حميدة
لم تستطع فؤادة رفض دعوتها، كانت ترفض دعوات الآخرين في المؤسسة من الصحفيين والكتاب والكاتبات، وجدت نفسها تسير وراء حميدة، تهبط معها السلم دورين إلى المطبعة، تجلس معها في الكافيتيريا الصغيرة الخاصة بعمال المؤسسة، تراقبها وهي تضع الماء على النار في كنكةٍ صغيرة، تغسل فنجانين بالماء والصابون لونهما أبيض وحوافهما ذهبية، تغسل الملعقة الصغيرة، تجففها جيدًا بفوطةٍ بيضاء نظيفة، تخرج برطمان البن من حقيبتها الكبيرة المصنوعة من قماش قلع المركب، ملفوفًا في فوطةٍ زرقاء ذات مربعات بيضاء، تفوح رائحة البن المحوج وهي تفتحه، تضع في الكنكة ثلاث ملاعق، تقلبها مرة أو مرتَيْن، بعد دقيقةٍ أو دقيقتَيْن ترفع الكنكة قبل أن تفور القهوة على النار، تجلس حميدة أمامها وبينهما منضدة ذات سطح مصقول من الفرومايكا، ترشف فؤادة القهوة، يلتهب طرف لسانها بألمٍ لذيذ، مع الشهيق العميق تملأ رئتَيْها بالنكهة القوية، تذكرها رائحة البن بأمها وجدتها، تنطلق منها ضحكة طفولية، باحب ريحة البن المحوج!
عينا حميدة سوداوان واسعتان تثبتهما في العينَيْن أمامها، شيءٌ في هاتين العينين يشدها إلى شيءٍ آخر في أعماقها لا تعرفه. كان نفسي أطلع لمكتبك من شهرين يا أستاذة فؤادة. بلاش أستاذة دي. كان نفسي أكلمك يا فؤادة. تكلميني؟
– أيوه.
– كنت مترددة.
– ليه يا حميدة؟
– أنا عاملة مطبعة وإنت كاتبة مهمة.
– أنا موظفة هنا في المؤسسة زيك تمام.
– قريت لك قصة من شهرين لا يمكن أنساها.
اتسعت عينا فؤادة بدهشة.
تواصل حميدة الحديث وهي ترشف القهوة، تحدق إليها فؤادة من دون حركة، فنجان قهوتها فوق المنضدة يبرد، كنت على وشك الانتحار بعد تجربةٍ مؤلمة، بالضبط مثل بطلة قصتك، كنت في الواحدة والعشرين، أكبر منها بسنتين، تعلمت منها أن الألم يمكن أن يقتلني، ويمكن أن يخلقني من جديد، قررت تغيير حياتي. كانت حميدة جالسة، في ثوب العمل الأزرق المبقع بحبر المطبعة، أصابع يدها اليسرى تضم فنجان القهوة، يدها اليمنى بأصابعها الطويلة النحيفة فوق المنضدة، تعلوها رعشة خفيفة غير مرئية، مدت فؤادة ذراعها فوق المنضدة لتمسك يدها بيدها، كنت حامل في شهرين، رحت عيادة دكتورة، حكيت لها كل حاجة، عملت لي العملية في ساعة ونص ساعة، رفضت تاخد مني أي فلوس، خرجت من عيادتها أجري في الشارع عاوزة أطير من الفرح، حسيت أن الدنيا حلوة وفيها إنسانة حلوة لها قلبٌ كبير، فرحت بيها زي ما فرحت بيكي هنا في المؤسسة. إنتي بتكتبي يا حميدة؟
ضحكت حميدة.
– أكتب؟
– أيوه.
– باكتب كتابات الناس ع الكومبيوتر يا فؤادة، بيدفعوا لي بالكلمة، الماهية يدوب أسدد بيها الإيجار.
– وكتاباتك إنتي يا حميدة؟
تتنهد حميدة.
– آه! كتاباتي أنا؟ كانت زمان لما كان عندي جهد ووقت. الكتابة بتفرض نفسها يا حميدة، أيوه لكن يا أستاذة فؤادة الكتابة عاوزة وقت وراحة وأنا هنا في المطبعة من سبعة الصبح لسبعة بالليل، وفي البيت يا دوب آكل وأنام، الساعة خمسة أصحى، ساعتين في المواصلات على الأقل، أكتب إيه وامتى يا فؤادة؟
– كلنا حياتنا صعبة يا حميدة، أنا متأكدة إنك كاتبة.
– كاتبة حتة واحدة؟
– أيوه.
– عرفتي منين؟
– من عينيكي.
ضحكت حميدة غير مصدقة مندهشة.
