القاهرة أم نيويورك
كانت الشمس مشرقةً في مدينة نيويورك، والنافذة الكبيرة تكشف مساحات الخضرة الممتدة إلى الأفق، تملأ الكاتبة فؤادة رئتيها بالهواء النقي، عيناها تمتصان الخضرة بشهوة الظمأ إلى اللون الكثيف الأخضر مبللًا بقطرات مطر أو ندى خفيف، بلورية رقراقة، فصوص لؤلؤ تهبط في الليل فوق الأشجار، تمتصُّه الأغصان والأوراق الخضراء عند الفجر، قبل خروج القرص الأحمر الساخن من بطن الأرض.
جفونها ثقيلة تسقط فوق عينيها المرهقتين في إغفاءةٍ قصيرة أو طويلة، تتلاشى اللحظة الحاضرة والعشرة آلاف ميل التي قطعتها الطائرة بالأمس عبر البحار والمحيط، من قارة أفريقيا إلى قارة أمريكا، تعود ذاكرتها إلى الوراء حين كانت طفلة في التاسعة من العمر، في المدرسة الابتدائية، تظن أن قريتها هي كل الدنيا، قرص الشمس تظنه يولد من بطن الأرض، وقطرات الندى تهبط من السماء بأمر الله، كان الطريق الزراعي يمتد طويلًا من البيوت الطينية المتلاصقة السوداء، إلى الحقول الخضراء الواسعة الممتدة حتى النيل، كانت تمشي عند الفجر وفي جوارها عبد الجليل ابن عمتها، يجر الجاموسة بحبلٍ طويل ومن خلفه العنزة الصغيرة، التي كانت تنطلق من دون قيد تسبقهم إلى الحقل، فروتها بيضاء مثل القطن، إلا رأسها وذيلها فلونهما أسود، تتقافز هنا وهناك، ذيلها يهتز فرحًا بحريتها، ربما تحمد الله لأنه خلقها عنزة وليس جاموسة يجرونها بالحبل.
كانت فرحة بحريتها كالعنزة، لا يجرها عبد الجليل بحبل، تسبقه إلى الحقل برغم أنه أكبر منها وساقاه أطول من قائمتيها، لكنه مقيدٌ بحبلٍ يربطه بالجاموسة البطيئة، تشده إلى الوراء من حينٍ إلى حين لترعى العشب على جانبي الطريق، يسخر عبد الجليل من نفسه كعادة الفلاحين في مصر منذ عصور السخرة ويقول: أنا مربوطٌ مع الجاموسة بالحبل يا فؤادة. تشفق عليه في أعماقها، مسكين عبد الجليل، أبوه فلاح فقير لم يدخل مدرسة، وأمه تشتغل في الحقل وتعجن روث الجاموسة، يداها متشققتان وكعباها سوداوان كلون الأرض، تجري على الطريق الزراعي، تشكر الله في سرها، لا بد أن الله يحبها أكثر من عبد الجليل، ابن الفلاح الفقير، وهي تحب الله أكثر من الآلهة الآخرين، رأت صورهم في كتاب التاريخ بالمدرسة، رع وآمون وأوزوريس وإيزيس ومعات، كان أجدادها في مصر القديمة يؤمنون بهم.
تنطلق ساقاها الممشوقتان تسابقان الريح، جسمها خفيفٌ تكاد تطير كالعصفورة لولا جاذبية الأرض، لا تطير إلا مسافة محدودة ثم يسقط جسدها مشدودًا إلى أسفل بقوةٍ خفية، يساورها غضبٌ خفي من الله، يحب الطيور أكثر من الناس فمنحها أجنحة؟
لكن الغضب سرعان ما يتلاشى خوفًا من عقابه وناره الحارقة بعد الموت.
يبدو موتها بعيدًا عنها أو مستحيلًا، تنطلق، تجري بين الأشجار على جانبي الطريق كأنما إلى الأبد.
قطرات الندى فوق الأوراق الخضراء تلمع شفافة رقيقة، ثم تتبخَّر فجأة مع طلوع الشمس، تندهش لسرعة تغير الأشياء من حولها، لحظة بعد لحظة تختفي أشياء وتظهر أشياء، تتغير ألوان الشجر والأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم، تتغير رائحة الزرع في الحقول والزهور والهواء، تتألق الأضواء على صفحة النيل وتتكسر وتخبو، تتغير حركة الموجات الصغيرة تهبط مع التيار من الجنوب إلى الشمال، تنبهر، تندهش، ثم تزول الدهشة والانبهار ويصبح كل شيء عاديًّا، عيناها بالرغم من تعب الرحلة الطويلة تتسعان بدهشةٍ طفولية، يتلاشى الزمان والمكان في غمضة عين، والأهل والوطن والجغرافيا والتاريخ، كل شيء من حولها يتغير، حتى جسدها على المقعد في جوار النافذة، لم يعد جسد الطفلة التي كانت تسابق الريح، أصبحت كاتبة وامرأة ناضجة زوجة وأمًّا، جسدها لا يزال قويًّا مشدود العضلات، لكنها لم تعد تسابق به الريح، ترتدي قميص نوم جديدًا غير مألوف، اشتراه لها جورج نلسون في المطار، قال الموظف في شركة الخطوط الجوية الأمريكية وهو يقرأ من شاشة الكومبيوتر أمامه: نحن في أشد الأسف على تخلف حقيبة الأستاذة في مطار القاهرة، وسوف تصل الحقيبة صباح الغد على طائرةٍ أخرى، ثم اتجه إليها وقال: يمكنكِ يا أستاذة شراء ما تحتاجين إليه هذه الليلة من ملابس داخلية، تسدد الشركة ثمنها تعويضًا من تأخُّر الحقيبة، لكن أرجوكِ لا تشتري قميص نوم شهرزاد بألف دولار.
ضحك الموظف كاشفًا عن أسنانٍ بيضاء لامعة تشبه الصور في الإعلانات عن أنواع معجون الأسنان الأمريكية، يتكلم لغةً إنكليزية بلكنةٍ أمريكية شمالية متآكلة الحروف.
لم يضحك جورج نلسون، ربما لم تعجبه الفكاهة غير المناسبة للأستاذة المصرية، يغازلها موظف المطار بالطريقة الأمريكية الفجة، يتصنَّع خفة الدم، يخاطبها كأنما هي أنثى جذابة مثل شهرزاد ونساء ألف ليلة وليلة، وهي أستاذة ذات قيمة أدبية محترمة.
ضحكَت فؤادة متخففة قليلًا من التعب، وسألت موظف المطار: ماذا تعرف عن شهرزاد؟
قال الموظف بسرعة كمن حفظ الكلمات عن ظهر قلب: كانت زوجة الملك شهريار أخضعته لإرادتها بذكائها، وأنقذت حياتها وغيرها من البنات، قرأت القصة في المدرسة الابتدائية ولم أنسها قط.
– برافو مستر؟
– اسمي ديفيد.
– برافو يا مستر ديفيد.
جورج نلسون واقفٌ في جوارها، وهي تملأ الأوراق الخاصة بحقيبتها المفقودة، تشعر بوجوده، كما شعرت به في أول لقاء منذ عشرة أعوام، لها قرون استشعار منذ الطفولة، ورثتها عن جدةٍ بعيدة من جداتها القديمات، أقدم من الجدة معات، قبل آمون وأخناتون، لم يكتشف العلم مصدرها، أو الجينات التي تكونها، ويمكن توارثها عبر آلاف الأجيال، هناك فئات من البشر تلقاهم فؤادة مرةً واحدة في العمر، ولا تنساهم، وهناك فئاتٌ أخرى، تلقاهم ألف مرة، ولا يبقى لهم في ذاكرتها أثر.
جورج نلسون، بقي في خيالها بدون أن تعرف السبب، أمه بيضاء كاثوليكية من كندا، أبوه مسلمٌ من السنغال، جده الكبير أرثوذوكسي من إيطاليا، وجدته الكبرى بوذية من الهند، خليطٌ من الدماء، يرفع بعض الناس فوق الحدود المرسومة، لكن الأمر ليس تعدد الهوية أو الدماء المختلطة المنابع فحسب، بل هناك شيءٌ آخر غامض ربما هو الحضور أو الوجود.
لم يتغير إحساسها بوجوده منذ عشرة أعوام.
السؤال يدور في رأسها.
إحساسٌ ينبع من أين؟ مكانٌ غامض في عقلها؟ في الجسد أو الروح؟ ذبذبةٌ خفيفة في صمام البطين داخل القلب؟
بطرف عينها ترمقه وهو واقفٌ في جوارها، يده اليمنى فوق الطاولة، أصابعه طويلة ممشوقة، مفاصله بارزة قليلًا، ظهر يده أحمر اللون محروق بالشمس، تتخيله في قريتها يشتغل بالفأس مثل عبد الجليل الفلاح ابن عمتها، أو في النادي الرياضي قابضًا بيده على مضرب التنس، طويل القامة مستقيم الظهر، يرتدي قميصًا أبيض من دون ربطة عنق، وبنطلون رصاصي أدكن اللون، تتركز الزرقة في بؤرة عينيه وهو ينظر إلى موظف المطار، ويسأله: وما حدود ثمن القميص الذي تستطيع شركتكم دفعه للأستاذة؟
قال الموظف: مائة وخمسون دولارًا أو مائتان على الأكثر.
يحمل جورج نلسون لقب بروفيسور، أستاذ دكتور، كان في استقبالها في المطار، ليس من عمله استقبال أحد، لكنها تحتل مكانةً خاصة عنده لا يعرف ما هي بالضبط، لم يلتقها منذ عشرة أعوام، كانت فؤادة مرهقة بعد الرحلة الطويلة من أفريقيا إلى أمريكا، ولا يمكنها التجوال في سوق المطار لشراء القميص، بادر إلى القول: هل أنوب عنك؟ أتثقين باختياري؟
هزت رأسها بالإيجاب.
عاد إليها بعد نصف ساعة بقميصٍ حريري شفاف ثمنه مائة وثمانون دولارًا، صاحَت: هذا القميص يناسب فتاة مراهقة ليلة زفافها، كما أنني لا أنام إلا في قميصٍ من القطن المصري طويل التيلة. وضحكت.
– ومن أين أحصل على هذا القطن هنا في أمريكا؟
– ألَا تستولون يا جورج على القطن المصري مثل الاستعمار البريطاني؟
ضحك جورج.
– نحن في الحقيقة أشد شراسة من الاستعمار القديم.
هذه المشاكسات حدثت بينهما منذ أول لقاء، ينتمي مثلها إلى الفكر الاشتراكي الناقد للاستعمار والسوق الحرة والعولمة، مؤلَّفاته ومحاضراته حرضت الطلاب والطالبات على المشاركة في التظاهرات ضد النظام الرأسمالي والحروب الاقتصادية والعسكرية، تركها جالسة مسندة رأسها إلى الحائط، عيناها محمرتان قليلًا نصف مغلقتَيْن، راح يبحث في السوق بالمطار، عاد إليها بعد نصف ساعة ومعه قميصٌ مكتوب عليه «مائة في المائة» من القطن.
– شكرًا يا جورج.
ضحكَت، تتخفف من الحزن، في أعماقها حزنٌ غامض متراكم، وتحت ضلوعها ترفرف عضلة صغيرة فرحًا بشيءٍ جديد، أهو القميص من القطن المصري مائة في المائة؟
بالرغم من نعومة القميص والتعب، أصابها الأرق تلك الليلة، فتحت جفونها تنظر إلى السماء من خلال الزجاج المغلق، بدت السماء المظلمة السوداء هي سماء القاهرة، تذكرت أن الشمس تطلع في مصر قبل أمريكا بسبع ساعات، في القاهرة الآن الضوء ساطع في منتصف النهار، يغلبها الحنين إلى طفلةٍ ولدتها في الوطن ثم ماتت وهي تحبو، أو إلى جدةٍ قديمة عاشت وماتت قبل أن تولد.
تتقلب في الفراش الوثير الذي له نكهة معطرة تنعشها قليلًا، يقفز خيالها فوق القارات والبحار والمحيطات وجسدها تحت الغطاء.
