الشيخ متولي
يدور الهمس الخافت، ثم يرتفع صوت الشيخ متولي، يسب الفتاة الواقفة أمامه في الطابور، يحاول الالتصاق بها لتترك له مكانها في الصف، لكنها تصده عنها بقوةٍ فيتراجع إلى الوراء، يدوس قدم رجل عجوز يقف خلفه، يبسمل ويحوقل ويلعنه والدنيا، في مؤخرة الطابور امرأة مريضة بالحمى تفترش الأرض وتلهث، سعدية واقفة منتصبة وفي رجلها شبشب بلاستيك أصفر، تتكئ بركبتها اليسرى على الصفيحة الفارغة، عظامها قوية إلا مفصل الركبة اليسرى والفقرات الأخيرة أسفل ظهرها، شعرها أسود قاتم سوى شعرات بيض قليلة، تصبغها بالحناء البغدادية، تخشى أن تستبدلها الأستاذة بشغالةٍ أكثر منها قوة أو شبابًا، تلقي نظرةً على ساعتها من حينٍ إلى حين، تخشى أن تتأخر عن موعد الشغل، في السابعة صباحًا تنتظرها الأستاذة فؤادة وزوجها شاكر بيه، لتعد لهما الفطور قبل خروجهما إلى الجورنال، الشيخ متولي اشتبك في عراكٍ مع شاب اسمه جلال أسعد، أشفق على المريضة في آخر الطابور وفسح لها في المكان في أول الصف.
يغضب الشيخ متولي مزمجرًا: الرجالة وراهم شغل يا جلال، النسوان مش مفروض يخرجوا. تزمجر الفتاة الواقفة أمامه: إحنا بنشتغل أكتر منكم يا رجالة؟!
– بتخرجي ليه وسط الرجالة؟
– أكل عيش يا شيخ.
– مكانك البيت يا بت؟
ينتهز فرصة اندفاعة الأجسام من خلفه ليحتك بردفيها النافرين، تدفعه بقوة بعيدًا عنها.
– عيب عليك يا شيخ يا بتاع ربنا.
تغمز بعينها جلال أسعد، قامته طويلة ممشوقة، ترمقه بإعجابٍ، لا يلتفت إليها، يخاطب الشيخ متولي: ما فيش في قلبك رحمة يا شيخ؟
أحد الشباب يشد الشيخ من شراشيب كوفيته، يا شيخ يا عجوز مناخيرك أد الكوز. يقهقه الشباب ساخرين، يتصدى لهم جلال أسعد: كفاية يا جدعان ده زي والدكم. سعدية واقفة تنقل جسمها من قدمٍ إلى قدم، تتكئ بركبتها على الصفيحة، تزيد الآلام في ظهرها وركبتها مع طول الوقوف في الطابور، وفي منزل الأستاذة فؤادة أمام الحوض تغسل الصحون والحلل، أعطتها الأستاذة بلوفر صوف قديم لونه أزرق باهت، أصبحت ترتديها تحت جلبابها في الشتاء، لا تبخل عليها الأستاذة بشيء، أعطَت ابنتها هنادي الصيف الماضي فستانًا حريريًّا أحمر بهت لونه، ولم تعد ابنتها داليا ترتديه، داليا طفلة تصغر هنادي بثلاث سنين لكنها أطول منها قامة، عظامها تكبر أسرع منها، تأكل كل يوم الفراخ أو اللحم أو السمك مع الخضراوات والفواكه كلها فيتامينات، ابنتها تأكل الخبز مع الجبن أو الفول المدمس أو قطعة طعمية، قد تناولها الأستاذة قطعة بسبوسة أو قطعة من الكنافة أو التورتة، جيرانها في الحي يحسدونها، الأستاذة فؤادة وزوجها شاكر بيه من أكرم الناس، لا يبخلان عليها بما أعطاهما الله، حتى الشيكولاتة من سويسرا تلفها الأستاذة في الورقة الفضية من الألومينيوم وتعطيها لابنتها، آه يا هنادي يا بنتي إزاي يضحك عليكي المجرم؟
دفعت لك مصاريف المعهد من سلفة الأستاذة، كان ممكن تتخرجي بعد سنتين وتبقي أستاذة محترمة، تقعدي على مكتب وتكتبي ع الكومبيوتر، وربنا يتوب عليكي من وقفة الطابور دي وشيل صفيحة الميه على راسك، آه يا هنادي حطمت قلب أمك سعدية؟
تمسح سعدية دموعها الجافة بكفها المشققة، بعد ساعتَيْن أو أكثر من الوقوف على قدميها تصل إلى حنفية الماء، تملأ الصفيحة، تلف الحواية ثم ترفع الصفيحة الثقيلة بذراعيها القويتين وتضعها فوق رأسها، تسير بين الأزقة الضيقة مستغرقة في أفكارها، تسرع الخطى حتى لا تتأخر عن الأستاذة، تصل إلى الزقاق الشبيه بشق الثعبان، تسده أكوام قمامة تجري بينها كلاب وقِطَطة شاردة، تضع الصفيحة على الأرض أمام باب الغرفة، تُخرج المفتاح الكبير الصدئ من الجيب العميق في جلبابها، تفتح الباب الخشبي المشقق، تملأ أنفها رائحة قيء عفن، ابنتها هنادي متكورة حول نفسها في الركن تمسك بطنها بيدها وتفرغ ما في جوفها، تئن بصوتٍ خافت، ترمقها أمها بغضب، تلكزها في كتفها، يعني ناقصين مصايب؟ قومي امسحي الأرض من القرف ده. غسلت سعدية ذراعَيْها وتحت إبطيها، ارتدت جلبابًا نظيفًا، هل تشم الأستاذة رائحة العرق في ملابسها؟
في طريقها إلى بيت الأستاذة رأت سعدية التظاهرات في الشوارع، شبابًا من الطلبة والعمال، والطالبات والعاملات، وربات بيوت، وموظفين وفلاحين وعاطلين بدون عمل، ملايين من الناس معظمهم شباب يهتفون: