سعدية

في السابعة صباحًا تدقُّ سعدية الجرس، تعرف طريقتها في دق الجرس، تختلف عن دقات الجرس الأخرى، وخصوصًا الطريقة التي يدق بها شاكر الجرس أو ابنتها داليا، أو جارتها أم رءوف.

تشعر بالفرح حين تأتي سعدية، تترك لها مفاتيح البيت والدواليب وكل شيء.

– صباح الخير يا أستاذة.

– صباح الخير يا سعدية.

تأتي ابنتها هنادي معها في الإجازات أيام الدراسة، كبرت هنادي وأصبحت في الخامسة عشرة، تدرس في معهد الكومبيوتر، أصبحت فتاةً ممشوقة الجسم، تساعد أمها في الطبخ، قد تعطيها فؤادة بعض صفحاتٍ من الرواية لتكتبها على الكومبيوتر، قد تجلس مع ابنتها داليا تتفرجان على التلفزيون، تجلس هنادي على السجادة فوق الأرض، وتجلس داليا على الكرسي أو تستلقي فوق الكنبة المبطنة بالقطن، تسند ظهرها إلى شلتة ذات كيس ملون، ترى وجه هنادي شاحبًا ينم عن التعب، تعالي يا هنادي إلى الكنبة.

– كتر خيرك يا ست داليا.

– ست إيه ده أنا عندي خمستاشر سنة زيك.

– العين ما تترفعش عن الحاجب.

– إيه الكلام الفارغ ده؟

– كل الناس بتقول كده.

– ناس إيه ده إحنا مولودين سوا في السجن.

– في السجن؟

وتضحك داليا، وكذلك هنادي لكن تحت ضلوعها عضلة تنتفض.

تحت لمبة النور المجاورة لسريرها أخرجَت فؤادة الكراسة من الكيس الدمور، وضعت نظارة القراءة وفتحت كراسة حميدة، ولدتها أمها فوق الأرض في المستشفى المجاني، وتركتها إلى جوارها غارقة في الدم، وسقطت في النوم العميق أو الموت، من حولها في عنبر الأمهات أجسادٌ كثيرة ممدودة فوق الظهر أو البطن، أو متكورة حول نفسها كالجنين، أردافٌ وأثداء متهدلة تطل من جلابيب المستشفى الدمور، ملوثة بالطين والدم، وأطفالٌ عراة أشبه بلون الدود، إناثٌ وذكور يزحفون فوق الأرض صامتين أو يئنُّون أنينًا مكتومًا، تعرَّفت الأم وجه ابنتها، التقطت عيناها الوجه المألوف من بين المئات أو الألوف، يشبه وجهها في الصورة، مدَّت إليها يدها عبر أكوام اللحم والدم، فأطبقَت الأصابع الخمس الدقيقة على إصبع الأم، بقوةٍ أكبر من جاذبية الأرض، خرجت الطفلة مع أمها خارج المستشفى بعد أن همست في أذنها بالحلم، معها أمهات مع أطفالهن بعد أن قرر المستشفى إخراجهن في ليلة العيد، في المساء كانت الأمهات يتجمعن حول التلفزيون، تظهر على الشاشة صور الفنانين والفنانات، تتذكر كلٌّ منهن حلم طفولتها، تمسح بكفها المتشققة دموعها الجافة، كانت الطفلة حميدة تحدق إلى وجه الفنانة فانحفرت الملامح في عقلها من طول التحديق إليها، مرت السنون وهي تحدق إلى الوجه حتى أصبحت شابةً طويلة القامة ممشوقة الجسم، ترمقها عيون الرجال بنظرات مشتعلة بالجوع، من المراهقين دون سن العشرين ومن العجز فوق الثمانين، كانت الشمس على وشك المغيب، رأت سيارته البيضاء تبرق تحت الشعاع الغارب، ممدودة كاللبؤة الناعسة أمام الباب الحديدي، طويلة رشيقة كالطائرة، رأسها مدببٌ مثلث، مؤخرتها مربعة مكتنزة، مدقوقة فيها اللوحة البرونزية بأربعة مسامير، حفظت أرقامها السبعة من طول التحديق إليها، السائق أدكن السمرة يزداد سوادًا في جوار بياضها الناصع، يدعك ظهرها المقوس بفوطةٍ صفراء، قطرات عرقه يجففها بمنديلٍ منقط بالأحمر والأزرق والأصفر الباهت، المرة الأولى أزوره في بيته، بعد ترددٍ طويل اتخذت قراري، أوقفني رجل الأمن من وراء مكتبه في مدخل العمارة، نظر إلى صورتي في البطاقة ثم رمقني بنظرةٍ عرفتها، منذ الطفولة أشم رائحة الذكر في عين الرجل، نظرة الشبق في عيونهم، في البيوت والشوارع والحوانيت، جميع اللابسين السراويل البيضاء والبناطيل السوداء، يبرز من تحتها لمجرد اللمس شيء صلب مدبب، بدا في طفولتي ورمًا خبيثًا مصنوعًا من العظم، أو رأس ثعبان يتلوى من الألم، ركبت المصعد إلى شقته، أول مرة يصعد جسدي إلى هذا الارتفاع، المصعد الحديدي ينغلق وينفتح وحده أو بقوة الجان، ورد ذكرهم في القرآن كما سمعت من أمي، تحت ضلوعي عضلة ترتجف، يزيد السحر من جاذبية الجن، كنت أُومِن بالسحر مثل جميع الأطفال من حولي في الزقاق، أرهف السمع لما يدور بين النمل من همس، ورد ذكره في الكتاب، أتوضأ وأصلي لأطرد الشيطان قبل أن أنام، ارتديت الحجاب وعمري أحد عشر عامًا ثم ارتديت النقاب في الثالثة عشرة والقفاز الأسود يخفي يدي الاثنتين، توقف المصعد فجأة، انفتح بابه الحديدي فانطلقت إلى الخارج أجري، ليست أول مرة أركب المصاعد الكهربائية، يلازمني الخوف في كل مرة، يراودني حلمٌ مزعج متكرر، المصعد الكهربائي يتوقف بي بين الأدوار، تنقطع الكهرباء، الباب لا ينفتح، أدق الباب بقوة، أصرخ أنادي لعل أحدًا ينقذني، لا أحد يسمعني، أموت وحدي داخل الظلمة، لم أعرف قدر أمي إلا بعد موتها، كنت أشخط فيها من دون سبب، أو بسبب مؤخرتي المكتنزة، تصورت أنني ورثتها منها، لم يكن لأمي أخت أو أخ، ولا أحد يزورها في الزقاق، سمعتها تقول: الفقير مكروه من أهله. كانت أمي تضعني في حضنها، تحميني من البنات الكبيرات، يقرصنني في صدري أو يضربنني بالشلاليت على مؤخرتي، يقلن لي: يا بنت الخدامة. تبصق أمي في وجوههن، الخدامة أشرف منكن. في الليل لا يغمض لي جفن، أحدق إلى عين الجن، أصفع بيدي القدر والمصير، وكل وجوه البنات في الزقاق، أصرخ في النوم: لن يكون مصيري مثل مصير أمي والشغالات المطحونات، سأكون فنانةً مثلها نسيت اسمها لكن ملامحها محفورة في خيالي. باب الشقة من الخشب لونه بني أدكن، اسمه أحمد شاكر محفورٌ فوق قطعة من النحاس المجلوة.