هل كانت أمس في القاهرة؟ هل هي اليوم في شمال الولايات المتحدة الأمريكية؟ يعود إليها الشك الطفولي في ما حولها، كأنما العالم الخارجي غير موجود إلا في خيالها، أو أنه يتغير ويتشكل وفق مزاجها وإرادتها، انتهى الليل وطلع النهار، أشرقَت الشمس قوية دافئة تشبه شمس قريتها، بعض سحب بيضاء قليلة في الشمال ناحية كندا، الهواء مشبع بالخضرة المروية برائحةٍ تشبه طمي النيل أو طين الترعة، تحمل قريتها معها أينما سافرت، لم تَعِش في القرية إلا فترة قصيرة من طفولتها، جذورها راسخة في الأرض، في خلايا عقلها، يستحيل اقتلاعها من ذاكرتها وإن أرادت، مدينة القاهرة مجرد فرع من القرية، مهما قويت وتجبرت القاهرة تضيع من ذاكرتها، تنساها بالرغم من أنها ابتلعت حياتها كالحوت، ابتلعت مراهقتها وشبابها وعمرها كله، حوت ضخم من الأسمنت المسلح، مدينتها عاشت عمرها في جوفها الحديدي وكرهتها، تود الفرار من فكيها القابضين على عنقها من دون جدوى، تسحقها المدينة التي يسمونها القاهرة، المقهورة بحكامها، القاهرة لأهلها منذ قرون السخرة والعبودية، وصلت حقيبة ملابسها في اليوم التالي حتى غرفتها في الفندق، في الدور الثلاثين تطل على مدينة نيويورك وناطحات سحابها جاردن فيليج، فندق من خمسة نجوم لا ينزل فيه إلا الشخصيات الكبيرة، والأستاذات والأساتذة من ذوي الدرجات العالية، لا يقبل عقلها فكرة أنها واحدةٌ من هذه الطبقة المتجمدة فوق القمة، ربما يكون جورج نلسون غير هؤلاء، في أعماقها تنتمي إلى المعذبين في الأرض، ليست فقيرةً مثل عبد الجليل ابن عمتها أو الفلاحين في قريتها، لكن هل تخرج طفلة من قرية مظلمة مدفونة في بطن النيل؟
كل شيءٍ من حولها يبدو عاديًّا، رأَتْه من قبل، في حياةٍ أخرى، يلوح لها وجه أمها غارقًا في الدماء، ثم يتلاشى كالحلم.
تصحو فؤادة من النوم غارقة في العرق، ترتعش من البرد، لا تعرف أهي مدينة القاهرة أم نيويورك، تحمل غرفتها الرقم واحد في الدور الثلاثين، تطل نوافذها الكبيرة الزجاجية على الخضرة الدكناء، والأشجار الكثيفة الأغصان والأوراق، وزهور متعددة الألوان، عيناها تمتصان الخضرة والألوان، محرومتان من الخضرة والألوان على مدى السنين، منذ أن تركت القرية وأصبحت من أهل المدينة، بدَت القاهرةُ من نافذة الطائرة على شكل كتلٍ من الأسمنت والخرسانة والحجر والطوب، مساحات من البيوت المتلاصقة الممتدة إلى ما لا نهاية، بحثت عيناها عن شجرةٍ واحدة من دون جدوى، يأكل الأسمنت الشجر والزرع؟ تزحف الصحراء إلى الوادي وينكمش النهر؟ لم يعد النيل هو الإله القديم، أصبح خطًّا رفيعًا يتلوَّى كالثعبان، مخنوقًا وسط كتل صلبة لونها كلون القطران.
يعني جاردن فيليج باللغة العربية «قرية الحديقة» هي الحي الأخضر في هذه المدينة على غرار «جاردن سيتي» في القاهرة.
مدينتها لا يمكن الفكاك منها، مدفونة في بطن عقلها تحت خط الفقر والمرض والجهل، الثالوث المزمن، قبل أن تولد لم يكن يحمل لقب «صاحب الجلالة» إلا الله والملك، فاروق الأول ملك مصر هو الأخير من حكامها غير المصريين، آخر سلالة محمد علي باشا، الجندي الألباني، الذي حكم مصر عشرين عامًا، كانت هي تنطلق خارج الرحم تشهق بأول نفس، ومصر تنطلق من تحت الحكم العبودي، يغني الراديو: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، مصر مصر أمنا، يرتفع صوت جمال عبد الناصر يعلن الحرب على الثالوث المزمن الاستعمار والإقطاع والرأسمالية المستغلة.
كانت طفلة تحبو حين سمعت صوت عبد الناصر يعلن تأميم قناة السويس، الراديو يبث أناشيد النصر الوطني، تنجذب عيناها إلى البريق في عيني عبد الناصر، أنفه يبدو لها أطول من اللازم، وصوته يهز جدران الراديو والبيت، أمها تنصت إلى خطب عبد الناصر وتصفق فرحًا حين خرج الإنكليز من مصر ويوم تأميم قناة السويس.
كان خالها محمود يكره عبد الناصر، يقول عنه متآمر مخادع يدغدغ مشاعر العمال والفلاحين بوعودٍ كاذبة بإعادة الثالوث المزمن، الفقر والجهل والمرض.
تختلف أمها معه، تقول له: عبد الناصر اشتراكي مش شيوعي زيك يا محمود.
– إيه الفرق بين الاشتراكية والشيوعية يا أختي العزيزة؟
– يسألها بسخريةٍ محاولًا أن يكشف لها جهلها، وأنها لا تعرف الألف من كوز الذرة في السياسة. يمتد الحوار بينهما حتى يعود أبوها من الجامعة، ويعلن أن مصر لن تتحرر بالخطب الثورية، اشتراكية شيوعية أو اشتراكية أو إسلامية، كان أبوها يقول: العلم هو الإله، لا تقنعه الأحزاب السياسية، يقول إنها ظواهر صوتية، من حزب الوفد إلى الليبراليين إلى الناصريين إلى الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين.
يلوح بيده ضجرًا ويقول: كلهم يتاجرون بمعاناة الشعب الفقير يا محمود.
– مش كلهم يا محمد بيه.
– مين فيهم مخلص يا محمود؟
– إحنا الشيوعيين مخلصين يا محمد بيه.
– يمكن إنت يا محمود مخلص لأنك شاب مثالي، لكن قياداتكم كلها مغرضة.
يأتي عمها مصطفى (شقيق أبيها) في زيارةٍ من حينٍ إلى حين، ويشارك في الجدل الدائر، كان مصطفى عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، يقول: إن الإسلام هو الحل لكل المشاكل.
لا تفهم الطفلة شيئًا من النقاش الدائر بين أبيها وأمها وخالها وعمها، قد تعلو أصواتهم الزاعقة وهي نائمةٌ في غرفتها، تتصور أحيانًا أن معركةً ستنشب، ويضرب كلٌّ منهم الآخر بالكراسي أو اللكاكيم، لكن سرعان ما تهدأ أصواتهم، ثم تسمع ضحكاتهم المرحة في غرفة الطعام، واصطكاك أسنانهم وملاعقهم وسكاكينهم، في أثناء تناولهم العشاء الشهي من اللحم المشوي، رأَت أمها تبكي ذات يومٍ وتصب اللعنات على عبد الناصر وأعوانه.
– شوية عساكر مجرمين يا فؤادة، حطوا خالك محمود وعمك مصطفى في السجن. الكلمة ترن مفزعة بصوت أمها.
– السجن؟
تشرح لها أمها ما حدث، محمود ومصطفى وغيرهما من الشباب في السجون، يعاقبون على نقدهم «سياسة عبد الناصر» بالحرق بأعقاب السجائر المشتعلة، ونفخ بطونهم بالخراطيم والضرب بالشوم.
– شوية عساكر مجرمين يا فؤادة.
لم تكن تفهم بعد لا في السياسة، ولا في الشيوعية، ولا الإخوان المسلمين، رأت أمها تبكي ذات يوم، وأبوها يلوح بيده في وجه مذيع الأخبار في التلفزيون ويزعق: هزيمة منكرة مش نكسة يا عبد الناصر يا كذاب.
لم تعرف حينئذٍ ما الفرق بين الهزيمة والنكسة، كان زميلٌ لها في المدرسة الابتدائية، اسمه جابور، أبوه ملحقٌ ثقافي في سفارة المجر، أمه من أب إسباني وأمها جزائرية وجدتها نرويجية، خليط من الدماء والأجناس يبدو ساحرًا، طويل القامة ممشوق الجسم، يلعب التنس ويعزف على الكمنجة، أصابعه طويلةٌ نحيفة ممشوقة العظام.
لم تكن تحب الأولاد من ذوي الأصابع القصيرة السمينة، مثل خالها محمود، كانت أصابعه قصيرة سمينة، تشبه أصابع أمها، عمها مصطفى كانت له أيضًا هذه الأصابع القصيرة البضة، بالرغم من أنه شقيق أبيها.
كانت فؤادة معجبةً بقامة أبيها الطويلة النحيفة، يمارس الجري والسباحة في النادي، وأحيانًا التنس، ورث أبوها قامته الفارعة من جدته، لم تدخل جدته مدرسة، علَّمت نفسها بنفسها، وكتبت قصائد الشعر منذ طفولتها، كان جابور أول حب في حياة فؤادة من أول لقاء، أصابعه النحيفة تضرب أوتار الكمنجة بقوة، تصورت أنها يمكن أن ترحل معه إلى المجر أو إلى آخر الدنيا.
لم تكشف سرها الخطير إلا لزميلةٍ لها في المدرسة، تسكن في بدروم العمارة المجاورة لها، أبوها عاملٌ فقير في مصنعٍ لكنه أبٌ حنون، يحب ابنته وزوجته، ويشتري لهما الجمبري، تأكل فؤادة مع صديقتها الجمبري الذي تطبخه أمها، تندهش الأم لأن ابنتها لم تصادق من بنات العمارة إلا ابنة العامل ساكن البدروم، كانت تترك لابنتها بعض الحريات غير الضارة، مثل حرية اختيار الصديقات، أما جابور فلم تعلم عنه الأم شيئًا، إلا بعد سنواتٍ من رحيله مع أبيه إلى المجر.
يوم الوداع أعطى كلٌّ منهما الآخر خصلةً من شعر الرأس، خلط كلٌّ منهما قطرة دم من إصبع الآخر، تبادلا القسم على الزواج بعد أن يكبرا ويستقلا عن الأب والأم.
شاركت فؤادة، وهي طالبة في الجامعة، في تظاهرات الخبز، نسيَتْ حبيبها القديم جابور بمرور الأيام وحرارة الأحداث، وقعت في حب ماجد أحمد زميلها في الجامعة، لم يكن حبها الجديد «قويًّا» مثل السابق في المراهقة، ربما نضجَت أكثر، أو أن «ماجد أحمد» لم يكن هو الحب.
كان ماجد أحمد متوسط الطول، لم يكن ممشوقًا أو رياضيًّا، لم يعزف على الكمنجة أو العود أو البيانو، لم تكن تهتز حين تراه، كما كانت تهتز حين ترى جابور أو ابن عمتها الفلاح عبد الجليل.
في مفكرتها تحت وسادتها كتبت بالقلم الرصاص:
«الحب أمرٌ غامض، يحدث أو لا يحدث، من دون سبب أعرفه.»
علامة الحب فقط تراها، البريق المشع من العينَيْن، تراه في عينَيْ من تحبه أو من يحبها، هل شعرت أن ماجد أحمد يحبها؟
ربما كان معجبًا بها، كان لها بعض معجبين في الجامعة لا تنتبه إليهم، بالرغم من عدم اهتمامها بهم، أو بسبب ذلك، كانوا يهتمون بها، لم تحس بوجودهم كجنسٍ آخر، ربما تأثير أمها وأبيها فيها، غرس فيها بذور الطموح في العلم أو الأدب، ليس في الزواج والأطفال.
في المدرسة الثانوية، تفوقت بالرغم من انغماسها في الحب، لا تنسى واجب المدرسة ومراجعة دروسها، تحب أن تحل مسائل الحساب وعمليات الجبر والهندسة، وعلم الأحياء والكيمياء، لكن أكثر ما تحب هو الأدب الإنكليزي والعربي، روايات فيرجينيا وولف ومي زيادة.
كانت تحصل على أعلى الدرجات في الأدب، يتنافس المدرسون والمدرسات في استعارتها إلى فصولهم حين يأتي مفتش اللغة العربية أو الإنكليزية، يجلسونها في الصف الأول، تجيب عن أسئلة المفتش، يصفِّق لها ويهنِّئ الفصل بها، يمنح المدرس أو المدرسة تقريرًا ممتازًا، وبعد انصراف المفتش تُطرد فؤادة إلى فصلها.
اكتسبت في الجامعة مكانة بين الأساتذة وزملائها، تنافس في حبها ثلاثة من الطلاب، وأستاذها د. يوسف عبد الله طلب يدها من أبيها زميله في الجامعة.
