في الخيم
تكوَّرت أمها سعدية تحت الخيمة فوق الأسفلت، لم تعد تسمع الهتافات المطالبة بالقصاص من القتلة والمجرمين، وبسقوط النظام، لفت ذراعَيْها وساقَيْها حول نفسها لتتقي الرجفة التي شملت جسدها وعقلها وروحها، مثل الحمى تجتاحها رغبة ملتهبة في الانتقام الآن في هذه اللحظة من المجرمين جميعًا، وعلى رأسهم هذا الرجل الذي يرتدي مسوح القديسين، والذي قضى على حلمها وحلم ابنتها في حياة فضلى، تفك ذراعَيْها وساقَيْها فيندفع جسدها خارج الخيمة صارخة اقتلوهم، اقتلوه. ثم يتهاوى جسدها إلى الأرض، تنتفض مثل الفرخة المذبوحة ثم يسكن جسدها من دون حراك، تتلفَّت حولها في ذهول، لا تعرف ماذا تفعل، ثم تنهض وتدخل الخيمة، تتكوَّر فوق الأسفلت في جوار ابنتها تنشج من دون صوت، لم يكن أحدٌ في الخيمة في أثناء النهار، فالجميع خرجوا في التظاهرات، الشباب والشابات من مختلف المهن والطبقات، والأطفال من مختلف الأعمار وكبار السن من النساء والرجال، ومنهم الكاتبة بدرية البحراوي، تركت بيتها مثل الآخرين وأقامت معهم في الخيمة، تهتف معهم: يسقط النظام.
أصبحت الخيام في ميدان التحرير الملجأ للكثيرين والكثيرات ممن ليس لهم بيوت أو ممن سئموا حياتهم في بيوتهم.
رقدت سعدية تنتفض من الكره المتراكم في جسدها منذ ولدت في الفقر والقهر والهوان، تحاول ابتلاع ريقها الجاف، في حلقها يتجمع الكره مع الرغبة في الانتقام كالغصة، تتحول المشاعر المكبوتة إلى ورحٍ من اللحم يسد حلقها ويمنعها من التنفس، تشهق كأنما تختنق تخرج أنفاسها مثل صوت مشروخ بكلماتٍ متقطعة … إزاي يا رب تعمل فينا ده كله؟ فين العدل فين الرحمة؟
تذكرت سعدية ما حدث في حياتها، زوجها الحشاش في الغرزة، ابنها المريض يموت بين ذراعَيْها، ابنتها تنزف في عملية الإجهاض، الطابور الطويل أمام الحنفية في الزقاق، مفاصل ظهرها تئنُّ فوق الأسفلت، تسري الكراهية من حلقها إلى عمودها الفقري، تمشي في عروقها مع الدم مثل رءوس الدبابيس، تنخس ظهرها وبطنها وذراعَيها وساقَيها.
آه يا رب! إزاي انخدعت في الراجل ده؟ شكله من بره ملاك ومن جوه شيطان؟ دخل السجن عشان الغلابة والمساكين؟ آه يا نصاب، نصبت على الناس كلها حتى على مراتك الأستاذة فؤادة الست الطيبة؟
انتفضت عضلة تحت ضلوعها بلذَّةٍ قادمة، حين تكشف حقيقته للأستاذة، لكنها تفكر، تتراجع، لا يمكن أن تتسبب بكل هذا الألم للأستاذة، التي منحتها الصداقة والرعاية وكانت كريمة معها ومع ابنتها، أيمكن أن تهدم حياتها المستقرة مع زوجها ولهما ابنة وطفل مقبل في الطريق، الأفضل أن تواجهه وحده، أن تنزع بيديها القناع عن وجهه وتبصق عليه، لن تكفيها البصقة، لا بد أن تصفعه، لن تكفي الصفعة، لا بد أن تضربه على رأسه بالشومة كما فعلت مع زوجها، لكن إذا مات يا سعدية فسوف يأخذونك إلى السجن، وتصبح ابنتك هنادي وحيدة في هذا العالم، ابنتها هنادي قطعة من قلبها كما كان ابنها قطعة من قلبها، أقدمت على قتل زوجها من أجل ابنها، ويمكن أن تقتل شاكر من أجل ابنتها، أما هو فلا قلب له، يقدم على قتل ابنه بدمٍ بارد بعملية الإجهاض؟
لم يطرف له جفن وهو يقول لها: يجب أن تجري هنادي العملية، كيف لأب أن يقتل طفله في رحم فتاة صغيرة بريئة شاركها في الفراش؟
ألم يشعر بتأنيب الضمير؟
