سعدية وفؤادة في السجن
تلقَّت أمي تربية في البيت والمدرسة يسمونها التهذيب، لا تفعل ما تفعله النسوة الأخريات، لا يدخل السجن إلا القاتلات أو المومسات أو الشحاذات أو المتهمات بتجارة المخدرات أو السرقة، غالبيتهن من الفقيرات المطحونات الحالمات بالجنة بعد الموت، لا يدخل السجن من النساء المتعلمات غير الحالمات بالجنة إلا القليل النادر، الجريمة غالبًا تندرج تحت بند السياسة، والثورة لقلب نظام الحكم، كانت هي أيام الثورة، من أجل الحرية والعدل والكرامة، بعضهم يقول إنها انتفاضة وليست ثورة، والشباب بلطجية وليسوا ثوارًا، والشابات عاهرات ولسن ثائرات، شارك أمي وأبي في الثورة، كان عمري أربعة شهور داخل رحمها وهي تسير مع المتظاهرين، تهتف معهم: يسقط النظام. رأسها شامخٌ مرفوع، طويلة القامة ممشوقة الجسم، تمارس رياضة الفولي بول والسباحة، انتفاخ الحمل تخفيه قوة عضلات البطن، تبدو في التاسعة عشرة، على الرغم من بلوغها الخامسة والعشرين، عقلها يكبر عمرها بعشرين عامًا، أبي يسير في جوارها، لكن رأسها يرتفع عن رأسه ثلاثة سنتيمترات، عظام ظهرها مشدودة أكثر، بشرتها أشد سمرةً تشوبها حمرة الشمس، ورث أبي بشرته البيضاء من أبيه وانحناءة خفيفة لفقرات الظهر، صلعة صغيرة مبكرة في منتصف رأسه، يسيران، يده في يدها، متساويين، كتفها إلى كتفه، لا تعلو كتفها إلا ثلاثة سنتيمترات، تجمَّع الملايين من الناس في ميدان التحرير الذي أصبح كالدار الكبيرة تضم مئات الخيام، انقضَّت عليهم عربات البوليس البوكس، حطمت خيامهم، حملت بعضهم إلى السجون، وسقط بعضهم الآخر بطلقات الرصاص، لم يعرف أحد من مات ومن اختفى ومن في المشرحة ومن في السجن، كان المشهد يتكرر، خرجت مع أمي من السجن، بلغت من العمر عامين، تعلمت المشي حافية القدمين على الأسفلت، لا أحس ببرودة الأرض أو بسخونتها، لا تخترق جلدي مسامير ولا قطع زلط، لا أبكي من جوعٍ أو مغص، تتركني أمي أزحف أمام العنبر، ألتقط مع الطيور فتات الخبز أو حبوب الفول والعدس، أزقزق مع العصافير في الصبح، ترن ضحكتي في فناء السجن، تتجمَّع المومسات من حولي والقاتلات وبائعات المخدرات والشحاذات وكل المسجونات، تحملني كل واحدةٍ فوق صدرها وهي تضحك، أحس بالأنين تحت ضلوعها، عرفت دقة الفرح في الصدر من دقة الحزن، قبل أن أبلغ الثالثة من عمري!
حملتني أمي فوق صدرها لدى خروجها من السجن، خرجت معنا امرأة كانوا يسمونها سعدية القتَّالة، طويلة القامة سمراء البشرة تكاد تشبه أمي، في السجن ولدت ابنتها، أناديها هنادي وتناديني داليا، كنت ألعب معها على الأسفلت، أمي وأمها تتحدَّثان كأنهما صديقتان، أمي تُناديها سعدية وهي تنادي أمي الأستاذة، بلاش حكاية الأستاذة دي يا سعدية.
– يا ست فؤادة، العين ما تعلاش عن الحاجب.
– عين إيه وحاجب إيه كلنا ولاد تسعة.
– ولاد بس؟ وفين البنات؟
– غلبتيني يا سعدية.
– عليكي واحد يا أستاذة.
وتدوي قهقهاتهما في أرجاء السجن ناشرة عدوى الضحك بين النساء.
في مكتب السجان تدوي الضحكات، تهتز أرجل الكرسي تحت أليتيه السمينتين من طول الجلوس وراء المكتب، وأكل الدهن والمداهنة، فوق رأسه تهتز الصورة داخل البرواز، تتقلص عضلات الوجه المربع، ينتصب شعر رأسه المصبوغ بلونٍ أسود كالليل.
– إيه اللي بيحصل ده؟
– مافيش حاجة يا معالي الباشا.
– أنا سامع هتاف ضدي يا حمار؟
– شوية نسوان بيضحكوا يا فخامة الرئيس.
– كده؟ طيب سيبهم يتسلوا.
