تشريح الجثة
خرجت التظاهرات تُطالب بالقصاص من القتلة.
أدلى الدكتور الطبيب الشرعي الذي شرَّح جثة جلال أسعد بأقواله أمام نيابة قصر النيل، قال: إن الوفاة نتيجة حادث تصادم وليسَت بسبب تعرُّض المتوفَّى للتعذيب، مشيرًا إلى أنه عثر في الملابس على آثار احتكاكٍ بجسمٍ حديدي ولا توجد آثار ضرب، وواجه مدير النيابة الطبيب الشرعي بأقوال الشهود ومنهم الكاتبة الصحفية المعروفة كوكب الكميلي، قالت إن المجني عليه تُوفِّي نتيجة تعذيبه من قِبَل ثُلَّة من ضباط البوليس داخل معسكر الأمن المركزي بالجبل الأحمر، لكن هذه الكاتبة الصحفية غيَّرت أقوالها لاحقًا، وأقوال عامل موقف الحافلات بميدان عبد المنعم رياض، الذي قال إنه شاهد سيارة ميكروباس متجهة إلى كوبري ٦ أكتوبر تصدم جلال أسعد، بالإضافة إلى أقوال الممرض المسعف وسائق سيارة الإسعاف التي نقلت جلال أسعد، قال الاثنان إنهما في أثناء وقوفهما في نقطة التمركز أمام المتحف المصري، أخبرهما شخصٌ يستقل دراجةً بخارية بوجود جثة شاب صدمته سيارة ملاكي مسرعة أمام مطلع كوبري ٦ أكتوبر. أمرَت نيابة قصر النيل بتشكيل لجنة ثلاثية لإعادة تشريح الجثة بناءً على طلب محاميه، بعد معارك مع النيابة ومصلحة الطب الشرعي، حصل المحامي على نسخةٍ من تقرير الطب الشرعي، الذي أكَّد أقوال النيابة وأن جلال أسعد لم يقتله التعذيب، بل مات فجاةً في إثر حادث سيارة.
قذفت أم جلال أسعد عربة البوليس بالحجارة، ومن خلفها الأمهات والشباب والشابات مزقوا معطف الطبيب الشرعي وهم يصرخون: يا مجرمين يا لصوص. وانطلقت الملايين في التظاهرات وهي تهتف: يسقط النظام!
أصبحت خيمتها في ميدان التحرير هي البيت والمسكن، كانت مرهقةً من السير في التظاهرات، قلبها ثقيل، أمها نزفت حتى الموت، الآلاف من الشباب قُتلوا بالرصاص، والآلاف ماتوا نتيجة التعذيب في المعسكرات، والآلاف فقدوا أبصارهم، كانت الرصاصة تنطلق من القنَّاصة مباشرة إلى عيونهم، تختلط الجثث بعضها ببعض، لا تستطيع العودة إلى البيت ولا تريد أن تعود، خيمتها أصبحت بيتها، تتمدد فوق الأرض فوق كليم من وبر الجمال السميك، تتغطَّى ببطانيةٍ من الصوف الرصاصي، تطل من فتحة الخيمة إلى السماء، سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، الميدان هدأ قليلًا بعد يومٍ عاصف، أنين المصابين يأتيها من مستشفى الميدان في الناحية الأخرى، فتحت عينَيْها في الظلمة، رأَتْ طيف أمها جالسًا عند باب الخيمة كأنما يحرسها، بدا الحلم حقيقة: ليه جيتي يا أمي؟
– قلقت عليكي يا بنتي.
– الخيمة باردة عليكي.
– الخيمة أدفا من البيت.