توقفت لحظةً، هدأت أنفاسي والخفقات تحت ضلوعي، مددت يدًا مرتعشة تدق الجرس، كنت أرتدي ثوبي الأرجواني الغالي، الذي يشبه فستان الفنانة في الفيلم، يلتف حريره الناعم مشدودًا حول الردفين الممتلئين بأنوثةٍ بارزة متحفزة، فتحة صدره واسعة تكشف الشق العميق بين النهدين، يتفجران بالشبق العنيد، اشترى هذا الثوب لي رجلٌ اسمه أشرف نور، يرفعني هذا الثوب من طبقة الشغالات وخريجات السجون إلى طبقة الدكاترة وسيدات الطبقة العليا، كانت أمي تعرف بيوت العائلات الراقية، في حي الزمالك وجاردن سيتي، والشقق المفروشة للسائحين العرب والأجانب، تدعك ظهورهم ومراحيضهم، ثم تشتري لي البسبوسة وتدفع إيجار الغرفة ومصاريف المدرسة، ضميري ينزف دمًا يا أمي، كنت لا أطيق ملمس يديك المشققتين، ولا رائحة المراحيض في أنفاسك المتقطعة، يصحو ضميري في النوم ليؤنبني، في الصباح أنسى أمي وكل نزيلات السجن، أرتدي ملابسي وأندفع نحو الشغل، حلم الطفولة لا يفارقني، هو بنفسه فتح الباب، وليس الخادم أو الخادمة، كان وحده في الشقة، زوجته مسافرة، والخادمة في إجازتها الأسبوعية، خفق قلبي في توثب، هو بنفسه حدد الموعد والمكان، اقترحت أن يكون لقاؤنا في حديقة الأتيليه، حيث يلتقي الأدباء والأديبات في أول التعارف، تكتسي القصص الغرامية بأغطيةٍ سياسية، وتتخفى شهوات الجسد تحت قصائد من الشعر، لم أكن أديبة أو فنانة معروفة أو غير معروفة، كنت «لا شيء»، لم أدخل مدرسة، لم أتعلم الأدب أو الفن، فتاة معدمة معدومة الأهل، مولودة في الزقاق، اشتغلت أي شيء لأعيش، كانت أمي تقول: العيش فوق كل حاجة يا بنتي، الجوع كافر مالوش رب. بعد موتها بدأت أفحت الأرض، وأحش البرسيم، أحمل السباخ وروث الجاموس على رأسي، ادخرت أجرة القطار إلى القاهرة، في أعماق رأسي صورتها محفورة، أرسمها بالقلم على قصاصة ورق، أرسم العينين والأنف والفم والخدين، ملامحها تشبه ملامح الفنانات على الشاشة وخصوصًا العينَيْن والأنف، في عالم القاهرة الضخم عشت، قطرةً في بحر أو ذرةً تذروها الرياح، ليس لي اسم ولا أهل ولا بيت، أعيش تحت جبل المقطم، في حي القبور، بيوت الأحياء الموتى، يرقدون في قبرٍ واحد، رجالٌ ونساء وأطفال لا جنس لهم ولا عمر، كالقرش الممسوح تتلاشى ملامح الوجوه، ينامون مع البراغيث والناموس والبق، وذباب الليل والخنافس والدود، يبلعون الدخان مع السم، أملًا في الموت والنسيان، كنت أعيش على مبالغ صغيرة من أعمالٍ غير نظيفة، ورثت مهنة أمي في دعك المراحيض، ذهبت لتنظيف بيت أستاذ من سويسرا اسمه «جوزيف جورج»، نشأ بيننا نوعٌ من العلاقة استمرت ستة شهور، ثم عاد إلى بلده، كان يمنحني أجرة قيمة تقيني الأعمال غير الشريفة، يحوطني بذراعيه في حنان، يضعني على السرير الناعم الوثير، يقبل شعري وعنقي وفمي، ويمص الحلمتين كالطفل الرضيع، يهبط بشفتيه حتى أسفل بطني، يفرق شعر العانة ويقبل الشفتين النديتين بخشوع، يقبل كل شيء باحترامٍ يقترب من التقديس، ثم يدخلني برفق، برقةٍ شديدة، لا أشعر بألمٍ أو هوان، يبدو جسدي من تحته مقدسًا بالرغم من العري الكامل، ناديته مرة أبويا، تصورت أن الأب يكون على هذه الشاكلة، لم أعرف شكل أبي، سمعت أمي في الليل تقول: كان أبوك يسكن في قصر على النيل، لونه أبيض، حواليه جنينة ملأى وردًا وزهورًا، في وسطها تمثال لملاك له جناحان. كانت أمي تصف لي الشارع، تقول: كان اسمه شارع الجنائن، تظلله الأشجار، وشبابيك القصر لونها أخضر، كان أبي يطل من الشرفة على النيل، مرتديًا بذلة أنيقة من الصوف الإنكليزي لونها رصاصي، فيها خطوط زرقاء رفيعة، ربطة العنق براقة من الحرير، لونها أحمر فيها خطوط زرقاء أيضًا، ولون جوربيه من لون ربطة العنق. عرفني جوزيف جورج، قبل سفره، بصديقٍ له من السويد اسمه غريب يصعب نطقه، عشت معه شهرًا واحدًا ثم سافر، كان مثل جوزيف في الرقة والحنان، بكيت في حضنه الليلة الأخيرة، علمني جوزيف شيئًا من الإنكليزية يكفي للتحاور البسيط، لماذا تبكين يا حميدة؟

– أريد أن أكون امرأة محترمة.

– أنت امرأة محترمة يا حميدة.

– إذا كنت محترمة فلماذا لا تأخذني معك إلى السويد؟

– السويد؟

– ممكن أن أشتغل هناك.

– تشتغلي إيه يا حميدة؟

– أشتغل فنانة.

ابتسم السويدي في حنان، وهو يربت كتفي.

– سأكتب لك من السويد يا حميدة.

لم يكتب رسالة واحدة، وصلتني منه بطاقة صغيرة في السنة الجديدة فيها كلمتان فقط بحبرٍ أحمر، هابي كريسماس ثم لم أسمع عنه، عرفني جوزيف قبل سفره بمنتجٍ في السينما اسمه «أشرف نور»، من أثرياء الخليج العربي، قال: وجهك فوتوجينيك. خبطني على مؤخرتي بيده، طيزك مغرية يا بت. أردت أن أصفعه على وجهه أو أركله في بطنه بقدمي، لكني ابتلعت الإهانة، تدربت على ابتلاع الإهانات من أجل العيش، صوت أمي «العيش فوق كل حاجة.»

الجوع كافر ما لوش رب، كنت أومن بوجود ربنا، لكن حين يقرصني الجوع أو يهدر رجل كرامتي أكف عن الإيمان بشيء، كان أشرف نور سمينًا مربعًا أبيض، وجهه مستدير مثل القمر، دون الجاذبية أو الجمال، كان يسكن في الزمالك في جوار بيت أم كلثوم، أنام وأحلم بأن أكون محترمة مثل أم كلثوم، كانت فقيرة مثلي وأصبحت فنانة كبيرة، وأسأله هل تأخذني فنانة في فيلمك الجديد؟ يقبض بأسنانه على شفتي السفلى فأصرخ، تشتعل شهوته مع شدة ألمي، يهمس في أذني بخوار ثور، أنت فنانة في الحب، صدره يغطيه شعرٌ أسود كثيف، له عضو ضخم لونه أحمر، يندفع داخلي بسرعة النفاثة، أحس بأنه في عمق بطني، يضربني في أحشائي برأس شاكوش، ضربتين أو ثلاثًا ثم ينسحب متأوهًا، مرتخيًا صغير الحجم، مبللًا كالخرقة البالية برائحةٍ منفرة، ثم أسمع شخيره بعد أن ينام فجأة، أتركه نائمًا وأتقيأ في الحوض، لا شيء في معدتي إلا ماء أصفر كلون الكركم، بطعم المرارة والمهانة، ذقت طعم الاحترام مع رجالٍ من سويسرا والسويد، يعتبرون المرأة إنسانًا وإن كانت فتاة ليل، أسوأ نوع من الرجال هم أثرياء النفط، يعتبرون المرأة بلغة ينتعلونها في القدم، أو نعجة يركبونها في الليل، كنت أحلم بالسعادة والاحترام، مثل نجوم السينما، أمي قرأت أسرار الغيب في قاع الفنجان، قالت: حتبقي نجمة فنانة. غرست أمي في عقلي بذر الطموح، استحال في جسدي فيروس مرض، زحف السم الزعاف في كل كياني، ينخر عظامي، يجري في عروقي مع الدم، سرقت من «أشرف نور» مبلغًا من المال، كان يخبئ أوراق البنكنوت تحت البلاطة بلا عدد، داخل جراب من الجلد تحت السرير، دخلت بالمبلغ المسروق مدرسة الكومبيوتر، تفوقت على زملائي في حركة الأصابع فوق الحروف، بدأت أكسب رزقي في الكتابة على الكومبيوتر، رسائل الدكتوراه والماجستير لطلبة الجامعات، أو سيناريوهات أو روايات مكتوبة بخط اليد، أقوم بنسخها على شاشة الكومبيوتر، ثم حظيت بوظيفة سكرتيرة لرجل أعمال في شركة بمصر الجديدة، نام معي ثلاث مرات في أسبوعٍ واحد، دفع لي راتب ثلاثة شهور، بدأت سمعتي تسوء، ترمقني عيون الرجال بنظرةٍ أعرفها، أصدها عني كالموت، الموت أخف من الهوان، قررت أن أترك الشركة وأبدأ حياةً نظيفة، قبل أن يهجرني «أشرف نور» عرَّفني بأديب اسمه شاكر، كان ينوي إنتاج روايته للسينما، عنوانها رغبات دفينة، تتسرب من صفحاتها الخمسمائة والخمسين رائحة العقم والشيخوخة، وشيء من المراهقة المتأخرة، يغرق بطلها العجوز في خيالاتٍ شبقية كلما وقعت عينه على لوليتا الصغيرة، خط يده أيضًا كان لا يقرأ، دفع لي مقدمًا لأكتبها على الكومبيوتر، معتذرًا عن خطه الرديء، لكن روايته كانت أصعب في القراءة من خط يده، ناولني الأجرة داخل مظروف أبيض بأصابع مرتعشة مكرمشة، تعلوها بقع نمش سوداء، يلعق شفته السفلى بطرف لسانه وهو يتكلم، من تحت النظارة الطبية السميكة يرمقني، يتطلع إلى لوليتا البريئة، كنت أرتدي وجهي العذري بمهارةٍ تدربت عليها وبذكاءٍ فطري، أجلسني في الصالة التي تغطي جدرانها رفوف الكتب، الأغلفة الجلدية الرصينة، يستمد من رصانتها ملامح الأستاذ الكبير، يرتدي بذلةً لونها رصاصي فيها خطوط بيضاء رفيعة، من الصوف الإنكليزي، الجو يميل إلى الحرارة أول الربيع، من وراء الصالة شرفة كبيرة تطل على كورنيش النيل.

– تشربي إيه يا أستاذة حميدة؟

– ولا حاجة يا أستاذ.

– لازم تشربي حاجة يا حميدة.

خلع عليَّ بسرعة لقب الأستاذة، حافظت على لهجتي المتحفظة، لا ألغي المسافة الضرورية لاحترامي، تدربت ألا أرفع الكلفة بيني وبين الرجال، يرتفع ثمني بازدياد المسافة، فهم النظرة في عيني: تشربي إيه يا أستاذة حميدة؟

كانت موسيقى حالمة تنبعث من ركن المكتبة، يحوطه ضوء غير مباشر، يكشف عن تمثالٍ برونزي للإلهة إيزيس، ترتدي ثوبًا شفافًا لا يخفي نهديها وفخذيها، تحمل فوق رأسها قرص الشمس.

– تشربي إيه يا أستاذة؟

– ولا حاجة يا أستاذ شاكر. قلتها بحزمٍ ودخلت في الموضوع: كان ممكن أكتب رواية حضرتك ع الكومبيوتر لكن أنا مسافرة الإسماعيلية خالتي عيانة، عندي زميل ممتاز مستعد يكتبها.

– إنتي عارفة خطي كويس يا حميدة، وأخطائك قليلة، عندك دقة في شغلك، بتاخدي بالك من الهمزة والنقطة والفواصل، أكتر شيء يتعبني هو التصحيح ع الكومبيوتر، معظم خريجي الجامعات النهارده ما يعرفوش مبادئ اللغة، وكمان مهملين، إنتي يا أستاذة حميدة أنقذتيني من العيال دول.

