اللحظة الخاطفة
لم يكن شاكر بيه ينظر ناحية هنادي فما باله يتبسَّط معها في الحديث، أو يشكو لها من زوجته، لأول مرة يتحدث معها بهذه الطريقة، ربما يعاني الألم ويطلب مساعدةً ما.
أحست هنادي بشيءٍ من الشفقة نحوه، عضلة تحت ضلوعها لانت له وتحمست للمساعدة، جلست في الكرسي تفكر وعيناها منكستان تنظران إلى قدمَيْها السمراوين الخشنتين تطلان من الشبشب، كانت مثل أمها تخلع حذاءها المتسخ بتراب الزقاق ما إن تدخل البيت، تخفي الحذاء تحت دولاب المطبخ، وتنتعل الشبشب الأصفر البلاستيك الذي أعطتها إياه الأستاذة، لا تنتعله إلا في البيت.
كان هو مستلقيًا فوق السرير تطل قدماه البيضاوان الناعمتان من المنامة الحريرية، فصعَّدت عينَيْها إلى وجهه المحتقن بحمرة الدم، يبدو عليه الألم.
خطر لها للتخفيف من ألمه أن تدلك قدمَيْه كما كانت تفعل مع الأستاذة حين تتورَّم قدماها من طول الجلوس خلف المكتب، تقول الأستاذة عن التدليك ماساج، أسرعت إلى الدولاب في الحمام وعادت ممسكةً زجاجة زيت اللوز، جلسة ماساج واحدة وتخف يا شاكر بيه، زي الأستاذة.
ابتسم شاكر واسترخى في السرير فاتحًا ساقيه.
كان لزيت اللوز الممزوج بالكولونيا رائحة ناعمة تشبه الموسيقى الحالمة التي تبعث في الجسم خدرًا لذيذًا.
– الأستاذة كانت بتحب الزيت ده.
أغمض شاكر عينَيْه وهو يئنُّ بصوتٍ خافت.
– الله يا سلام الماساج ده شيء ساحر!
– الأستاذة كانت دايمًا تقول كده.
تقلَّصت عضلات وجهه فجأة وقال بغضب: الأستاذة، الأستاذة، ما عندكيش غير الأستاذة؟ هي الأستاذة دي ربنا سبحانه إذا كان ربنا موجود؟
انتفضَت هنادي في الكرسي وكفَّت يديها عن الحركة، لم تسمع في حياتها أحدًا يتشكك في وجود ربنا سبحانه.
– أستغفر الله العظيم يا شاكر بيه.
– متأسف يا هنادي أنا مش طبيعي النهارده، يمكن التسمم الغذائي …
– أعمل لك كمان كوباية يانسون؟
– أظن أن التدليك أحسن من اليانسون يا هنادي.
– حاضر يا بيه.
– إيه حكاية بيه دي؟
ارتجفت يداها وهي تدلك قدميه.
– اطلعي فوق شوية يا هنادي، أيوه فوق السمانة ومفاصل الركبة آه، أيوه كده.
– انت جواك تعب كتير يا أستاذ شاكر.
شعرت بثقةٍ أكثر بنفسها حين قالت أستاذ بدلًا من بيه.
سكبت قطرات الزيت فوق ركبتيه وراحت تدلكهما بحماسة، سمعته يتنهد ويهمس.
– أيوه جوايا تعب كتير، الألم في كل جسمي، إنتي خبيرة في الماساج، أكثر من المتخصصين.
أرادت أن تضحك في سرور لكنها ابتسمت وقالت: المتخصصين درسوا الماساج زي ما أنا بادرس الكومبيوتر، كل شيء عاوز علم ودراسة.
– برافو عليكي يا هنادي، الفرق بين الدول هو العلم والدراسة.
– أيوه أمي دايمًا تقول كده، ولما أتخرج من المعهد هاشتغل ع الكومبيوتر وأمي تستريح من الشغل، حلم حياتي أن أمي تستريح.
لم يسمع شاكر بيه ما قالته هنادي لأنه كان ينقلب بجسمه فوق وجهه، كاشفًا عن ظهره.
– سلسلة العمود الفقري عاوزة تدليك قوي جدًّا يا هنادي.
– حاضر يا أستاذ.
تحرَّكت يداها فوق ظهره بقوة، بدت يداها أكثر سمرةً وخشونة بالنسبة إلى ظهره الأبيض الناعم، يبدو بياضه شاحبًا أبيض كأنما ليس فيه قطرة دم، مثل لون عجين العيش الفينو، أو لون الجير الأبيض على الحيطان النظيفة.
