الحب الثاني والثالث
كان الحب الثاني في حياتي لأبي، وكان الحب الثالث لأمي، تصورت أن أبي يستحق الحب أكثر من أمي، كان الناس ينادونني باسمه، يمتد الحب من الجسم إلى الاسم، كان لي زميلٌ اسمه عوضين، يهمس في أذني: كان والدك وطنيًّا عظيمًا لكن … يصمت طويلًا، يرمق رجال الأمن عند المدخل، ترتجف أصابعه رجفةً غير مرئية، ألتقطها بعينٍ سحرية في عصبٍ بالمخ، لم أسمع أحدًا يتكلم على حاسةٍ تزيد على السادسة، احتفظت بالسر لنفسي، خشيت أن يتهموني بخفة العقل أو الجنون، لم تعجبني النظرة في عيني عوضين، لكن عينه كانت مثل مغناطيس، يلتقط جسدي من ذرات الكون الهلامية، يخصني بالحديث عن الرئيس المستبد، والحكومة الفاسدة، والانتخابات المزورة، وينتهي حديثه معي بتركيز عينه على نهدي الأيسر.
كان بيتنا من غرفةٍ واحدة في بدروم إحدى العمارات، تحيط بها عمارات الجيران، منها عمارة الحاج منصور، انتقلت أمي إلى البدروم بعد موت أبي، بقالة الأب جرجس كانت خلف المكتبة، الجامع عند الناصية الشرقية له منارة أو مئذنة تمتد إلى السماء، والكنيسة عند الناصية الغربية لها جرس يرتفع إلى الرب، كلمة «الرب» تعني «الله» بلغة ماريانا ابنة جرجس، قالت: الرب شيء والله شيء آخر. أمي أصبحت ترتدي الحجاب ثم النقاب، وبدأت تضع كلمة الله في كل عبارة تنطقها، الله يرحم بابا يا حميدة، الله يرحم جدك، الله يرحمنا جميعًا، الله يغفر لنا ذنوبنا، إرادة الله فوق إرادة الجميع، في شهر رمضان تزيد أمي من نطق كلمة الله، وتدوي كلمة الله من الجامع المجاور وكل الجوامع وكل الإذاعات …
بيت كوكب كان لونه أبيض، من دورين تحيط به حديقة كبيرة، يلتف حولها سور حجري تتسلقه أشجار الياسمين والبوجانفيليا من كل الألوان، «الجهنمية»، شرفات البيت واسعة مرفوعة على أعمدةٍ مستديرة في نعومة الرخام، في الحديقة الخلفية ثلاث غرف، أكبرها للسائق، الوسطى للطباخ، الصغرى لامرأة كبيرة السن سمينة بيضاء البشرة، تناديها كوكب «دادا»، مكتبة الحاج منصور تجاور البيت، يفصلها عنه مشتل كبير للزهور ضمن أملاك الحاج، فوق باب المكتبة يافطة سوداء مكتوبٌ عليها بحروفٍ بيضاء «هذا من فضل الله»، كانت المكتبة تنمو العام وراء العام مع حركة السوق، ظهرت يافطة أكبر فوق اليافطة الأولى مكتوبٌ عليها «سوبر ماركت الإيمان»، تأخذني كوكب إلى داخلها المزدحم بالناس مثل خلية النحل، يُصيبني الدوار وأنا أمشي في الممرات الطويلة المتشعبة، أتطلَّع حولي بعينَيْن نائمتَيْن في الحلم، الرفوف اللانهائية تحوي كل نعم الله، أغدقها الله على الحاج منصور، من الإبرة إلى الصاروخ، كما تقول فتحية، تؤكد أن الله يعطي من يشاء بغير حساب، تمشي كوكب أمامي مزهوة بثراء أبيها، كان أبي لا يملك شيئًا إلا راتبه الصغير، أرسم على وجهي ابتسامة الانبهار، ثم تتقلَّص عضلات وجهي بتكشيرة، لم تفهم كوكب قط تقلبات وجهي، قلت لها إن الثراء الفاحش هو نتاج ظلم فاحش. هذه العبارة عثرت عليها في أوراق أبي، لكن كوكب كانت تؤمن بأن الخير يأتي من عند الله وبأن الفقر يأتي من عند الله، أصبح عوضين يردِّد كلامها، لم يعد يقترب مني أو يتكلم على أبي، يتبادل ورجال الأمن الابتسام، أصبح يركب السيارة مع كوكب حتى بيتها، يساعدها على كتابة مقالاتها الركيكة، كان لكوكب أصدقاء كثر، لكنها تزوجت نائب رئيس التحرير، اسمه