جلست في جوارها فوق الكليم، أحاطَت كتفَيْها بشالها الأخضر، همست في أذنها، سامحيني يا أمي، كذبت عليكِ، كنت خائفةً منهم، كنت في حاجةٍ إلى أن أنسى، النسيان يشفي الألم لكن منذ أن رأيت دمها فوق الأسفلت بدأ عقلي يصحو وذاكرتي تعود، خافتة كالهواء، تتسرَّب قطرات ضوء من وراء سحابة سوداء، دم فوق الأسفلت في السجن، يشبه الدم فوق أسفلت ميدان التحرير، يشبه الدم فوق ملاءة السرير، دمي ودمك وكل الدماء المراقة أمام عيني، حياتي مرت مثل الحلم، الأرض في الميدان صلبة كالرخام، لا أشعر بالألم، جسمي شبه مخدر، ليلة باردة كالصقيع، أرقد فوق الأسفلت، البرودة لا تصل إلى جسمي، كبرودة البحر في الحلم أسبح فيه ولا أبرد ولا أغرق، مع أنني عارية ولا أعرف السباحة، صوتها كتلك الأصوات التي نسمعها في الأحلام، تأتي من بعيد مع أنها قريبة، أو تأتي من قريب وهي بعيدة، قد تأتي من السماء أو من بطن الأرض، أو من السقف، أو تأتي من كل الجهات كهواءٍ يملأ الأذن، لكنه ليس هواء بل صوت حقيقي أسمعه، وامرأة حقيقية من لحمٍ ودم ترقد في جواري على الأرض، غادرَت أمي الخيمة، لا أعرف أين ذهبت، ربما إلى دورة المياه، لم يعد في مقدورها أن تحبس البول ساعاتٍ طويلة، ضعفت عضلات الحوض والمثانة، تتسرَّب القطرات من بين ساقيها قبل أن تصل إلى المرحاض، أردتُ أن أذهب معها إلى دورة المياه، على بعد خطواتٍ، عند البوابة الخلفية، لكن النوم غلبني، لم أرَها في الظلمة وهي تغادر خيمتنا، تصوَّرتُ أنها راقدة في جواري وأنا أحكي لها، لم أكن أحكي لكِ يا أمي، غيابك يشجِّعني على البوح، الثورة كسرت حاجز الخوف، كنت أخاف ألسنة الناس أكثر من الموت، ظل الخوف ينمو معي، عشت الجحيم فوق الأرض، والجنة لم تكن تحت قدمَيْكِ بعد موتك، الأرض، الأسفلت تحت ظهركِ العاري، كان الأسفلت صلبًا باردًا كالثلج في شهور الشتاء، جسدكِ كان ساخنًا ملتهبًا يحوط جسدًا أكثر سخونة والتهابًا، داخل رحمك، جسد آخر ينمو ويشرب دمك، تشربين السُّم وتشرفين على الموت، وتبقى هي في رحمك متشبِّثة بالحياة، تنتصر إرادتها على إرادتك، هل كرهت ابنتكِ لأنها جاءت إلى الدنيا بالرغم من إرادتك؟ لم ترغبي قط في الحمل، لكنها المصادفة؛ سقطَت الحبة من يدكِ وأنتِ تضعينها في فمك، أشياء صغيرة مثل حبة من حبوب منع الحمل قد تفجر الكون، الكون حدث مصادفة، الانفجار الكبير، تحبل الأمهات مصادفة، الحب لا يحدث إلا مصادفة، كل شيء صادق يحدث مصادفة، الجرائم تقتضي التخطيط والتربص وسبق الإصرار، جاءكِ المخاض في الليل، كما يأتي الأمهات دائمًا في الظلمة، كتمتِ الأنين كي لا توقظي الجميع، لا يوقظ النساء في السجن أي صوت، تنام الواحدة منهن كالجثة الهامدة وهي تحلم بالموت، دسست في فمكِ طرفَ ملاءتك، ضغطتِ عليها بأضراسك تسحقين الصرخة، كنتِ راقدةً على الأسفلت فوق ظهرك، فاتحة فخذيك، ضاغطة بيدكِ اليمنى على بطنك، على رأس الجنين، يتقلَّص جدار بطنكِ تحت كفكِ فتضغطين أكثر، يقل الألم بازدياد الألم، بيدكِ اليسرى تضغطين على الأرض، ترفعين جسمكِ قليلًا، تضغط عظام ظهركِ على الرحم، تكتمين الهواء في صدرك، ويضغط الهواء على بطنك، يختنق الجنين بالضغط، من فوق ومن تحت، يقاوم الاختناق فتشق المولودة طريقها برأسها الصلب، خارجة إلى الهواء عبر قناة المهبل، تتلوى فوق الأسفلت غارقةً في الدم، قطعة لحم نازفة ساخنة من فلذة كبدك، تلفِّين جسدها الملتهب بالبطانية الصوف، تفوح منها رائحة السجن، مزيجٌ من دموعٍ قديمة ودماء جديدة، نحل صوفها الرخيص بمرور الزمن، تغير لونها من سواد الرصاص إلى حمرة الدم الجديد، ومن البياض إلى صفرة البول والدموع القديمة، في الصباح حملْتِها فوق صدرك، وضعتها في الطشت في غرفة التنظيف، جففتِها بملاءة السرير، نظرتِ إلى عينَيْها الخضراوَيْن وأطلقتِ زغرودةً متحشرجة قصيرة، هي غير الصفارة الحادة الممدودة التي يسمونها الزغرودة، والتي تطلقها النسوة، بأفواههن وأنوفهن وأصابعهن، في الأفراح والمآتم.
في الصباح بحثتُ عنكِ في الخيام، في دورة المياه بالميدان، الرائحة هناك تُشبه رائحة السجن، الظلمة شديدة، انزلقت قدمي في المياه الطافحة، كدت أسقط لولا سرعة جسمي الذي استعاد توازنه تشبثًا بالحياة، الموت يتربَّص في هذا المكان، سرَتْ في جسدي قشعريرة، أجسمكِ غارقٌ في مياه المجاري، أم هو جسمي ممدودٌ أمامي؟ لا أفرِّق بين جسدي وجسدك، لا أرى إلا بعض أجسامٍ ملفوفةٍ بالبطانيات من الرأس إلى القدمَيْن، أصوات الشخير من الأنوف تختلط بأصوات الخرير من الصنابير، لم تكوني في أي مكان، الدنيا كلها خلَتْ منك، كأنما مات الكون.