على شاطئ الإسكندرية
تمدَّدت فؤادة فوق شاطئ البحر بالإسكندرية، تلامس أشعة الغروب الدافئة ساقيها الناعمتين، يرفع الهواء الحنون ثوبها الهفهاف الأبيض، من تحت نظارة الشمس السوداء تتأمل جسد زوجها الممدود فوق الشيزلونج يقرأ الجورنال، يوحي الشيزلونج العتيق بأرستقراطية قديمة، عظامه مثل أرجل الشيزلونج، المايوه من النوع الحديث آخر صيحة، لا يخفي إلا العورة، لونه الأحمر الزاهي يزيد من شحوب بشرته، من تحت نظارته الزجاجية رآها تتأمله طويلًا: أتعرف ما أريد أن أقوله؟
– تريدين أن تقولي إنكِ لا تحبينني.
– متيقن؟
– أنت لا تحبين أي رجل.
– متيقن؟
– أنت لا تحبين أحدًا.
– متيقن؟
– أنت لا تحبين إلا نفسكِ يا فؤادة.
– أنت تتكلم مثل كوكب يا زوجي العزيز.
– لو عرفتِ الحب ما أغرقتِ نفسكِ في الكتابة.
منذ التقينا وأنت تحملقين في وجهي، تشككين في أنني زوجك، أنت لا تحبين شخصي، هذه هي الحقيقة، نعم الحب يدفع الإنسان إلى عمل الاستثناءات، أشياء لم يفعلها قط، لو أنك عرفت الحب لشعرت بالرغبة في الخضوع والطاعة، بالرغم من اعتراضكِ على الخضوع والطاعة. وماذا عنكَ يا زوجي العزيز لو أنكَ عرفت الحب لفقدت الرغبة في السيطرة بالرغم من اعتراضك على السيطرة.
– نعم.
– نحن ندفن رءوسنا في الرمل مثل النعامة، نحن نتظاهر بما ليس فينا، أصبح الخداع متقنًا فلا نتعرفه أنت وأنا؟
– نعم نحن الاثنان معًا.
– نواجه الحقيقة بعد مائة عام؟
– وبعد ألف عام.
– نواجه التاريخ المزيف بعد سبعة آلاف عام!
– ليه لأ يا زوجي العزيز؟
تقلبت سعدية فوق المرتبة النحيفة من البلاستيك، جسمها نحيفٌ مهدودٌ من التعب، عظام عمودها الفقري تحتكُّ بالبلاط تحت المرتبة، تتقلب من جنبٍ إلى جنب عاجزة عن النوم، يدوي أذان الفجر بصوتٍ متقطع متحشرج، قبل أن تضع جسدها المنهك فوق المرتبة أجهشت بالبكاء الجاف، جفت دموعها من طول ما بكت، تورمت جفونها والتهبت وقلبها احترق، مصائبها تهون أمام هذه المصيبة، ابنتها هنادي راقدة في جوارها على المرتبة المشققة الرمادية، غارقةٌ في نومها، تمد ذراعها تريد أن تضمها إلى صدرها كما تفعل كل ليلة، ذراعها الطويلة الناحلة تعجز عن الامتداد، تتقلص عضلاتها في الهواء، رائحة العرق تحت إبطها تملأ أنفها، تؤكد لها الهوان والفقر، يثقل قلبها أكثر مما كان، تسقط ذراعها إلى جوارها، طويلة نحيفة كذراع المكنسة من الخشب، ترمق ابنتها النائمة إلى جانبها، نهداها لم ترهما إلا اليوم، كأنما في ليلةٍ واحدة برزا من بطن الأرض، برعمان دقيقان كل منهما بحجم زيتونة صغيرة خضراء، تهبط عينها وتثبت فوق ارتفاعة البطن الصغيرة تكاد لا ترى، تبتلع لعابًا مرًّا كالعلقم، طفلتها حامل في شهرها الثالث، كان موتها أهون، بالأمس ضربتها حتى انكسرت ذراع المكنسة الخشبية، تسألها والدم يغلي في رأسها: قولي مين المجرم؟ مين هو؟ اسمه إيه عشان أشرب من دمه؟
– ماعرفش.
– انطقي يا بت قولي اسمه ماعرفوش!