بكري، جاءتْني بالبريد دعوة إلى حضور حفلة زفافهما في فندق هيلتون النيل يحضرها الوزير ورئيس التحرير، أرسلت إليهما باقة ورد مع كلمتين «تهنئتي القلبية»، ثم دخلت الحمام لأغسل طبقةً من الرماد تلتصق بجلدي، كانت حروف الكذب تتناثر من حولي، تتساقط رمادًا على جسدي، أحك جلدي بالليفة والماء الساخن، أستبدل الليفة بالفرشاة ذات الأسنان السلكية الخشنة، يلتهب جلدي تعلوه كدمات مدمَّاة وجروح، من دون أن يزول التراب، تظل الكلمتان الكاذبتان «تهنئتي القلبية» تسريان من أذني إلى رأسي، تختلطان بشعيرات الدم الدقيقة على نحو ذرات رماد لا يمكن غسلها …
قبل أن تملك كوكب السيارة كانت تركب حنطورًا له مظلة كبيرة تختفي تحتها، ما عدا قدمَيْها المكشوفتَيْن اللتَيْن أراهما داخل حذائها الجلدي الناعم اللامع ذي الرأس المدبب، كلما مر الحنطور في جواري وأنا أمشي في الشارع، يكاد يدوسني لولا رنين الجرس المعلَّق في عنق الحصان، وسرعتي في القفز بعيدًا عن العجلات بالرغم من حقيبة كتبي الثقيلة، كانت حرارة الشمس تُذيب الأسفلت فيصبح طريًّا كالعجين، يغوص فيه كعب حذائي فينخلع من قدمي لحظة القفز، تدوسه إحدى العجلات فيغوص أكثر، أضع حقيبتي على الرصيف لأشده من الأرض بيديَّ الاثنتَيْن، ثم أدس قدمي فيه وأسرع إلى المدرسة، لم تكن هذه العملية تستغرق دقيقةً واحدة، لكن العيون في الشارع كانت ترقبني، وكذلك العيون الأخرى في أبراج المراقبة التي لا أراها، لكني أعرفها وأكاد أراها لولا سطوع الشمس، كانت كوكب تسبقني إلى المدرسة راكبة الحنطور، أسمع من بعيدٍ حوافر الحصان تدق الأرض، صوت الكرباج يلسع الهواء قبل أن يسقط على جسده، لا تنتفض عضلة في جسد الحصان ولا شعرة، يندفع إلى الأمام يشق الهواء برأسه الشامخ فوق عنقه القوي الذي لا ينحني، يتحوَّل رأس الحصان في الحلم إلى رأس أبي، تسبقني كوكب إلى الفصل كما تسبقني في الامتحان، تجلس دائمًا في الصف الأول، تقيم المدرسة لأبيها احتفالًا كبيرًا آخر العام، كان يتبرَّع بمبلغ خمسة آلاف جنيه لمجلس الأهل في المدرسة كل سنة، تحول إلى ألف دولار بعد أرباحه في البورصة، كنت أفرح حين أمرض وأغيب عن المدرسة، أجلس في الصف الأخير، في جوار نافذة خلفية صغيرة، مفتوحة على السماء، أتطلَّع نحوها لأسرح بعيدًا من المدرسة والبيت والجيران والحنطور وكوكب وأبيها، تُراودني صورة أبي الميت في السجن، تتكوَّر الدموع في حلقي كالغصة فأصمت طوال الحصة، أتابع بزاوية عيني اليمنى حركة شفتي المدرس، لكن عيني اليسرى في ناحية النافذة حيث أرى طفلةً فقيرة تمشي في الشارع أظن أنها أنا، أصبحَت لي هذه القدرة على الفصل بين العين اليمنى واليسرى، كل عين ترى شيئًا، وأصبحت صورة الطفلة الفقيرة تشغل نصف عقلي الأيسر، يراجع نصف عقلي الأيمن الدروس وأنجح في الامتحان آخر العام بدرجة مقبول، تقول كوكب إنها أذكى مني لأنها تنجح بامتياز أو أقله جيد جدًّا، وتقول إنها ورثت الذكاء من أبيها؛ لأن الصفيح يتحول في يده ذهبًا، لكن أبي لم يكن ذكيًّا في نظرها؛ لأنه لم يعرف كيف يجمع الفلوس ومات في السجن فقيرًا منبوذًا …