خرجت سعدية وابنتها من السجن إلى غرفة في الزقاق وراء القبور، كانت تعيش في هذه الغرفة مع زوجها قبل أن تقتله، ناولتها أمي ورقةً صغيرة كتبت عليها عنوان بيتنا، أصبحت سعدية تأتي إلينا كل يوم من الساعة السابعة صباحًا إلى الخامسة مساءً ما عدا الجمعة وأيام الإجازات، تقول عنها أمي إنها شغالة محترمة وليست خادمة، كانت أمي تسكن في شقةٍ صغيرة بعمارةٍ جديدة في شارع التحرير، كان اسمه شارع الملك ثم تغير الاسم مع تغير الزمن، استأجرت أمي هذه الشقة قبل أن تتزوج أبي، عادت إلى عملها في الجورنال بعد خروجها من السجن، كانت لي غرفة فيها سرير من الخشب، لونه بني أدكن، وخزانة ملابسي ومكتبي من اللون ذاته، فوق الجدار صورة لرجلٍ له شارب أسود، عيناه خضراوان لامعتان، تطلان من تحت جبهةٍ عالية وحاجبين كثيفين، شفتاه مطبقتان بعضلاتٍ قوية تنم عن الإرادة والتصميم، كانت أمي تقول إن أبي كان في عداد الثوار، لكن. لكن إيه يا ماما؟
تسكت أمي، تبتلع دموعها في صمت، أرهف أذني لصمتها، أحاول أن أعرف من هو أبي وماذا كان؟ أتأمل ملامح وجهه في ضوء النهار، في الليل أحدق إلى صورته تحت ضوء اللمبة، تتغير النظرة في عينيه مع تغير الضوء والمكان الذي أقف فيه، أمام خزانة الملابس أو وراء مكتبي، تبدو نظرته قوية ثائرة مستقيمة، وأحيانًا تبدو هادئة ملتوية مستكينة، بلغت الثامنة من عمري، يوم دق جرس الباب، عرفت أنه أبي الذي يدق الجرس؟ كيف عرفت؟ لم أره في حياتي ولم أسمعه يدق الجرس، لم تصف لي أمي طريقته في دق الجرس، أبي يدق الجرس؟
كانت أمي جالسةً في الصالة تشاهد التلفزيون، وأنا جالسةٌ وراء المائدة أشرب اللبن الساخن مع الكاكاو، وأتابع الصور المتحركة عبر الشاشة، ألاحظ أصابع أمي الطويلة النحيفة ترتعش فوق أزرار التلفزيون، تنتقل من قناةٍ إلى قناة، تهتز الصورة الكبيرة منقسمة إلى مئاتٍ من الصور الصغيرة، تصعد الوجوه وتهبط، تنقسم بالطول والعرض، تتحول خطوطًا رأسية وأفقية، سوداء وبيضاء وحمراء، تظلم الشاشة وتضيء وتظلم وتضيء، أنفاس أمي تلهث، أصابعها فوق الأزرار ترتعش أكثر، تظهر كرة قدم طائرة من فوق الرءوس ويرتفع صراخ الجماهير: جون جون. تختفي الصورة، تظهر راقصة نصف عارية تفرقع بالصاجات، يتلوى جسمها وينثني كأنما تشعر بألمٍ والجماهير تهتف: الله الله، تختفي الصورة ويظهر الشيخ الكبير ذو اللحية الطويلة يقول بصوتٍ وقور: الرجل يعمل من أجل الله، والمرأة تعمل من أجل الشيطان، عمليات زرع الكلية أو الكبد كفرٌ بالله؛ لأنها تؤجل لقاء العبد ربَّه، ختان المرأة وحجابها وتعدُّد الزوجات أمرٌ من الله. تصفع أمها وجه الشيخ بيدها وتغير المحطة، تظهر صورة رئيس الدولة على الشاشة المضيئة، يخطب في ذكرى النصر العظيم أو الثورة المجيدة، في يده منديل يمسح عرقه، ملامح وجهه متقلصة، تُشبه ملامح الملاكمين ومدربي الرياضة وكرة القدم، جبهته عريضة تنزلق إلى شعرٍ أسود مصبوغ بدقة، رأسه مربع قوي العظام مشبع بالسلطة، عيناه زائغتان تنظران إلى الفراغ، جفونه متورمة، انتفاخاتٌ في الجلد تحت العينين حتى الصدغين، عضلات وجهه متهدلة، تنم عن هزيمةٍ خفية، فمه مفتوحٌ على آخره يزعق: ذكرى النصر العظيم والثورة المجيدة. انتفضت أمها من مقعدها واقفة، شفتاها ممطوطتان في امتعاض، امتدَّت ذراعها وصفعَت شاشة التلفزيون بكفها وهي تكلم نفسها، كانت هزيمة مش نصر …