دماء في ميدان التحرير
إنها مدينة القاهرة، تبدو للعين الكليلة مساحة لا متناهية من شيءٍ يُشبه الأسمنت له لون الرماد، يشقُّها مجرًى رفيعٌ رمادي يتلوى تحت كتل الأسمنت على جانبَيْه، يعلوها دخانٌ وبخار وقتام ورمال، وغبارٌ يهب ويتجمَّع من فوقها على شاكلة سحابةٍ سوداء، إنه الشتاء أيضًا والشهور والليالي التي يهب فيها الناس من النعاس ويُراق فيها الدم.
جلست فوق حجرٍ بجوار خيمتها، كانت تلهث قليلًا، الزحام شديد، لا مكان لقدم، الملايين من المتظاهرين خرجوا إلى الشوارع والميادين، الهتاف يدوِّي: يسقط النظام.
خلعت شالها الصوفي الأخضر من حول كتفيها، فرشَتْه فوق الحجر لتجلسها، كانت تجاهد للوقوف، تشد عضلاتها، تقاوم الانحناء، يعود قوامها إلى وضعه المستقيم، عظام ظهرها قوية متينة، لها قوة أربعين رجلًا وعشرين حصانًا، كما كانوا يقولون عنها، لكنها لم تَعُد شابة، وليست كهلة، كلمة عجوز لا تنطبق عليها، لا أحد يعرف عمرها.
منذ العاشرة صباحًا حتى الثانية بعد الظهر كانت تمشي في جوارها وسط الصفوف، خمس ساعات وأكثر، من الجنوب إلى الشمال، فوق الكباري القديمة والجديدة التي تجتاز النيل، كوبري الجيزة، كوبري الجامعة، كوبري الجلاء، كوبري قصر النيل، كوبري ٦ أكتوبر، الزحام شديد فوق الكباري وفي الشوارع، في المدن والقرى، في كل المحافظات، الملايين من المتظاهرين يهتفون: يسقط النظام. فوق الحجر الذي وضعت عليه شالها الصوفي الأخضر أجلستها، لم يعد البريق في عينَيْها كما كان، بصرها لا يزال قويًّا حادًّا، كانت ترى من بعيدٍ مثل زرقاء اليمامة، البؤبؤ الأسود كبيرٌ لونه كلون الليل، لم تورثني سواد عينيها ولا بشرتها السمراء، ورثت بشرتي البيضاء من أبي، ولون عينيَّ من عينَيْه الخضراوين، وقصر نظري من قصر نظره أيضًا الذي يسمونه «مايوبيا»، وقد كان أبي يضع نظارةً طبية منذ طفولته، خلعت نظارتي بعد اكتشاف العدسات اللاصقة، عيناي خضراوان لونهما لون الزرع، تلمعان في مرآة حقيبتي، كعيون القِطَطَة، كان أبي يُسمِّيني القطة المتوحشة، لاحظت أنها تلهث وريقها جاف، وقد لاحظت حالتها قبل أن تلحظها هي، أخرجت من حقيبتها زجاجة ماء معدنية صغيرة، ناولتها إياها إذ كان معها سندويتش جبنة بيضاء مع شرائح صغيرة من الطماطم، التهمتها بشهية الأطفال وشربت الماء كمسافرٍ جفَّ حلقه في الصحراء، قالت رافعة وجهها نحوها: «تعيشي لنا يا أمي.» أشرق وجهها بالابتسام، خلعت الشال الأخضر، والبلوفر الصوفي السميك، بسطَت ذراعَيْها الطويلتَيْن كالجناحَيْن، وصفقت في الهواء كما كانت تفعل وهي طفلة منذ العاشرة من عمرها، أترى هذه اللحظة في الحلم؟ هؤلاء الملايين، النساء، الشباب، الشابَّات، الرجال، الأطفال، العجائز، هذه الوجوه من كل الأعمار والأشكال والبقاع، ملايين، الملايين تملأ الشوارع والميادين، أصواتهم تدوِّي في صوتٍ واحد، يهز عرش الأرض والسماء بكلمتَيْن اثنتَيْن: يسقط النظام! تلاشت خطوط الزمن فوق جبينها، انقشعَت السحابة والتعب، عاد البريق إلى عينَيْها، ألقت البلوفر والشال وحقيبة يدها إلى الأرض، وانطلقَت وسط الملايين تهتف معهم: يسقط النظام. الكلمتان تخرجان من بين شفتَيْها مع الشهيق والزفير، كأنما في السماء آذانٌ تلتقط الصوت، وآذان الأرض أيضًا في جهاز أمن الدولة، ينشق الكون عن عساكر جيش وبوليس ملابسهم عادية، بعضهم بالجلابيب والشوارب واللحى الطويلة، يحملون البنادق والسياط والنبال، هجموا على ميدان التحرير، داسوا الناس بالحوافر والعجلات، أطلقوا النيران والغازات، ارتفع الغبار في السماء مع الدخان وكرات من النار، زجاجة الماء تطير من يدها، هي نفسها تطير مع الزجاجة وتسقط على الأرض فبدت لها دماء حمراء.