لأول مرةٍ في حياتها ترى ظهر رجل نظيفًا، ليس مثل ظهور الرجال في الزقاق، تطل من تحت قمصانهم البالية مسودة مشعرة خشنة كأنما من خشبٍ مشقق، بدا ظهر شاكر بيه أبيض ناعمًا طريًّا مثل رغيف فينو من الفرن الإفرنجي.
– آه يا سلام إيديكي فيها سحر يا هنادي.
ينتفخ صدرها زهوًا بقدرتها على منحِه كلَّ هذه اللذة والراحة، كانت يداها تدلِّكان ظهره بقوة، تنزعان عن عضلاته السموم، تخرجان من بين فقراته التعب والإرهاق، شعرَت هنادي بقوتها وأهميتها، تلاشى شاكر بيه المتكبِّر المتجهِّم القديم، أصبح تحت يدَيْها شاكر آخر أكثر مرونة تستطيع أن تجدِّده بيدَيْها، ليصبح إنسانًا جديدًا أو زوجًا أفضل للأستاذة فؤادة، هي تستحق زوجًا إنسانًا يراعي مشاعرها، كانت تسمع شجارهما أحيانًا من وراء باب غرفتهما المغلق، كانت ترى الأستاذة جالسة حزينة، أحيانًا تلمح الدموع في عينَيْها، تفكِّر ماذا تقول لها لتخفِّف عنها، لكنها تسكت، تتذكَّر نصيحة أمها، يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا ريحتها.
هنادي منهمكة في تدليك ظهر شاكر بيه، الممدود في استسلامٍ تحت يديها، يداها تتحركان كأنما بقوةٍ إلهية أو شيطانية قادرة على نزع السم من ناب الثعبان، انزلي شوية يا هنادي، عند الفقرات اللي تحت في السلسلة.
– حاضر.
وهبطت يداها تدلِّكان الفقرات أسفل ظهره، تتحرَّك أصابعها بحرصٍ حتى لا تلمس الشق بين أليتيه، أول مرة في حياتها ترى ظهر رجل وأليتيه، تشعر بضيقٍ في التنفس لكنها تواصل التدليك بهمةٍ وحماسة، وانقضَت لحظات لم تسمع فيها صوته، كأنما سقط في النوم، ثم رأَتْه ينقلب فوق ظهره وأصبحت يداها فوق صدره الأملس بدون شعر، تدلكان الترقوة والعضلات بين ضلوعه الناعمة الدقيقة التي تكاد تتكسر تحت قوة عضلات يدَيْها السمراوَيْن، ازداد إحساسها بقدرتها على التحكُّم في جسمه فاشتدَّت حماستها لإتقان عملها، حتى بدأت أنفاسه تسرع بوتيرةٍ غريبة مفاجئة، فتحول الزهو بنفسها إلى رهبةٍ غامضة، ثم تحولت الرهبة إلى فزعٍ حين رأت شاكر بيه يشدها إلى السرير لتصبح راقدةً فوق ظهرها وهو يضغط كتفيها إلى أسفل، ليصبح نهداها تحت صدره وبطنها تحت بطنه، كانت اللحظة خاطفة فانخطف بصرها وتوقفت أنفاسها، فلم تشعر إلا بيده تفتح فخذيها ويدخلها بقوة جعلتها تطلق صرخة مكتومة من الرعب واللذة والألم، والمقاومة والخضوع والإثم والخوف والرفض والعبودية والاستسلام اليائس، كأنما هو القضاء والقدر جثم عليها وزهق روحها، أو كأنه هو الرب ذاته أمرها ونفذ الأمر، الرب الذي خلقها والذي يحييها ويميتها ويمنحها الحياة أو يقصف عمرها ولا راد لإرادته، ودب الصمت في أذنيها مثل صفارة طويلة ممدودة بين السماء والأرض، كأنما فرغ الكون من البشر والكائنات الحية وغير الحية، إلا هو وهي الاثنان الوحيدان اللذان يعيشان بعد سقوط القنبلة النووية فوق الكون، حتى أمها سعدية زالت من الوجود.