كنَّا نخرج من المدرسة الساعة الخامسة والنصف، والشمس لا تزال ساطعةً ساخنة، في شهور الشتاء يحل الظلام قبل الخامسة، أعود إلى البيت حاملة حقيبة كتبي الثقيلة، كنت أخاف الظلمة لأن الأرواح والعيون الخفية تتخفَّى فيها، أنظر خلفي وأنا أمشي، حيث كنت أتخيل أن أحدًا يمشي خلفي، أو عينًا ترقبني؛ إذ إنني رأيت مرة شبحًا طويلًا يمشي ورائي، تملَّكتْني رغبة في الجري لكني تجمَّدت في مكاني كتمثال، كان قلبي ينتفض لكن عضلات وجهي تحجَّرت، توقف الشبح أمامي يرمقني بعين واحدة، أما الثانية فلم تكن موجودة، بدَت العين الواحدة مرعبةً أكثر من عينَيْن اثنتَيْن، تصورته كائنًا غير بشري، قبل أن أجري تحول جسدي إلى صخرةٍ، العين الواحدة بيضاء تمامًا ترمقني، تشبه عين الله حين يغضب إن لمست يدي تحت اللحاف الجرح المفتوح في جسدي، أغمض عيني وأحدق إلى العين الواحدة بكل قدرتي على التحديق من تحت الجفون، أصبحت أثق بأنني أحمل أبي في أحشائي، تنطلق من عيني روحه مثل لسانٍ من اللهب أو النار، تحميني النار من الشبح الراكض خلفي في الليل، كانت الأشباح كلها تتبدد حين أحدق إليها بعيني أبي الميت، أو تتراجع أمام نظرتي المسدلة جفونها …
كانت ماريانا جرجس في المدرسة تجلس عن يساري، وفاطمة عبد الله تجلس عن يميني، كان لأبيها محل للحلوى خلف الجامع، نشترك نحن الثلاث في المقعد الخشبي، لكلٍّ منا درج ليس له قفل نضع فيه كتبنا وكراريسنا وأقلامنا، وما نحضره من البيت من طعام، كانت والدة ماريانا تحشو لها رغيف الفينو بالجبنة الرومية والبسطرمة من بقالة أبيها جرجس، وكانت والدة فاطمة تلف لها فطيرة بالسكر الناعم، أو قطعة جاتو تعلوها طبقة من الشيكولاتة من محل أبيها الحلواني، في أثناء الفسحة كنا نخرج إلى الحوش لنأكل، كنت أجلس وحدي على دكةٍ خشبية خلف الفناء في جوار المكتبة، لم يكن معي شيء آكله، أخرج من دون فطورٍ في السابعة صباحًا، وأعود إلى البيت لأتناول العشاء، كان الجوع يقرصني في فسحة الغداء، أقضي الوقت في المكتبة حتى يرن الجرس، تمر ساعة الغداء من دون أن أحس بها وأنا أقرأ، كنت أرفض أن آخذ أي طعام من أحد، أحيانًا تأتي كوكب أو ماريانا لتجلس معي، قد تقدم لي واحدة منهما قطعةً من الساندويتش، أو إصبع موز أو نصف برتقالة، كنت أدعي أني أكلت، مرة واحدة قرصني الجوع ورائحة البسطرمة تفوح، ناولتني ماريانا قطعةً من الساندويتش فأخذتها، كان يمكن أن آخذها منها لأنها صديقتي، فاطمة تقول عنها إنها نصرانية «عضمة زرقا مصيرها جهنم الحمرا.» أما كوكب فسوف تدخل الجنة لأن أباها زار قبر الرسول محمد، وفي عيد الأضحى يرسل إلى الفقراء مصارين الخروف …
كانت فاطمة عبد الله توزع الكعك في العيد بعد شهر رمضان، تعطي كل بنت كعكة واحدة، إلا كوكب تحظى بكعكتَيْن اثنتَيْن، لم تكن تُعطيني شيئًا، ترمقني وأنا جالسة على الدكة وحدي، تمر أمامي مع بعض البنات، تهمس لهن بشيءٍ فأسمع ضحكاتهن من بعيد، ذات صباح رأيت كلمتَيْن محفورتَيْن بسن القلم فوق المقعد الخشبي أمامي «بنت الشيوعي» صعد الدم إلى رأسي وارتجَّ قلبي تحت ضلوعي، كلمة شيوعي رنَّت في أذني رنينًا شائنًا، حرف الشين ينطوي على الشر، تبدأ بحرف الشين كلمات مثل شريرة، شقية، شيوعية، شيعية، شعبوية، شيطانية، شبقية، لم أكن أفهم هذه الكلمات حتى دخلت المدرسة الثانوية، لكن كلمة الشيوعية التصقت بي، أصبح الأطفال في الشارع يرددون ورائي: بنت الشيوعي أهه أهه. تجرَّأ صبيان الشوارع على قذفي بالطوب، أو شد حقيبتي من يدي، أو شد حلمة ثديي من فوق المريول، أصبحت كلمة الشيوعية جزءًا من اسمي