هدف واحد
نقل محمد مكتبته إلى خيمةٍ في ميدان التحرير، يبيع فيها الصحف والمجلات والأعلام ومنشورات الثورة، حفر في الأرض تحت الخيمة مخزنًا صغيرًا للكتب، ألقى رجال الشرطة قنابل الغاز على الخيمة، وهاجموها بخراطيم المياه والرصاص الحي، فقد محمد عينه اليسرى بطلقةٍ واحدة من قناصٍ ماهر، لكنه بقي حيًّا، وبقيَت الكتب في المخزن في أمانٍ يبيعها لمن يطلبها.
خبأ شاكر كتاب بدرية البحراوي الأخير في درجٍ مغلق بالقفل أسفل مكتبه، كان يقوم بتأليف كتابه عن تحرير المرأة، يفتح الدرج في الليل بعد أن تنام زوجته وابنته، فينقل ما يشاء من كتاب بدرية البحراوي ثم يغلق الدرج.
نال كتاب شاكر نجاحًا كبيرًا، كتب مقدمته الأستاذ رئيس التحرير، تنافس كبار المفكرين في الكتابة عنه، نشرت الصحف بعض أجزاء من الكتاب، ظهرت صورة شاكر على الشاشة في حوارٍ طويل، سأله المحاور بمن تأثرت في أفكارك التحررية عن المرأة؟
مط شاكر عنقه إلى أعلى، وشردت نظراته في الأفق البعيد مثل الفلاسفة الكبار، وردد بعض الأسماء إلا اسم بدرية البحراوي.
كان الحزن يدهم شاكر، لا تعرف زوجته الأسباب، تحاول التخفيف عنه لكنه كان كتومًا، لا يصرِّح لها بأسراره، وفي الخفاء يذهب إلى طبيبه النفسي. أحزانٌ كثيرة تثقل قلبه، أكثر مما أثقلته في السجن، يقترب أحيانًا من الانهيار العصبي، لم يعرف إن كانت الهموم العامة هي السبب أم همومه الخاصة.
طبيبه النفسي صديقٌ له، كانت له عيادةٌ غير بعيدةٍ من مكتبه، يمشي إليها حين يشعر بالوحدة أو يشتد به الاكتئاب، تمدَّد فوق الأريكة المريحة وراح يرشف الويسكي بالثلج من دون ماء.
سأله الطبيب: يا شاكر حاول تكتشف بنفسك سبب شعورك بالاكتئاب.
– مش عارف السبب يا دكتور.
– إنت شاركت في التظاهرات؟
– طبعًا مشيت في أغلب التظاهرات أنا وفؤادة، مشينا في وسط الملايين وكان عندنا أهداف الثورة نفسها، حرية عدالة كرامة، لكن …
– لكن إيه يا شاكر؟
– مش عارف، مش عاوز أسمع سيرة تظاهرات أو مبادئ الثورة، إنت عارف الأوضاع السياسية كلها بقت سيئة.
– إنت شاركت في الثورة إزاي يا شاكر؟
– في كل التظاهرات وفي المناقشات والحوارات والفيس بوك والتويتر.
– ليه شاركت في الثورة والحزب الثوري يا شاكر؟
– أنا أؤمن بالنضال الجماعي يا دكتور.
– ليه يا شاكر؟
– لا أؤمن بالعمل الفردي، لازم أشعر بالانتماء إلى شيء أكبر مني، لازم أشعر إني جزء من شيء كبير، وإني فعال ومؤثر ولي دور كبير في تحرير الوطن وتغيير النظام، أنا باكتب والناس بتناقشني في كتاباتي سواء سياسية أو أدبية لكن الكتابة مش كفاية.
– هل نجحت يا شاكر في تغيير شيء؟
– الثورة يا دكتور لا يمكن تنجح بسرعة، التغيير بياخد وقت طويل.
– وإيه المشكلة دلوقتي يا شاكر؟
– مش عارف يا دكتور ليه فقدت حماسي وشهيتي للحياة.