دماء أمها تنزف فوق الأسفلت في ميدان التحرير أمام عينَيْها، كما نزفت فوق الأسفلت في السجن، أحاطَتْها بالشال الصوف الأخضر، البلوفر الأزرق أصبح لونه كلون التراب، قميصها الأبيض يغرق في الدم، حملوها إلى الخيمة، غطوها بالبطانية الصوف، تضاعفت الملايين، طافت التظاهرات في الشوارع والميادين، الهتاف يدوِّي: يسقط النظام. في وسط الصفوف كانت تمشي منذ دقائق، كان يبدو عليها الإعياء، لكنها تمشي، تمد عنقها إلى الأمام وتمشي، ترفع ظهرها وتمشي، أخذتها أمس إلى دورة المياه، دخلتا من الباب الخلفي للميدان، كان زحام من كائناتٍ تختفي كلٌّ منهن تحت خيمةٍ سوداء، واقفات في بركة مياه تتسرَّب من تحت أبواب المراحيض، ناولَتْها إحداهن منديل ورق وقالت: ليه راسكم عريانة؟
ردَّت: ليه راسكم اختفَت؟
انتفضَت خيمة سوداء وخطفت منديل الورق من يدها، حاولت منعهما من الدخول لكنها دفعَتْها بيدها القوية، فسحت في الطريق لأمها كان الزحام شديدًا، بعض المراحيض معطلة طافحة المجاري، غاص حذاؤها في المياه، برازٌ يطفو على السطح، امرأة تغسل يدَيْها من كوز صفيح، الرائحة غير محتملة، همسَت أمها: أرجوكِ لنخرج من هنا. رمقتهما النساء المتنقبات بعيونٍ غاضبة.
بصقَت واحدةٌ ناحيتهما وصاحَت: كلكم في الجحيم والثعبان الأقرع يضربكم بذيله في أعماق قبوركم. قالَت لها: أنتم الجحيم فوق الأرض. رجالٌ من ذوي اللحى الطويلة كانوا عند المدخل، يرتدون جلابيب بيضاء متسخة بالطين والتراب، يشمِّرونها حتى الركب، يحمل كلٌّ منهم خيزرانة ومطواة من قرن الغزال مختفية في جيب سرواله، تتركز عليهما الأضواء، اقترب أحدهم منها ولسعها فوق ظهرها بالخيزرانة، شدَّت منه العصا وضربَتْه على ظهره، انضم إليه رجلٌ آخر يتحرَّش بها، نزعَت أمها العصا من يده وانهالَت عليه ضربًا، لم تكن ضرباتها قوية، ابنتها في ريعان الشباب، تقدَّم أربعة رجال نحوها ينزعون عنها ثيابها، تمتد أياديهم بين نهدَيْها وساقَيْها، انقضَّت الأم عليهم كالجبل يسقط فوقهم، استعادَت قوتها القديمة، ماردٌ نائم في أعماقها لا يصحو إلا عند الخطر، أنقذَت ابنتها من بين أيديهم، والهتاف يدوِّي: يسقط النظام. جلسَت تحت خيمتها في الميدان حين هبط الظلام، كان لها خيمةٌ من قماشٍ أزرق هو قلع مركب، يلجأ إليها الشباب والشابات للراحة بعد التعب، يتناولون شيئًا من الطعام أو الماء، يجلسون ويتحدثون حتى الفجر، كان منهم جلال أسعد وفؤادة وسعدية وهنادي وداليا وحميدة وبدرية البحراوي، ينصرفون إلى بيوتهم قبل هجمات البوليس، وقد يبيتون في الخيمة أيام الاعتصامات مع أمهات الشهداء والشهيدات، قُتل الآلاف بالرصاص الحي أو الغازات أو التعذيب، لم تعثر الابنة على جثة أمها، ولم تعثر الأم على ابنتها، كانت الجثث تختلط بعضها ببعض، تتلاشى الفروق بين البشر، يساوي الموت بينهم، تهمس في الليل أصوات مبحوحة: لو أشوف ابني بين الجثث؟ مش عارفة عايش والا ميت؟ لو أشوف أمي بعيني في المشرحة يمكن النار في قلبي تبرد!
مش عارفة جثة بنتي راحت فين؟
في مشرحة زينهم الزحام شديد، الموتى أكثر من الأحياء، يدخل رجلٌ يرتدي ملابس عسكرية، ينحني له الدكتور المدير، يناوله ورقةً رسمية ويخرج مسرعًا، رائحة الموت نفَّاذة، فوق منضدةٍ جثة يشرِّحها طبيب، ملامح الميت تُشبه ملامح الطبيب، يدخل رجلٌ يرتدي بذلة مكوية أنيقة ومن حوله حرس ينادونه سعادة الباشا، أحدهم يدسُّ في يد الطبيب ورقة من مائة جنيه، تسري حمرة خفيفة في الوجه الخالي من الدم، يتقاضى الطبيب ٩ جنيهات لتشريح الجثة الواحدة حسب اللائحة، ويتقاضى مساعده ١٢٥ قرشًا، تقدَّمت الأم بظهرها المنحني من الممرض متوسلة إليه: فين بنتي؟
لم يكن في جيبها إلا ثلاثة جنيهات، دفعها الممرض بيده القوية خارج المشرحة، ممنوع الدخول هنا، مفهوم؟ لكن الابنة الشابة دفعت الممرض بيدها القوية ودخلت إلى المشرحة تزعق: يا لصوص، يا مرتشين، يا مزوري التقارير. وكان الممرض أيضًا يبيع الجثة لطلبة كليات الطب بالقطعة، يتقاسم المدير والطبيب والممرض الدخل اليومي كلٌّ حسب درجته في الكادر الحكومي.