محفورة في جسدي، تطاردني في النوم واليقظة، من المدرسة إلى المعهد، حتى بعد أن بدأت العمل في المطبعة، لم تكف الكلمة عن مطاردتي، كانت فاطمة عبد الله تضع في درجها علبة ملأى بالأقلام، تتهامس دائمًا مع الزميلة الجالسة أمامها أو خلفها، مددت يدي في لحظةٍ خاطفة وأخذت من العلبة قلمًا أزرق، لم تلحظني فاطمة أو أي زميلة في الفصل أو المعلمة، كانت تتطلع خلفها إلى السبورة فلم ترني، تعودت الكتابة بقلم حبر أزرق، ثم بدأت أستخدم الأقلام الجافة الزرقاء، أشتريها من المكتبة مع الورق الأبيض غير المسطر، أحيانًا أدس القلم في حقيبتي من دون أن يراني أحد، قلبي ينتفض وألهث من الرعب، أخرج من المكتبة بخطًى بطيئة ثابتة كأنما لم أقترف جريمة، بعد أن أصبح في الشارع أجري إلى البيت ضاغطة تحت إبطي الحقيبة، داخلها الكنز الثمين، تجتاحني سعادة طاغية فأغنِّي في البيت، أرقص أمام المرآة، سعادتي بالقلم الأزرق الجديد الذي لم أدفع فيه شيئًا، وسعادتي بالإفلات من رجال البوليس، جريمة السرقة والفضيحة والسجن نجوت من الثلاثة بإرادة الله، أُومِن بالله حين يغمض عينه عن جرائمي، أتحسَّس القلم في يدي، ناعمٌ حنون كصدر أمي، أمر به على السطح الأملس مغمضة العينَيْن، تذوب الحروف الزرقاء في الورقة البيضاء في أثناء النوم، أدوِّنها في الظلمة تحت اللحاف من دون أن أفتح عيني، يظهر اللون الأزرق واضحًا فوق السطح الأبيض، يتسرَّب ضوءٌ خافت من تحت اللحاف، يمشي ناعمًا تحت جفوني له دفء الدموع، أرى أمي تصحو من النوم، تجلس أمام المرآة تصفِّف شعرها بمشطها المربع من العاج الأبيض، عيناها مكحلتان، أنفها من الجانب مرفوع، أبي في هذه اللحظة يكون واقفًا وفي يده كتاب، يرتفع الكرباج في الجو محدثًا صفيرًا يشبه الريح، يسقط الكرباج فوق رأس أبي الواقف دومًا، من دون أن يسقط الكتاب من يده، ومن دون أن تتحرك عضلة أو شعرة في جسده، يظل واقفًا برأسه المرفوع والكتاب في يده، مات أبي مرفوع الرأس قبل أن أصحو من النوم، قبل أن أرسم ملامحه بالقلم، قبل أن أتعلم الكتابة، كان الجيران يحكون عن أبي: كان المرحوم شامخ الرأس مثل جواد جامح، رأيت شعر أبي في النوم لونه أبيض كلون الحصان، كوكب داخل الحنطور لا يظهر منها إلا حذاؤها اللامع تحت المظلة، يرتفع الكرباج في يد الحوذي ثم يسقط فوق رأس الحصان المرفوع، يظل الحصان شامخًا يشق الكون نصفَيْن، من دون أن ترتعش في جسده شعرة أو ينحني رأسه …
في الليل تجلس سعدية فوق المرتبة وفي جوارها ابنتها هنادي نصف نائمة ونصف غائبة فيما يُشبه الغيبوبة، منذ عملية الإجهاض لم يكفَّ النزف، فقدت هنادي الكثير من وزنها، أصبح وجهها طويلًا شاحبًا وعيناها ازدادتا حجمًا واتساعًا واشتعالًا، تود أمها لو تضمها إلى صدرها، لولا الإحساس الغامض بالكره، لم تعرف سعدية أن الأم يمكن أن تكره ابنتها، أو أن الإحساس بالكره يمكن أن يتحول إلى غصة، إلى حبة فول تسد حلقها، حصاة أو قطعة زلط في حذائها تحك باطن قدمها، تتراكم أحزانها وأوجاعها منذ ولدت، وتتجمع في نقطةٍ ملتهبة أسفل ضلوعها فوق المعدة، تضغط عليها بإصبعٍ واحدة فتحس بأن المرارة تمتد من حلقها إلى أحشائها.
آه يا رب! كيف تصمت على هذا القهر المتراكم فوق ظهر امرأة واحدة، حتى كادت تبرك على الأرض كالجمل ينوء تحت حمله؟
كيف تبدَّد الأمل الوحيد الباقي في حياتها؟