كان الدكتور يوسف في السبعين من العمر، يدرِّس الأدب العربي، من أشعار عمر الخيام إلى قصائد أبي نواس، يضع وردةً حمراء في عروة البذلة الأنيقة من الصوف الإنكليزي، يصبغ شعره الأبيض بالحناء السوداء مثل كبار رجال الدولة، كان يشرف على رسائل الماجيستير والدكتوراه للطلبة والطالبات، في يومٍ من أيام الربيع ضُبط في أحد المدرجات الخالية بمحاولة تقبيل طالبة، لم ينله أي عقاب، لكن الطالبة فقدت سمعتها وأخرجها أبوها من الجامعة.
لم تكن فؤادة تطيق النظر إليه، قصير القامة مترهل الردفين، ذو كرش بارزة، ناعم الصوت مع الطالبات، خشن قاسٍ مع الطلبة، كان صديقًا لأبيها بالرغم من الاختلاف بينهما، يزورهم في البيت أحيانًا، تسمعهما يتناقشان في الصالون في السياسة أو الأدب أو أي شيءٍ آخر:
– إزاي يا يوسف تفكر في بنت من عمر أحفادك؟
– الحب يا محمد.
– حب إيه ده اللي يلغي عقلك؟
– شيئان يا محمد لا يمكننا مقاومتهما.
– إيه وإيه يا يوسف؟
– الشيخوخة والحب.
– كلام فارغ يا أخي وفين المسئولية؟
– الحرية فوق المسئولية يا محمد.
– حريتك في المتعة لا تكون فوق مصلحة الآخرين يا يوسف.
– الذات أولًا يا محمد، ربنا حلل لنا الزواج بأكثر من واحدة، والرسول قال: ابدأ بنفسك. وإلا انسحقت الذات تحت اسم مصلحة الآخرين، أنا ليبرالي مش شيوعي زيك يا محمد.
– أنا لا شيوعي ولا ليبرالي يا يوسف، أنا مع الحرية لكن بشرط المسئولية، لا يمكن يا يوسف أن نحقق ملذاتنا على حساب الغير.
– ولا يمكن يا محمد كبت رغباتنا ومشاعرنا تحت اسم مراعاة مشاعر الآخرين ورغباتهم، الفرد أولًا، لا يمكن سحق الفرد من أجل المجموع.
– نعيش في مجتمعٍ إنساني وليس غابة يا يوسف، المصلحة العامة فوق أهواء الفرد، على العموم الرأي يرجع إلى فؤادة هي صاحبة القرار.
صرخت فؤادة فزعًا: معقول يا بابا أتجوز العجوز ده أبو كرش؟
بدا ماجد أحمد جميلًا رشيقًا جذابًا إلى جانب أستاذها د. يوسف، لكن ماجد لم يكن قط فتى أحلامها، أهو غياب البريق في عينيه؟
ليس أي بريق، بل البريق الخاص الذي يهز أعماقها على نحوٍ خفي؟
ترك لها أبوها حرية اختيار شريك حياتها بعد التخرج، لم تعرف لماذا تزوجت شاكر، ربما يئست من العثور على فتى أحلامها، أو أدركت أخيرًا أنه غير موجود، ليلة الزفاف لم تهتز شعرة في جسدها؟
كان كيانها كله يهتز حين ينظر إلى عينيها جابور، مجرد النظر من بعيدٍ من دون تلامس، كان الحزن الغامض يتسرَّب إلى أعماقها، يشبه الهزيمة، هزيمتها الخاصة في عمق جسدها، هزائم الوطن كانت سياسية عامة، تؤلمها عقليًّا، لا تترك جروحًا غائرة في القلب أو الروح.
كانت أمها أقرب إليها من أبيها، تفضِّل الحياة في القرية في بيتهم القديم الذي يسمُّونه الدار، تكتب قصائدها في الليل وتنشرها أحيانًا في مجلة الشعر، ذات يومٍ أحاط البوليس بالدار وقاد أمها إلى مركز الشرطة، قضَتْ فيه يومًا كاملًا، من الخامسة صباحًا حتى التاسعة مساء، ثم أفرجوا عنها.
رآها أهل القرية تدخل الدار في التاسعة مساء، فتحت الباب ودخلت بقامتها الفارعة المرفوعة، لم تكن شابة ولم تكن عجوزًا، كأنما ليس لها عمر، أضاءت مصابيح البيت وجلست في الشرفة المطلة على جسر النيل، توافد عليها أهل القرية مهنئين، أقاموا احتفالًا صغيرًا بعودتها سالمة من التخشيبة، تبارى شباب القرية في إلقاء قصائدهم، تشجعهم أمها على كتابة الشعر وقراءة ما تنشره الكاتبة بدرية البحراوي.
نشأ الطفل ماجد وحيدًا حزينًا، أبوه من أسرةٍ متوسطة بسيطة، من الموظفين في الدولة، لم يتميز أحدٌ في أسرته في العلم أو الأدب أو السياسة، يحتل أبوه منصب وكيل وزارة أو مدير عام، ويظل كما هو شخصية باهتة تشبه القرش الممسوح، تصك الحكومة موظفيها مثل قطع العملة أو النقود، فهم شكلٌ واحد، فصيلة واحدة من البشر، يعيش الموظف ويموت من دون أن يتغير شيءٌ في العالم.
لم تختلف أمه عن أبيه كثيرًا، تطيع زوجها كما يطيع زوجها رئيسه في الحكومة، اشتغلت أمه في وزارة التعليم (ناظرة أو مديرة إدارة)، كانت توفق دائمًا بين طاعة زوجها ورئيسها المباشر في العمل.
كانت جدته متفوقةً في الدراسة، بالرغم من التربية الصارمة لأبيها، كان أحد أقطاب حزب الوفد القديم، كان ماجد قريبًا من جدته منذ طفولته، يناديها «ماما الكبيرة» هي والدة أمه، غرست في عقل حفيدها طموحًا إلى الحياة السياسية، السياسة تقود إلى الحكم، لكن الأدب يقود إلى السجن.