تحت ضلوعها انتفضت العضلة القديمة منذ كانت طفلة.
– عندي كراسة تحت المرتبة باكتب فيها، تعرفي الأستاذة بدرية البحراوي؟
– طبعًا قريت كل اللي كتبته.
– إيه رأيك نتقابل عندها؟
– يا ريت.
حين عادت حميدة إلى بيتها، أخرجت من تحت المرتبة كراسة أوراقها مكتوبة بخط يدها، داخل كيس من الدمور، أضاءت اللمبة الخافتة في جوار سريرها، قرأت بضع صفحات ثم وضعتها في حقيبتها، وسقطت في النوم من شدة التعب. انتهت فؤادة من كتابة الرواية، وضعتها في مظروفٍ كبير لونه أبيض، وضعت المظروف داخل دوسيه بلاستيك، تحملها بعنايةٍ داخل حقيبتها، تتحسسها مثل كنز ثمين، لم يشأ أحد أن ينشرها، تعود إليها مع هذه الكلمات؛ «نأسف ليست هذه هي الكتابة التي نريدها، القراء لا يُقبلون على هذا النوع من الكتابة، روايتك بطيئة الحركة لا تتماشى مع سياسة الجورنال، نحن في عصر السرعة، البزينيس والربح السريع، اخطف واجرِ، نحن نقول الصدق ولا نخدعك، اكتبي رواية أخرى تجاري السوق، هذه الرواية لن تبيع، السوق عرض وطلب، هذا الأدب غير مطلوب، الناس يبحثون عن الأدب المكشوف، الجنس العاري أدب الفراش وليلة الزفاف، اسمكِ غير معروف في السوق، لا ننشر إلا للأسماء المشهورة.» بعضهم كان يبتسم في إشفاقٍ، يعبر عن إعجابه بالأسلوب أو المعنى الجديد، يمدح إبداع الأجيال الجديدة من الشابات والشباب، بديعٌ جدًّا لكن غريبٌ جدًّا، مثل كل الخيالات في هذه المرحلة من العمر، طموحٌ جميل لكن الكتابة المطلوبة شيءٌ آخر، يرد إليها الرواية مزهوًّا بنفسه ونجاحه، فشلها يزيد من إحساسه بالنجاح، بعضهم يبدي اللامبالاة، ينظر إلى كلماتها على الورق من دون اكتراث، قد يطلب إليها الناشر رؤية الرواية، تمد يدها فوق مكتبه بروايتها، تخلع عنها غلافها أمام عينيه، تحس بأن عضلات يدها تتقلص كأنما تخلع ملابسها وتعرض جسدها، يدها مبللة بالعرق والعار، ليس لأنها تعري روايتها، بل لأنها تعريها أمام عيون لا تكترث. وراء نافذتها في بيتها تجلس فؤادة، تطل على المدينة عاجزة عن الكتابة، السيارات تمر من بعيدٍ من دون صوت، المباني تتخفى وراء السحابة، الشقة غارقةٌ في الظلمة، الصمت ثقيلٌ ينم عن خطرٍ غامض، الأيام خالية والعمر خاوٍ، يرمقها الفراغ بعينٍ سوداء كالموت، أصابعها حول القلم مرتخية، عرفت هذه الحالة من قبل، تبدو وكأنما لم تعرفها، كأنما أصابعها لم تمسك القلم قط، كأنما لم تكتب في حياتها حرفًا، كأنما لن تكتب بعد هذه اللحظة أبدًا، إحساسٌ مرير بفقدان الثقة بنفسها بل بفقدان نفسها كلها، تطبق جدران الغرفة عليها، تكاد تختنق، تهرب إلى الشارع، تمشي في الظلام، تحاول استنشاق الهواء، المباني من حولها تتمايل نحوها تكاد تسقط عليها، الشارع مهجور لا أحد فيه، تسمع وقع حذائها فوق الأسفلت كشخصٍ يتبعها، تستمر في المشي لا تعرف إلى أين لا تستطيع التوقف ولا النظر إلى الخلف، رفعت ياقة الجاكتة تخفي نصف وجهها، وضعت يديها في جيوبها، أسرعت الخطى، في ضوء سيارةٍ سريعة رأَت ظلها الطويل يخرج من بين قدميها، ومن بطن الأرض يخرج ماردٌ طويل أسود، تصورت أنه الشيطان يتبعها، كادت تصرخ، ثم تذكرت أنها لا تؤمن بوجود الشياطين، تنفَّست الصُّعَداء، شهيقٌ عميق وزفيرٌ عميق، استعادَت هدوءها واستدارَت عائدةً إلى بيتها.