارطة أمريكا الشمالية هي العالم وما عداها البقية أو الآخر يعرف أن العالم كرة مستديرة متماثلة. وبدلًا من أن يتعلم الجنس الأبيض أنه هو الحضارة والعقل والإبداع، يعرف على أساس علمي تاريخ الحضارات وتنوعها وتفاعلها وأسباب تعثرها واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان كخطيئة كبرى. نريد فكرًا جديدًا يؤكد ما هو مشترك بين الإنسانية، وفلسفة ذات وجه إنساني ونزوع نقدي ويؤكد الإرادة الجمعية، وأن المنفعة حق للإنسانية الفاعلة وليس لجنس أو عرْف أو لون دون آخر. مواطنة كوكبية في عصر العولمة على أساس الفعل الاجتماعي النشط والشعور بالآخر وبحقه في التقدم .. هنا ستكون الولايات المتحدة قوة متقدمة بفضل رصيدها من إنجازات علمية وتقانية وستكون قوة قادرة على التفاعل مع القوى العريضة للتغيير العالمي. وهنا أيضًا سيكون العصر ليس عصر السلم الأمريكي بل السلم الإنساني الكوكبي، عصر متعدد الأقطاب في إطار محيط العقلانية.
- (أ)