كاتبة فقط
جلست كوكب وراء مكتبها تنتظر دخول فؤادة، انتزعت من الأستاذ الموافقة على تعيينها في المجلة، تتأمل الغرفة الواسعة الفاخرة، المكتب، المكتبة، أصص الزرع الأخضر في الأركان، السجاجيد، النجفة الكريستال تتدلَّى من السقف، دخلت فؤادة بقامتها الطويلة الممشوقة، رأسها شامخٌ كأنما لم تعرف الألم والهوان، جلسَت في مقعدها تنظر إلى كوكب بتلك التحديقة، لم يتغير شيء فيها، ينقبض قلب كوكب، يثقل ويغوص في أحشائها، لا تتصوري يا فؤادة فرحتي، قرار تعيينكِ يصدر اليوم أو غدًا ستكونين معنا في المجلة، أتوافقين؟
– أوافق بشرط يا كوكب.
– بشرط إيه؟
– شرط أن أكتب ما أريد، لا أحد يتدخل في عملي، سأكون كاتبة فقط، لا علاقة لي بتحرير المجلة أو إدارتها، أتوافقين؟
– أوافق.
بدا السرور على وجه كوكب.
– ستُحبين العمل معي يا فؤادة.
شعرت كوكب بلذةٍ وهي تقول: «معي» وتعني تحت رئاستي، ثم قالت: المؤسسة أكبر المؤسسات في الشرق الأوسط، ومجلتنا الأولى في مصر والعالم العربي، ده مكانك يا فؤادة، مش مع بدرية البحراوي.
– بدرية البحراوي أعظم كاتبة لا أسمح لك.
– متأسفة يا فؤادة، مش قصدي حاجة.
دق جرس التلفون، انشغلت كوكب في المحادثة.
استغرقت فؤادة في تأمل اللوحات على الجدران، صور رئيسات التحرير السابقات للمجلة، رئيس الدولة أو الوزير يقدم لإحداهن الجائزة التقديرية، صورة كوكب في آخر الطابور، أنهت كوكب المكالمة التلفونية، اتجهت نحو فؤادة: نحتفل بالتعيين الجديد؟ إيه رأيك ناخد درينك سوا؟ عندهم هنا في الكافيتيريا نبيذ أحمر عمر الخيام؟
– شكرًا يا كوكب، ليس لدي وقت.
تحركت الغصة في حلق كوكب، ابتلعت لعابًا لا يخلو من مرارة، لم تتوقع أن تقبل فؤادة العمل معها أو تحت رئاستها، أما وقد قبلت فهذا يثلج صدرها إلى حدٍّ ما، والأفضل أن تتركها تمضي قبل أن تتراجع وترفض، لكن شيئًا غامضًا خارج إرادتها يجعلها تستمر في الكلام، تعالي ناخد كاس نبيذ والا النبيذ حرام؟
– مش حرام طبعًا لكن عندي شغل.
– فيه حاجات أهم من الشغل.
– زي إيه يا كوكب؟
– حاجات إنسانية.
– إنسانية؟
قصدي يا فؤادة أنك ترفهي عن نفسك شوية، إنتي أخلاقية أوي، إنتي جادة زيادة عن اللزوم، الحياة مش كلها شغل، الترفيه مهم والاسترخاء، ابتسمت فؤادة، كانت جالسة في مقعدها مسترخية، أنا في حالة استرخاء يا كوكب أعرف، لكن ليه ترفضي دعوتي؟
– أقبلها ليه؟ لأي سبب يا كوكب؟
هل كل شيء عندك له سبب يا فؤادة؟ ألا تفعلين شيئًا بدون سبب؟ لمجرد الترفيه أو التسلية مثل غيرك من الناس، حياتك وشخصيتك وكلامك كله جد، كل حاجة عندك مهمة، كل دقيقة من وقتك مهمة، حتى وأنتِ قاعدة ساكتة في الكرسي، ألا يمكن أن تكوني غير مهمة مرة واحدة في حياتك.
– لأ.