تتكور سعدية حول نفسها، تسمع من بعيد الهتافات، كان شاكر يمشي بين المتظاهرين وهو يهتف ضد الظلم والفساد، أيمكن أن يهتف ضد نفسه؟ أم أنه لا يعرف ما يفعله؟ وكيف لا يعرف وهو يملك العلم والمعرفة والقوة والسلطة؟
إنه يملك كل ما لا تملكه هي، الخادمة الفقيرة الجاهلة، سوف تعطيه درسًا في الأخلاق والإنسانية، فالأخلاق والإنسانية ليس لهما علاقة بالعلم والقوة والسلطة، بل العكس يا سعدية، تقل الإنسانية والأخلاق بازدياد العلم والقوة والسلطة، سوف تؤكد لشاكر بيه أن كرامة ابنتها لها ثمن غال، وأنه لا يمكنه امتهان ابنتها وسلب شرفها ومستقبلها من دون أن يدفع الثمن، ليس بالمال يا شاكر بيه؛ لأن كنوز الدنيا لن تعوض ابنتي ضياع حلمها للانعتاق من حياة الزقاق العفنة، والسكن في شقةٍ نظيفة فيها سرير ومطبخ وحمام فيه ماء، وأنها هي أمها المكدودة من التعب، التي انكسر ظهرها تحت العبء ونزفت دمًا حتى أوشكت على الموت، لن تقف في الطابور الطويل كل يوم ساعتَين لتملأ الصفيحة، وسوف تأخذ حقها وحق ابنتها بيدها.
أيوه يا سعدية برغم أنكِ لا تقرئين ولا تكتبين ولم تدخلي مدرسة، لكنكِ تعرفين عن ضميره الغائب وقلبه الفاسد أكثر مما هو يعرف، أكثر مما تعرف زوجته الأستاذة الكاتبة المتعلمة التي تشاركه في الفراش كل يوم.
تخبط سعدية بيدها السمراء المشققة فوق الأسفلت، تخبط الأرض الصلبة بيدٍ أصلب من الأرض، تستمد القوة من صلابة الأسمنت تحتها في الخيمة، من أصوات الملايين التي تهتف: يسقط الفساد والظلم. تشعر سعدية بقوةٍ جديدة تغزوها في مواجهة شاكر بيه، يمكنها بكلمةٍ واحدة تخرج من بين شفتَيْها أن تهدم حياته وتخرب بيته، أن تحرمه سعادة الحياة مع زوجةٍ محبة مخلصة له وابنته داليا الرقيقة الحنون وابنه القادم في الطريق.
أيوه يا سعدية لا بد أن تحطمي هذا الرجل كما حطم حياة ابنتك، ولا تدعيه يستمر في تحطيم البنات الأخريات.
تهب سعدية واقفةً تنفض عن جلبابها التراب، ابنتها هنادي سقطت في النوم، غطتها بالشال الصوفي الأخضر الباهت الذي أعطتها إياه الأستاذة فؤادة في بداية الشتاء.
تخرج سعدية من الخيمة ومن الميدان، يدبُّ في جسمها نشاطٌ مفاجئ ودماء حارة تتدفق في عروقها، لم تعد تشعر بالآلام في ظهرها أو وجع المفاصل، تمشي بخطى واسعة سريعة، ظهرها مستقيم، عيناها مرفوعتان نحو السماء تتحديان الآلهة والشياطين.
هو الذي فتح الباب حين دقَّت الجرس، كان مرتديًا البذلة الكاملة استعدادًا للخروج، بادرها قائلًا: الأستاذة في مؤتمر في نيويورك، وأنا مسافر مع داليا إسكندرية، خدي إجازة خمس أيام يا سعدية وتعالي السبت الجاي.
أرادت أن تفتح فمها وتقول شيئًا لكن صوتها لم يخرج، كان واقفًا محصنًا داخل البذلة المكوية ذات الخطوط الحادة القوية حشوة الكتفَيْن تكسبهما سماكة وصلابة، كان واقفًا في المدخل محصنًا بالبيت وبالجدران التي فوقها اللوحات والمكتبة الملأى بالكتب، يبدو أطول مما كان وأصلب، كأنما هو مصنوعٌ من حجر، أو جبل لا يمكنه الصعود إليه فكيف ترفع يدها وتصفعه؟ أو تجري إلى المطبخ لاختطاف السكين من الدرج وغرزه في قلبه؟ أو تفتح فمها وتبصق عليه؟
ظلَّت واقفة أمامه تنتفض داخل جلبابها القديم الباهت، تنظر إلى قدمَيْها السوداوَيْن المتشققتَيْن داخل شبشبها المتهرئ من البلاستيك.
– تحبي أوصلك بالعربية يا سعدية؟
هزَّت رأسها بالنفي من دون أن تنطق.