– زميلي مختلف عنهم يا أستاذ، ومجتهد، وعنده ضمير، حضرتك جربه في الرواية دي، والرواية الجاية أنا أكتبها. نهض ليرد على جرس التلفون، ظهره منحنٍ نحيف منكمش، يشد عضلات ظهره ليبدو أكثر طولًا، مفاصله ليست مرنة، يمط عضلات عنقه ويمشي بخطوةٍ يجعلها رشيقة، كانت ضفائري مصففة لأبدو في العشرين أو أكثر قليلًا، لم يعد أمامي إلا ثلاث سنوات وأصبح في الأربعين، كلمة عانس تؤلمني مثل الخنجر، فكرت في اصطياده كزوج، لكن عندي بعض مبادئ، لا أسبب ألمًا لامرأةٍ مثلي ولا أقبل أن أكون زوجةً ثانية، يبدو لين العريكة من نظرته المنكسرة، سهل الوقوع في الحب، كلما تقدم الرجل في السن أصبح فريسةً سهلة، في عينَيْه شيء من حنان، يذكرني بجوزيف وصديقه السويدي، أنا في حاجةٍ إلى حنان الأب قبل الحب والجنس، لا توحي يده أنه قادرٌ على الضرب، كرهت أعضاء الرجال الضخمة القوية، ترتعش أصابعه قليلًا وهو يمسك القلم أو الفنجان، ليس ممشوقًا، وليس لجسده جاذبية الرجولة، البذلة الأنيقة لا تكفي، تخيلته في السرير عاريًا، قلت لنفسي: لا يمكن أن أدخل معه الفراش وإن دفع مال قارون. تشربي عصير لمون؟

– كوكا كولا يا أستاذ.

– أنا لا أشجع المنتجات الأمريكية يا أستاذة.

– متأسفة، هل أنت شيوعي؟

– أنا اشتراكي مش شيوعي.

– وإيه الفرق يا أستاذ شاكر؟

الشيوعي عضو في الحزب وأنا مستقل تمامًا. بسط ذراعَيْه في الهواء وهو يردِّد: مستقل تمامًا. كأنما يهمُّ بالطيران فارتطمت ذراعه برأس نفرتيتي فوق رف المكتبة، سقط التمثال البرونزي على السجادة العجمية السميكة من دون صوت، انحنى ببطء وأعاده إلى الرف، نهضت أستعد للخروج على مهل، لم أشأ أن أفقده الأمل، تعودت أن أترك الباب مفتوحًا أو مواربًا أمام الرجل، أملًا في العودة عند الحاجة، روايتك عجبتني جدًّا يا أستاذ، كان نفسي أكتبها ع الكومبيوتر لولا السفر.

اتجهت عيناي إلى عينيه مباشرة، لا أخشى النظر إلى عمق عينيه.

لا يملك القدرة على رؤية الكذب في عيني إلا الأذكياء الموهوبون، لمعت عيناه الذابلتان بالفرح الطفولي.

– صحيح عجبتك روايتي؟

– جميلة جدًّا يا أستاذ.

لم أعد أشك في قدرتي على الكذب كما كنت منذ عشر سنوات، تدربت خلايا جسدي وعقلي على امتصاص السموم وهضمها من دون أن يهتز لي جفن، روايتك يا أستاذ جميلة قرأتها بمتعة.

نطقت كلمة «متعة» بشفتين مرتعشتين بإتقان، عيناي لم يرف لهما رمش، أثبتهما في عينيه بنظرةٍ مفعمة بالصدق، تدريبٌ طويل على التمثيل أمام الكاميرا في شقة أشرف نور في الزمالك، أراد أن يجعلني ممثلة في فيلمه الأخير، كانت شهوته الجنسية تتغلب على رغبته الفنية، وانتهى بي الأمر إلى عملية إجهاض نزفت فيها نصف دمي، بعد موت أمي خلعت الحجاب والنقاب والقفازين الأسودين، لكني عدت لأُومِن بوجود الله، المنتقم الجبار، انتقم لي من أشرف نور، قرأت خبره في الجورنال، وقع حادثٌ أليم للفنان أشرف نور، انقلبت سيارته في الطريق الصحراوي بعد اصطدامها بعربة لوري، فاضت روح الفنان الكبير في مستشفى الهرم بعد منتصف الليل بعشر دقائق، تُشيع الجنازة من جامع عمر مكرم الحادية عشرة صباح الغد، بعد أكثر من شهرٍ جاءني صوت الأستاذ شاكر في التلفون، كان متوترًا وغاضبًا، زميلك طلع عيني يا حميدة، السطر الواحد فيه عشرون غلطة، غير السطور الساقطة والنقط والفواصل الناقصة، صححت ثلاث صفحات في أسبوعين، لا يمكن أن أكمل، لازم تكتبي إنتي الرواية، ما فيش غيرك هيكتبها. حاضر يا أستاذ أنا تحت أمرك. أصبحت أتردد إلى شقته، يُراجع معي الأخطاء على الكومبيوتر، نشرب عصير الليمون في الشرفة المطلة على النيل، يعد لي كوب الشاي الأخضر، ويملأ له كأس النبيذ الأحمر، سألته مرةً عن زوجته الكاتبة، قرأت لها رواية في ليلةٍ واحدة، لم أتركها لحظةً واحدة لأفرد ساقي أو أشرب كوب ماء، روايتها جميلة حقيقي يا أستاذ. التقطت أذنه كلمة «حقيقي» فانقبضت عضلة تحت عينه، ارتفعت يده تدلكها بحركةٍ بطيئة، هل تشعر بالغيرة من زوجتك يا أستاذ شاكر؟