تقص عليه الحكايات عن أمجاد أبيها في حزب الوفد، بعضها حقيقي وبعضها من نسج أحلامها: جدك كان راجل عظيم يا ماجد، هو اللي كان ورا سعد زغلول، لولا جدك الله يرحمه لا يمكن كان سعد باشا يقف قصاد الإنكليز، لكن الدنيا حظوظ، جدك كان يكره المظاهر ويحب يشتغل بهدوءٍ وإخلاص، بعيدًا عن الدعايات والصحافة.
أصبح ماجد أحمد يتشبه بجده، يعمل بجد بعيدًا من الأضواء، لا يتمتَّع بصفات الزعامة، أو الشخصية القيادية، موظفٌ مجتهد يخدم الزعيم من دون أن يظهر.
لم يكن ماجد في الجامعة من زعماء الطلبة، طالب مجتهد سياسي جاد، يقف كالجندي المجهول وراء الزعيم أو القائد، يلمح فؤادة تمشي في الفناء وسط مجموعةٍ من الطلبة والطالبات، قامتها طويلة كالعنقاء، في عينَيْها بريق، طموحٌ خفي غير قابل للخضوع، في أعماقه أراد أن يمتلكها، أن يلوي هذا العنق الطويل ويدمي شفتيها بأسنانه، رغبةٌ دفينة في اكتساب الرجولة، غرستها فيه جدته منذ الطفولة: جدك يا ماجد كان راجل من ضلع راجل، مش زي الرجالة بتوع النهارده، الواحد منهم يمشي ورا مراته ويسمع كلامها، رجالة خرعين أوعى تكون زيهم، ارتبطت الرجولة في عقله بالسيطرة على زوجته وعدم السير خلفها أو سماع كلامها، كما ارتبطت لذة الجنس في أعماقه برغبة الامتلاك، ولذة الإيلام والقسوة، بالرغم من مظهره الهادئ شبه المستسلم كموظف مطيع للرؤساء، أول لقاء بينهما كان في رحلةٍ جامعية إلى معبد أبي سنبل، في قاربٍ على النيل جلس في جوارها، ومن حولهما مجموعة من الطلبة والطالبات، يتحاورون في السياسة في ليلةٍ قمرية تتخللها نسمات نيلية طرية، مع كأس من الشمبانيا، أخرج أحد الزملاء الأثرياء من حقيبته الزجاجة الطويلة ذات العنق الرشيق، فرقعت السدادة في الهواء فضحك الجميع، كان ذلك في نهاية الخريف بعد اغتيال السادات بقليلٍ وصعود مبارك إلى الحكم، مبارك شكله غبي وعبيط، لكنه حويط وغويط، إزاي يا أخي يكون قاعد جنب السادات، كتفه في كتفه، ويخرج من معمعة الرصاص، زي الشعرة من العجين، خرج سليم مية المية من غير رصاصة واحدة؟
– عاوز تقول إنه اتفق مع الأمريكان على خطة الاغتيال؟
– ليه لأ؟
– هُمَّا الأمريكان دول ربنا يا أخي، عندهم كل القوى الجهنمية الخفية دي؟
– ليه لأ؟
– نظرية المؤامرة دي خطيرة، شمَّاعة الأمريكان والسي آي إيه والعفريت الأزرق وإحنا يا أخي إيه؟ إيه يا عزيزي؟
ورنَّت الضحكات على صفحة النيل والموجات الصغيرة تترقرق تحت ضوء القمر.
– إيه رأيك يا ماجد؟
كان ماجد قليل الكلام يبدو شاردًا حزينًا وحيدًا بالرغم من الصخب من حوله، لم يشعر باكتمال رجولته بين الرجال، يتفوقون عليه في السيطرة على قلوب النساء، يضحكون، يقهقهون بصوتٍ ذكوري قوي، وهو يبتسم في هدوء، يبدو مترفعًا عن السباق في معارك الكلام السياسية، التي يعشقها الطلاب، يبدو عميقًا متكبرًا على الشباب من عمره، يسمونه الأستاذ ماجد، مزيج من الهزل والجد.
– عاوزين نسمع رأي الأستاذ ماجد، اسكتوا يا جماعة.
يظل صامتًا، يتأملهم كأنه أستاذٌ يطل على التلاميذ، يزيدهم صمته تشوقًا إلى سماع رأيه.
أخيرًا يتكلم ماجد أحمد بصوتٍ هادئ، عميق بطيء، مثل الأساتذة الكبار ويقول: أنا لست ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة يا جماعة، لكن اغتيال السادات مثيرٌ للشكوك، هناك أدلة أن السادات كان في شبابه مجندًا في المخابرات الأمريكية ويتقاضى أجرًا، لكن هل استمر في هذا العمل بعد أن أصبح رئيسًا لمصر؟ ثم إذا كان السادات خادمًا لأمريكا فلماذا تقتله؟
رد الطالب صاحب زجاجة الشمبانيا، واسمه زكي، كان ثراؤه يكسبه ثقة بالنفس وشجاعة، يتحدى ماجد أحمد، ليس في أمور السياسة فحسب، بل أيضًا في أمور الحب وجذب انتباه الطالبات، وقد لاحظ أن ماجد حرص على الجلوس في جوار فؤادة، البريمادونا، كما يسمونها، قال زكي: إن السادات أصبح ورقةً محروقة في نظر الأمريكان، وبعد ما حقق لهم الصلح مع إسرائيل في كامب ديفيد وزرع الفتنة الطائفية في مصر، اتفقوا على التخلص منه، سواء بالتواطؤ مع مبارك أو من غير تواطؤ، فمبارك في أيديهم في كل الأحوال ويعمل معهم.
سكت الجميع يفكرون ثم قال زكي: إيه رأيك يا فؤادة؟
سألها زكي باهتمامٍ، كان ثريًّا وسيمًا تتنافس فيه الطالبات، لكنه غير جذاب لعينيها البراقتين، قالت وهي ترشف الشمبانيا باستمتاع، وتتأمل ضوء القمر على صفحة النيل، وتملأ صدرها بالهواء: الكلام في السياسة يفسد جمال القمر.
هلَّل الجميع وشربوا نخب الجمال، لكن زكي اعترض متحديًا فؤادة، وقال: القمر جميل والسياسة قبيحة فعلًا، لكن يا جماعة إحنا طبقة طفيلية عايشين من عرق الفلاحين، إزاي نفكر في القمر الجميل وننسى الغلابة الفقرا؟
ضحكت فؤادة وردت: خلاص يا زكي بقيت شيوعي؟
فانفجر الجميع بالضحك، وأخرج زكي زجاجةً ثانية من الشامبانيا.