– ألا تشعرين بالتعب من مناطحة القدر، من حكاية البطولة دي؟
– بطولة إيه؟
ماعرفش يا فؤادة، يمكن لم تقومي بعملٍ بطولي لكن شكلك وكلامك وطريقتك وشخصيتك كلها توحي للناس بالبطولة، لا أفهمك يا كوكب، يمكن كلمة البطولة غلط يا فؤادة، قصدي إنك مختلفة عن كل الناس، كأنك تضعين نفسك في جانب والعالم كله في الجانب الآخر، أنا أختلف معك يا فؤادة، لا أريد أن أغرد خارج السرب، أريد الانتماء إلى هذا العالم، إنه مليءٌ بالأشياء الجميلة، ليست الحياة كلها حربًا وقتالًا.
– قتال إيه يا كوكب؟
– أيوه قتال، أنت تقاتلين العالم يا فؤادة، قد ترتكبين جريمة قتل لتكتبي ما تريدين.
ماذا يضايقك في طريقتي يا كوكب إذا كنت راضية عن طريقتك؟
سكتت كوكب لا تعرف الرد، ثم سألت: ليه بتكرهيني يا فؤادة؟
– أنا مش باكرهك يا كوكب.
– طيب ليه مش بتكرهيني؟
– وليه أكرهك يا كوكب؟
يبدو الحوار بينهما غريبًا مضحكًا، تريد كوكب أن تتوقف عن الحديث وتتركها تمضي، لكنها لا تستطيع، شيء في داخلها يدفعها إلى الاستمرار.
– أعرف يا فؤادة أنكِ لا تحبينني لأنكِ لا تحبين ولا تكرهين أي أحد.
– مش فاهمة يا كوكب!
– أنت لا تشعرين بوجود أحد، إلا …
– إلا إيه؟
– إلا أنت.
– غير صحيح.
– ما هو الصحيح إذن؟
– لا شيء يا كوكب، أظن أنكِ تشعرين بالإرهاق والأفضل أن تستريحي قليلًا.
– سأراكِ الإثنين المقبل يا فؤادة.
– إلى اللقاء يا كوكب.
عندي سؤال أخير: إنتي بتشوفي حميدة؟
– أحيانًا.
– كانت زميلتي في المدرسة.
– أيوه عارفة يا كوكب.
– وكانت بليدة وبتسقط في الامتحانات.
– ما فيش علاقة بين البلادة والسقوط في الامتحانات.
– إزاي ده؟
– بعدين نتكلم إلى اللقاء يا كوكب.
كان شاكر يقود سيارته الخاصة بنفسه، أكبر من سيارة زوجته ومن طرازٍ أحدث، يميل شاكر إلى السيارات الكبيرة الحديثة، بخلاف زوجته، كان عائدًا إلى بيته حين لاحظ في المرآة سيارة زرقاء تتبعه، يضع السائق نظارةً سوداء، في جواره رجلٌ يضع كاسكيت يخفي نصف وجهه الأعلى، انحرف إلى شارعٍ صغير متفرع من شارع التحرير، تبعته السيارة الزرقاء، أيقن أنه مراقبٌ والأفضل ألَّا يتوقف عند البيت، فوق المقعد في جواره كانت حقيبته الجلدية السوداء منتفخة بالأوراق والصحف والمجلات، ومنشورات الحزب السرية وكان عنده موعدٌ مهم لم يسجله في مفكرته الصغيرة خوفًا من أن تقع في يد زوجته، لم تكن فؤادة تراقبه أو تشك فيه، منحته ثقةً كاملة وكانت هي مشغولة بالكتابة، لا تكاد ترفع وجهها عن المكتب، تعوَّد شاكر منذ طفولته إخفاء أشياء عن الآخرين، كانت له حياته التي لا يمكن البوح بها، منها العادة السرية في المراهقة، في مكتبها كانت فؤادة جالسة مستغرقة في الكتابة، حين دخلَت كوكب حاملة بعض الأوراق وضعتها فوق المكتب، وقالت: فؤادة ممكن تراجعي المقال ده، أنا كتبته بسرعة، لازم يروح المطبعة خلال ساعة، عندي اجتماع دلوقتي مع الريس. خرجت كوكب بسرعة قبل أن تنتبه فؤادة، قبل أن تحدق إليها، قبل أن ترى هل غضبت أم لم تغضب، وهل جرحت كرامتها؟
لكن فؤادة راجعت المقال، كان ركيكًا حافلًا بالأخطاء، صححته قدر الإمكان وأرسلته إلى المطبعة، بعد أيامٍ قليلة، دق جرس التلفون في مكتب فؤادة، جاءها صوت سكرتيرة كوكب، يا أستاذة فؤادة، سعادة رئيسة التحرير تطلب حضورك إلى مكتبها حالًا. تذهب فؤادة وتستمع إلى ما تقوله كوكب رئيسة التحرير، تشكرها على تصحيح المقال ثم تعطيها مقالًا آخر لتصححه أيضًا، في البداية تخوفت كوكب، هل فؤادة تغضب؟ لكن فؤادة تأخذ المقال وتراجعه وترسله إلى المطبعة، تشجعت كوكب وبدأت تعطي أوامرها لفؤادة، تشعر بلذةٍ غامضة ترتعش لها جوارحها وهي تعطيها أمرًا، تتوقع غضبها، تتمنى أن تجرح شموخها، أن تخدش كرامتها أي خدش وإن كان طفيفًا، لكن فؤادة لا يظهر عليها أي غضبٍ أو ضيق، تواصل تصحيح المقالات الركيكة وترسلها إلى المطبعة، تصورت كوكب أنها تكتم الغضب وسوف تنفجر يومًا ما، لكن الأيام مرت، ستة شهور مرت، دون أن تفقد فؤادة هدوءها، كلما ازدادت هدوءًا ازداد غضب كوكب وكادت تنفجر.
كانت فؤادة قد بدأت تكتب روايةً طويلة، تستغرق النهار والليل، في المكتب والبيت والشارع، تمشي كالنائمة مستغرقة في الرواية لا ترى أحدًا، تخطو بحذرٍ فوق الرصيف خشية الاصطدام بشيء، لا تحس بشيءٍ خارج الرواية، إن قامت القيامة وسقط النظام، إن اشتعلت المؤسسة بالنار، أو سقطت السماء على الأرض، أو مات الناس فهي منصرفة إلى الكتابة لا تدري بشيءٍ، يدق جرس التلفون وهي تكتب، يأتيها صوت كوكب أو أي صوت كأنما من كونٍ آخر، تقول: أيوه، نعم، حاضر. كمن تتكلم في النوم، ثم تضع السماعة وهي مغمضة، لا تصحو إلا وهي تكتب، لا تنتبه لشيءٍ إلا ما يدور في الرواية.
كان مكتب فؤادة في الدور فوق المطبعة، تسمع أزيز ماكينات الطباعة وهي جالسة في مقعدها، كان الصوت يضايقها مثل الأصوات الأخرى التي تضج بها المدينة، أبواق السيارات، صفارات سيارات الحريق والإسعاف، والبوليس، الميكروفونات فوق المآذن والمباني، تذيع الصلوات والتكبيرات أو الغناء والرقص.
كانت تسد أذنيها بقطعٍ من القطن أو المطاط، وتغلق النافذة بإحكام.
كل هذه الأصوات لم تعد تسمعها، كأنما تموت حواسها كلها وهي تكتب إلا حاسة واحدة؟
شيءٌ غريب يحدث لها وهي تكتب، يموت فيها كل شيء ليصحو شيء جديد لم تعرفه البتة، أو قديم جدًّا عرفته منذ الطفولة، يختفي أزيز المطبعة إلا همس خافت، مثل حفيف نسمة هواء، أو موسيقى ناعمة تدغدغ مشاعرها، تصحو ذاكرتها النائمة منذ بدأت تتعلم الحروف، تنقضي الساعات وهي تكتب، لا يوقظها إلا جرس التلفون، صوت كوكب، أو حميدة العاملة في المطبعة، يسألها عن شيءٍ في المقال المصحح، كانت حميدة قد عرفت خط فؤادة، وعرفت أنها تصحِّح مقال رئيسة التحرير، رأتها في مدخل المبنى فتوقفت.
– الأستاذة فؤادة؟
– أيوه.
– أنا حميدة في المطبعة.
– أهلًا يا حميدة.
– عندي بن برازيلي محوج.
– محوج؟
– تشربي معايا فنجان قهوة؟
– طبعًا يا حميدة.