– بالعكس أنا بافرح لنجاحها.

– الرجل لا يشعر بالغيرة إلا من الرجال.

ثبتت عينيها في عينيه وابتسمت، زم شفتيه وغير الموضوع.

– فقدنا فنانًا كبيرًا، أشرف نور.

– يمهل ولا يهمل يا أستاذ.

– مش فاهم.

– ربنا منتقم جبار يا شاكر بيه.

– إنتي مؤمنة بوجود ربنا؟

– طبعًا، وأنت مؤمن؟

– أنا لا أتكلم في الدين أو السياسة مع البنات الجميلات.

هذه العبارة أعجبته في روايةٍ من الروايات، أصبح يكررها مع الفتيات.

– إنتي جميلة جدًّا.

– شكرًا.

– أخذت من وقتك كتير.

– أبدًا.

– الحوار معاكي ممتع، احكيلي عن حياتك يا حميدة.

– الدنيا ظلِّمت يا أستاذ لازم أروح.

– أستلم الرواية ع الكومبيوتر إمتى، قوليلي؟

– بعد أسبوعين.

– شكرًا يا حميدة.

– والمبلغ يا أستاذ؟

تدربت أن أطلب حقي عن أي عمل، كنت أخجل وأتلعثم عند الحديث عن الفلوس، ثبت عينيه الخضراوين الضيقتين في عيني، أفاق لحظةً من نشوة النبيذ، وقال: عاوزة كام؟

– حسب السعر في السوق.

– قولي عاوزة كام؟

– زي السوق يا أستاذ مش أكتر.

– يعني كام؟

– الرواية كام كلمة؟

– هي بالكلمة والا بالصفحة؟

– بالكلمة يا أستاذ.

رأيته يرمقني بنظرةٍ مخلبية، نظرة رجل إلى رجل، بعد خروجها شرب شاكر كأسًا من الويسكي البلاك ليبل، أراد أن يمسح الإهانة بالخمر، يقول عقله من حقها أن تطلب أجرتها عن شغلها، قلبه يحدثه أنها منجذبةٌ إليه، لماذا تأتي إلى بيته؟ كان يمكن أن تصر على لقائه في مكانٍ عام مثل الفتيات المستقيمات، نهض متثاقلًا يدلك عظام ظهره، إن جلس طويلًا يشعر بآلام العمود الفقري، يقولون مرض الأدباء هو الانزلاق الغضروفي، يسعده الانتماء إلى الأدباء بأي شيءٍ وإن كان انزلاق الغضاريف، فتح التلفزيون، رأى وجه زوجته يطل عليه وهي تتحدث في مؤتمر نيويورك، يقف في جوارها رجلٌ طويل ممشوق يرمقها بإعجاب، ضغط بإصبعه الزر فأظلمت الشاشة، نهض متثاقلًا، يسير بخطوةٍ بطيئة وظهره منحنٍ، دخل الحمام، أفرغ مثانته في المرحاض ثم بصق في الحوض متخلصًا من المرارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