– أنا معاكي يا فؤادة إحنا مش حنحرر الفقرا هما يحرروا أنفسهم بأنفسهم وإحنا نحرر أنفسنا بأنفسنا، ابدأ بنفسك كما قال رسول الله، تحيا الحرية.
ورفع الجميع كئوسهم إلى أعلى، يتخلَّلها ضوء القمر، متكسرًا فوق السائل الشفاف، تلك الليلة أكمل الطلاب والطالبات سهرتهم في الفندق، لكن فؤادة انسحبت إلى غرفتها، كانت تشعر بالحزن، بحرمانٍ غامض من الحب، الرجل الذي يمكن أن يهز قلبها غير موجود؟
نسيت جابور وعبد الجليل وجميع من عرفتهم من قبل، لم تلتقِ الرجل الذي تحلم به.
من هو هذا الرجل؟ هل له وجود أم حلم؟ ليس هو ماجد أحمد يقينًا ولا زكي ولا أحدًا من الطلبة أو الأساتذة. دخل ماجد غرفته قرب الفجر بعد السهرة في الفندق، أصابته الشمبانيا بنشوةٍ وشجاعة، فكر أن يسير إلى غرفة فؤادة ويدق بابها، تخيل أنه رأى بريق الحب في عينَيْها وهي في جواره في القارب، أتنتظره في غرفتها؟
ثم عاد إلى رشده بعد أن خلع ملابسه، نظر إلى جسده في المرآة، بدا جسده العاري ضئيلًا هزيلًا، وخصوصًا القفص الصدري، ضلوعه نحيفة بارزة، صدره ليس عريضًا كما تقتضي الرجولة، العمود الفقري مقوس قليلًا عند لوحي الكتف، عيناه باهتتان لا يطل منهما بريق، ابتلع لعابًا مرًّا مع فقدان الثقة بنفسه، صعد إلى السرير الناعم الوثير، داعب النوم عينيه المحمرتين من أثر الشامبانيا، امتدت أصابعه المخدرة قليلًا تداعب الشيء أسفل بطنه، حركة تعوَّدها منذ الطفولة، انتفض بعد لحظاتٍ عدة انتفاضات باللذة الحادة السريعة، ثم سقط في النوم العميق.
الصالة واسعة فيها أريكة فاخرة بيضاء تقابل التلفزيون الكبير المنتصب فوق قطعة أثاث عريق، خشب أسود مشغول برسومٍ ذهبية، الأريكة والكراسي من الطراز نفسه، خشبٌ يشتدُّ سوادًا ولمعانًا في جوار الأغطية والجدران الأنيقة الناصعة البياض، ثلاث غرف كبيرة للنوم والأكل والمكتب، المطبخ كبيرٌ فيه كل الأدوات الحديثة، والحمام واسع أبيض الجدران، كامل التجهيز وكل شيء في مكانه، السرير كبير، ملوكي الحجم من بطن التاريخ العريق، يتسع لإمبراطورة وزوجها الإمبراطور لا عمل لهما إلا الأكل والجنس، كلٌّ منهما يزن مائتي كيلو غرام، يتحركان من غرفة النوم إلى غرفة الطعام فوق عربة تجرها الخيول، أغلقت جفونها تنشد النوم، تتشمَّم عطر الملاءات البيضاء الجديدة، تدفن وجهها في نعومة الوسادة الحانية، تسيل دموعها وحدها من بين الجفون، حزنٌ قديم غامض منذ الطفولة، فرحٌ جديد أكثر غموضًا، شدة التعب أو شدة الراحة، أو الاثنان معًا، لا يكشف لذة الراحة إلا ألم التعب، في الصباح جاءت إلى شقتها «مارلين» طالبة جامعية في الثالثة والعشرين، تم تعيينها مرافقة لها، عيناها كبيرتان سوداوان، أبوها من العراق وأمها أمريكية، تتقن العربية والإنكليزية، طويلة القامة ممشوقة، شعرها غزير أسود كلون الليل، تجمع بين السمرة الخمرية لأهل دجلة والفرات، والعيون الزرق القاتمة الخضرة لأهل أوروبا والشمال، سحر الهوية المتعددة، والدماء المختلطة من الشرق والغرب، ولدت مارلين في بغداد، قبل غزو صدام حسين الكويت بعامين، عاشت مع أمها وأبيها أهوال الحروب المتتالية على العراق، أصبحَت في الرابعة عشرة من عمرها، بدأت تدرك عمق الخلاف بين أمها وأبيها، كرهت أباها، أصرت على البقاء مع أمها بعد الطلاق، حرمها أبوها ماله فلم تعبأ، تركت له العراق وما فيها ورحلت إلى أمريكا مع أمها، تحكي قصتها لفؤادة وهي تقود سيارتها الحمراء عبر شوارع نيويورك: اشتغلت يا أستاذة فؤادة وأكملت تعليمي من عرق جبيبني، تزوجت أمي رجلًا أمريكيًّا قاسيًا غليظًا يشبه أبي العراقي، تركتهما وعشت وحدي، أعد الآن لدرجة الدكتوراه في علوم المرأة والجندر، يعيش معي في بيتي صديقي بيل، إنسانٌ رقيق حساس، ليس مثل أبي أو زوج أمي، تعلَّمت درسًا من حياة أمي التعيسة، أن يكون لي عملي وحسابي في البنك وبيتي وسيارتي وكل ما أريد، وإن أعجبني رجلٌ يسكن معي في بيتي، ولا أسكن في بيته، عاشت أمي مع أبي عشرين عامًا وهي تكرهه وتعجز عن الانفصال عنه، كان يملك البيت والسيارة والحساب في البنك.
أقامت الجامعة حفلة عشاء للمشاركين في المؤتمر، جلس جورج نلسون في جوار فؤادة، ألقى رئيس الجامعة كلمة قصيرة، ثم تكلم نائبه (البروفوست) ثم تكلم جورج نلسون، ثم تكلمت الأستاذة باتريشيا، في قسم علوم المرأة والجندر، صديقةٌ قديمة لفؤادة، كانت أستاذة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، خمس سنوات عاشتها باتريشيا في القاهرة ونمت الصداقة بينهما، همست باتريشيا في أذنها، ألَا تشتاقين يا فؤادة إلى كأس نبيذ أحمر عمر الخيام؟
– ما ألذ نبيذكم المصري عمر الخيام، لا أنساه.