تنهال الضربات فوق رأس البنت، تحمي رأسها بذراعيها، وهي تلهث ماعرفوش، لا ينتهي الضرب حتى تنهار الأم من التعب، يسقط جسمها الضامر مهدودًا فوق الأرض، تئن وتنشج بصوتٍ خافت، تكتم الصوت بكفها فوق فمها، تخشى الآذان المتلصصة من وراء الجدران، وخصوصًا أذن الشيخ متولي، يسكن الغرفة المجاورة، يتلصص على الجيران من شقٍّ في الجدار، جدران البيوت من الصفيح المدهون بالبويا، الخشب المطلي بالجير، الطين المجبول بالتبن، أو قماش قلع المركب القديم، تتشقق الجدران في الشتاء كما في الصيف والربيع، تحت ماء المطر والصقيع، ولهيب الشمس ورياح الخماسين تسمح الشقوق في الجدران بمرور الأصوات، وإن كانت خافتة كالنشيج المكتوم، والحشرات الصغيرة كالبق والقمل والبراغيث، أو متوسطة الحجم مثل الخنافس والصراصير والفئران الصغيرة، نظرت سعدية إلى الساعة في معصمها، لها قرصٌ أبيض كبير، تبدو الأرقام فوقه واضحة سوداء، أهدَت إليها الأستاذة فؤادة هذه الساعة وعلَّمتها قراءة الأرقام والحروف، ارتدت بسرعة جلبابها الأسود، لفَّت رأسها بالطرحة البيضاء، وحملت الصفيحة الفارغة بين ذراعيها كالطفل، قبل أن تفتح الباب وتخرج لكزت ابنتها في كتفها برأس إصبعها المدبب كرأس الدبوس، قومي يا بت قامت قيامتك ورانا شغل. الطفلة غارقة في النوم، انقلبت من جنبٍ إلى جنب وهي تموء بأنين مكتوم، لعنتها أمها ولعنت يوم زواجها بأبيها متعوس الرجا، طردته من ذاكرتها، وانطلقت مسرعة حاملة الصفيحة، الطابور الطويل سبقها إلى حنفية الماء الوحيدة في الزقاق، وجوهٌ شاحبة أجسام ناحلة، يسكنون معها في الحي العشوائي وراء المقابر، ليس لها واسطة في الحكومة لتحصل على غرفةٍ في مقبرةٍ مبنية بالطوب الأحمر، حصلت على هذه الغرفة من الخشب بعرق جبينها، لم تفرط في شرفها، لا يبقى يا سعدية بعد الموت إلا الشرف، صوت المرحومة أمها محفورٌ في رأسها، سوف تذبحه المجرم الذي اعتدى على شرف ابنتها، تدور بعينيها الحمراوين على الوجوه الواقفة في الطابور، تستقر عيناها على عيني الشيخ متولي، يقف داخل جلبابه الأبيض، من فوقه معطفٌ أسود قديم منحول عند الكوع، يلف عنقه بكوفيةٍ صفراء كالحة، يبربش بعينيه الغائرتين داخل الجبهة العريضة المنحدرة إلى صلعةٍ كبيرة، هو؟ مش هو؟
يدور السؤال في رأسها، في منتصف جبهته زبيبة سوداء علامة الصلاة والسجود والخشوع لله، في عينيه نظرة ملتوية أقرب إلى الشيطان منها إلى الله، أمامه في الطابور فتاة من عمر هنادي ابنتها، في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، رأسها ملفوفٌ بحجابٍ ملون عدة لفات، تحمل زلعة فوق رأسها تمسكها بيديها الاثنتين، تبدو طالبة في المدرسة أو المعهد، سنة أولى مثل ابنتها، يتحرك الطابور ببطء، تنظر سعدية إلى ساعتها في قلق، تعود إلى فحص الوجوه الشاحبة الواقفة في الطابور، كل منهم يحمل صفيحته كمن يحمل صليبه، يتنافسون في الحصول على الماء، ينتصر الشباب ذوو العضلات، من بعدهم الشابات عضلاتهن أقل قوة، ثم الرجال الكهول ثم العجز والمرضى، في المؤخرة تقف النسوة الطاعنات في السن أو المريضات، قد تفترش الواحدة منهن الأرض من شدَّة الإعياء، ترمقهن سعدية من بعيد، عيون منكسرة تشوبها صفرة، وجوهٌ طويلة شاحبة متغضِّنة، ملأى بالبقع والتجاعيد، كعوبٌ سوداء تطل من شباشب بلاستيك، أياديهن مشققة تعلوها بقع بيضاء وزرقاء، أيمكن يا سعدية أن تُصبحي واحدة منهن؟
أن تكوني امرأة ميتة في القبر يا سعدية أفضل من امرأة مريضة أو عجوز فقيرة ليس لها أحدٌ في هذه الدنيا؟ نعم الموت أفضل لكِ يا سعدية، لكن … أين سيدفنونكِ يا سعدية وليس عندكِ قبر؟
تُكلم نفسها أو تُخاطب الرب.
آه يا رب، أتعرف مين المجرم؟ اسمه إيه يا رب؟ شكله إيه؟ بني آدم أو حيوان؟ يعتدي على طفلة زي هنادي؟
تتطلع بعينيها إلى السماء تبحثان عن وجه الرب أو وجه الرجل الذئب؟ أيختفي وراء هذه السحابة السوداء أو ذلك العمود من الدخان؟
تستقر عيناها فوق الوجه الكبير المعلق بين السماء والأرض، فوق عمود النور الحديدي الطويل تَثبُت عيناها، فوق الوجه المربع في الصورة، فوق العمود صورته معلقة وفوق كل الأعمدة في الزقاق، والأزقة كلها في الحي، وخارج الحي في الشوارع كلها، من شارع المعهد المتوسط إلى شارع المعهد العالي، إلى شارع قصر العيني الرئيسي، حتى ميدان التحرير، الوجه في الصورة تعرفه منذ انفتحت عيناها على الدنيا، قد يتغير حجم الأنف الكبير، يقل طوله أو عرضه قليلًا، أو تزحف شعرات رمادية أعلى الصدغين، لكن شعر رأسه يظل أدكن كلون الليل، كأنما يصبغه بالحناء البغدادية، عظام الصدغين قوية، فكاه نتوءان بارزان تحت أذنيه، جبهته عريضة، تنحدر إلى صلعةٍ كبيرة حتى منتصف رأسه، عضلات شفتيه منقبضة في تكشيرةٍ عريضة تشبه الابتسامة الواسعة، أسنانه مدببة بيضاء حادة، العيون في الطابور ترمق الصورة من تحت الجفون، يكتمون أنفاسهم، أجهزةٌ حديثة تلتقط أي نفس يفلت من بين الشفتين، أو تنهيدة أو زفير يخرج من الصدر، أو كلمة يهمس بها أحدهم، تبربش عيونهم تتطلع نحو فجوةٍ في عمود النور تطل منها أسلاكٌ كهربائية، يتساءلون: أجهاز تسجيل في هذه الفجوة أم يختفي وراء برواز الصورة؟