شاكر بيه فوقها تسمعه يهمس أوه يا إلهي أوه … يتحرك داخل أحشائها وهي تضغط على شفتها السفلى، تكتم الألم حتى نزفت شفتها الدم، حاولت أن تدفعه بعيدًا عنها لكن قوة أكبر منها كانت قد سحبت منها قوتها، والألم الحارق بإرادة الله واللذة الخارقة بإرادة الشيطان.
كان جسده يتلوَّى من تحتها مثل قرموط ثعبان بشرته ملساء بيضاء ناعمة، ما إن تقبض عليه حتى ينزلق تحت العرق الغزير وزيت اللوز، يفلت من بين يدَيْها كالسمكة في البحر.
أفاقت من الغيبوبة وعادت إلى الوعي، رأتْه نائمًا فوق ظهره أو نصف نائم، فمه مفتوح في ابتسامةٍ معوجة، يهذي بكلماتٍ متقطعة مبتورة، أنا آسف أنا مغلوب على أمري … مراتي غالباني … مراتي لوح الثلج … أصلها كاتبة مش امرأة … يلعن دين الكتابة …
دق جرس الباب أو جرس التلفون أو جرس دراجة في الشارع تجمد كلٌّ منهما في مكانه، فتح عينَيْه كأنما يصحو من النوم أو الموت، أمرها أن تذهب إلى المطبخ ونهض هو إلى الباب، لكنه انتبه إلى أنه ليس جرس الباب، بل جرس التلفون.
كانت ابنته داليا تتكلَّم من الإسكندرية.
– داليا حبيبتي، وحشتيني.
كانت تسمعه وهي واقفة وراء الباب تمسح الدم من بين فخذَيْها بفوطة مطبخ قديمة، تندهش لقدرته على تقمُّص دور الأب، أن ينفصل عمَّا حدث ويعود إلى شخصيته القديمة، أرادَت أن ترفع يدها وتصفعه على وجهه، لكن يدها امتدَّت وأمسكَت يده، أرادت أن تقبل يده وتقسم له أنها فتاةٌ شريفة لم يلمسها أحدٌ قبله، لكن يدها تجمَّدت في الهواء، وقفت عاجزة عن الحركة، عاجزة عن النطق، تحس كأنما هي غير موجودة، أصبح وجودها عبئًا عليها أكثر من وجوده.
– واقفة كده ليه يا هنادي؟ ولعي السخان بسرعة عشان آخذ حمام، واغسلي ملاية السرير.
ارتجفت أصابعها وهي تُشعل عود الكبريت، تُدخله في ثقب السخان فينطفئ، تُشعل عودًا آخر فينطفئ، وأخيرًا نجح العود الثالث في إشعال السخان.
رأَتْه يمشي عاريًا ويدخل الحمام، أسرعَت إلى غرفة نومه، رأَت بقع دمها فوق ملاءة سريره، نزعتها وكورتها في يدها كأنما تُخفي جريمة، وفي الحوض دعكتها بالماء الساخن والصابون حتى تلاشت كأن لم تكن، سمعته يُدندن تحت مياه الدش بلحنٍ لا تعرفه.
جلست على البلاط في ركن المطبخ تحس بالبرودة مع الألم تنفذ إلى عظامها، والدم يسيل من بين ساقَيْها على البلاط الأبيض، دمها يلوث أرضه النظيفة كما لوث ملاءته البيضاء المكوية، ومياه الدش الغزيرة تغسل جسده الأبيض الناعم من رائحة دمها الفاسد، رائحة الدم تتبعها مثل ظلها، فوق الأسفلت في الميدان، والدم في السجن فوق الأسمنت، والدم في المستشفى، والدم في الزقاق وفي كل مكان، تضع وجهها بين يدَيْها وتبكي من دون صوت، تخشى أن يسمع نشيجها وهو في الحمام، تفكر في أمها فيرتعد جسدها، خرج من الحمام وارتدى البذلة الأنيقة المكوية، وانتقى الجورب الذي ينسجم لونه مع لون ربطة العنق، يتحرَّك في البيت بخفة، يصفر فمه وهو يمشط شعره كأنما لم يحدث شيء منذ دقائق، وكأنما لم يحطم قلب فتاة صغيرة، وسوف يحطم قلب أمها المكدودة، قبل أن يخرج قال لها: اسمعي يا هنادي اللي حصل حصل، إحنا الاتنين كان لازم نفكر بعقل، لكن نعمل إيه للشيطان، غلطة وفاتت وربنا يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك به، مش لازم حد يعرف اللي حصل، عشان سمعتك ومستقبلك.