أقبلت مارلين ومعها شابٌّ طويل أسود البشرة، أقدم لكِ بيل صديقي، البوي فريند، أسنانه بيضاء تلمع في وجهه القاتم السواد، تنم ملامحه عن هدوءٍ ورقَّة وثقة بالنفس، كانت تفزع مثل أمها من الرجال السود ذوي الملامح الزنجية، بقايا عنصرية تخلَّصت منها بعد أن تعودت رؤية نساء ورجال سود البشرة في أمريكا.
– أهلًا بيل، أعتذر لك لأني أشغل مارلين عنك ساعات كثيرة.
– مارلين سعيدة بوجودك هنا، وأنا سعيد لأنها سعيدة.
ثم أقبل جورج نلسون يحمل لها صحن الفاكهة في يد، وفي يده الأخرى كوب عصير برتقال.
– لم تأكلي شيئًا يا فؤادة؟
انشغلَت كعادتها بالكلام عن الأكل، التقطَت بالشوكة حبة من الفراولة الحمراء، وتذوَّقت عصير البرتقال برشفةٍ واحدة لم تكررها، قال جورج: لم يعجبك العصير بالطبع، فهو ممزوجٌ بالكيماويات، يلسع الحلق مثل كل أنواع العصير الأمريكية ومنتجات الرأسمالية الجشعة.
قالت باتريشيا: أنا آكل البرتقال الطازج بقشره ولا أشرب أنواع العصائر الكيماوية السامة. وانفجر الجميع بالضحك.
تنتمي باتريشيا إلى الحركة النسائية الراديكالية، تقاطع منتجات السوق الحرة، لا تأكل اللحوم ولا الفراخ ولا البيض، مثل كثير من النساء الفيمينيست في العالم، تأكل الفاكهة والخضراوات بتربتها من الحقل.
قادت صباح السبت سيارتها الفولكس فاجن الصغيرة (تكره السيارات الأمريكية) مسافة ساعتين، لتشتري طعام الأسبوع من مزرعة صديقها إرنست، الذي يملك قطعة أرض صغيرة، في جوار النهر، يزرعها بيده، يأكل منها هو وأسرته، ويبيع ما يفيض لزبائنه وأصدقائه في القرى المجاورة.
دعت باتريشيا فؤادة وجورج إلى المزرعة، همست في أذنها، يشارك إرنست مع جورج في تنظيم التظاهرات ضد الحكومة وتجار وول ستريت وضد الحروب في العراق وفلسطين وأفغانستان، وضد صفقات الأسلحة وأجهزة القمع التي تشحنها حكومتنا إلى حكومتكم يا فؤادة.
وقال جورج: شحنات من القنابل ومقذوفات الغاز ترسلها الحكومة الأمريكية إلى الحكومة المصرية لمساعدتها على التصدي للتظاهرات والثوار أو من يسمونهم مثيري الشغب، بعد إزالة اسم الشركة الأميركية المصدرة للعبوة، تلعب حكومتنا دور عصابة إرهابية تحت اسم المعونات والمساعدات الإنسانية، وقالت باتريشيا: فؤادة تعرف كل هذا يا جورج، نريد أن نسمع رأيها في هذه المزرعة.
قالت فؤادة: أنا أحب الأرض التي تنبت الخضرة كأنما أعود إلى أصلي وجذوري.
شيءٌ ما يربط فؤادة بالأرض ورائحة المياه والزرع، يذكرها جورج نلسون بقريتها وابن عمتها عبد الجليل، البشرة المحمرة بالشمس وهواء النيل، القامة الطويلة مثل الأشجار، الأصابع القوية الممشوقة تعزف على الجيتار.
في بيت إرنست المطل على النهر، تمدَّدت فؤادة فوق الأريكة ترشف النبيذ الأحمر، وهي تستمع إلى اللحن الهادئ المفعم بالشجن يعزفه جورج، سمعته يقول لها: فؤادة، لماذا الحزن في عينيك؟
ابتلعت الدموع وابتسمت: وهل أنت سعيد يا جورج؟
– كيف نشعر بالسعادة في مثل هذا العالم؟
– هل يمكن أن نغيره يا جورج؟
– ممكن.
– ممكن يا جورج؟
– ممكن يا فؤادة.
يضحكان ويرددان معًا: عالمٌ جديد ممكن.
كان في جوارها جورج جالسًا على شلتة فوق الأرض وهي متمددة فوق الأريكة، مد يده وأمسك يدها، الخفقات القوية التي تحت ضلوعها لم تكن تحس بها منذ الطفولة.
– فؤادة أتعرفين؟
– ماذا؟
– أنني أحبك؟
دب الصمت، لم تعد تسمع إلا الدقات تحت ضلوعها.
بدت كلمة الحب بالإنكليزية مختلفة، محملة بشحنةٍ أكبر من العمق والجدية، قال: منذ أول لقاء لنا منذ عشر سنوات، وأنا أحبك يا فؤادة.
دخلت في تلك اللحظة باتريشيا وهي تحمل باقةً من الزهور، ومن خلفها إرنست يجر عربةً صغيرة محملة بالخضراوات الطازجة من المزرعة، ويهتف: هيا يا أصدقائي إلى المطبخ، حان موعد الطعام، خبزت لكل واحدٍ منكم رغيفًا بحجم القمر من دقيق الذرة، ولكلٍّ منكم طاجن أرز بني بالشعيرية في الفرن وصحن صلطة كبير، مع طماطم وخس وبصل وجزر وخيار وكرفس وكل ما تخرجه الأرض، وأنت يا باتريشيا عليك أن تفتحي زجاجة الشامبانيا لأن عضلاتك أقوى من عضلاتي. وانطلقت الضحكات، وساروا إلى مائدة الطعام الصغيرة في المطبخ الكبير، جدرانه من الزجاج، تكشف المزرعة والسماء وضوء القمر المنعكس على النهر، وفي ركن من المطبخ نافورة ماء تحيط بها نباتات وشجيرات خضراء، وحول المائدة أربعة كراسي، قال إرنست: لا ندعو إلى المزرعة إلا اثنين فقط ممن نحبهم. وسرى الدفء وحرارة الصداقة والصدق بالرغم من البرودة في الخارج.