– وفؤادة أخبارها إيه يا شاكر؟
– انفصلنا للأسف.
– ليه؟
– خلافات بسيطة يا دكتور بتحصل لكل زوجين، المشاكل العامة أخطر من أي مشكلة خاصة، الوضع السياسي والاقتصادي في البلد أصبح خطير، الفقر والجوع والبطالة، الناس كلها تعبانة وفقدت الأمل في الثورة.
– وفؤادة رأيها إيه يا شاكر؟
– أنا رأيي يا دكتور إن الثورة فشلت والتظاهرات عبث.
– وفؤادة رأيها إيه يا شاكر؟
بدا الغضب على شاكر: فؤادة، فؤادة؟ إيه يهمك من رأي فؤادة؟ المهم رأيي أنا، وأنا شايف إن البلد بتغرق رغم الكلام الكتير عن الإنقاذ، البلد بتغرق، أنا خايف على مصر يا دكتور.
– ليه قررت فؤادة الانفصال عنك يا شاكر؟
– مين قال إن هي اللي قررت الانفصال؟ قرار الطلاق في إيد الرجل، كان قراري أنا، أنا بعت لها ورقة الطلاق، والصحف نشرت الخبر يا دكتور.
– مين بعت الخبر للجرايد يا شاكر؟
– مش فاكر يا دكتور.
– مش فاكر ازاي يا شاكر؟
– حافتكر إيه والا إيه يا دكتور.
– إنت اللي نشرت الخبر؟
– يمكن أنا يا دكتور.
– ليه؟
– لازم الناس تعرف يا دكتور.
– تعرف إيه؟
– إني أنا اللي طلقتها مش العكس.
– وسبب الطلاق إيه؟
– كل يوم تروح ميدان التحرير وتقعد في الخيمة مع الخدامين وشوية عيال، أهملت شغلها وواجباتها الزوجية، شجعت بنتنا داليا وزميلاتها على التمرد.
– إزاي؟
– طريقة ملابس البنات بقت مثيرة غير محتشمة، والاعتصام في الخيام بالليل والنهار، شباب وشابات في خيمة واحدة، الثورة لا تعني التسيب الأخلاقي، البنات المتبرجات دول مسئولين عن انتشار التحرش والاغتصاب.
ضحك الطبيب: إنت انضميت للحزب الإسلامي يا شاكر؟
رد شاكر بغضب: الإسلاميين أخلاقهم أحسن من العلمانيين يا دكتور.
– وإيه كمان يا شاكر؟
– عاوز الحقيقة؟
– أيوه.
– الحقيقة إن فؤادة كانت هي راجل البيت، هي الكاتبة المعروفة وأنا الكاتب المغمور، كل الدعوات والمؤتمرات تيجي باسمها، والناس يطلبوها في التلفون وأنا ما فيش حد يطلبني، طبعًا كنت عارف ده قبل الجواز، وتصورت إن بعد الجواز يمكن الأمور تتغير، لكن فؤادة لا يمكن تتغير.
– وتتغير ليه يا شاكر؟
– الزوجة غير الكاتبة يا دكتور.
– إزاي يا شاكر؟
– الزوجة مفروض تكون تابعة لزوجها مش العكس يا دكتور.
– إنت في كتابك قلت كلام تاني يا شاكر.
– أيوه؛ لأن الحياة الحقيقية غير الكلام في الكتب.
– وإيه تاني يا شاكر؟
– فؤادة بقت تقول كلام سخيف.
– زي إيه؟
– تقول لي إن الخيمة في ميدان التحرير أدفا من بيتنا، والحزب بتاعي تخلى عن مبادئ الثورة وعمل مفاوضات سرية مع الحكومة والجيش والتيارات الإسلامية وأمريكا كمان، وقالت إن أنا من المسئولين عن إجهاض الثورة لأني انتخبت الإسلاميين.
– وإنت انتخبتهم يا شاكر؟
– أيوه ما كانش فيه بديل لهم إلا الثورة المضادة وفلول النظام السابق، لكن مراتي ما تفهمش في السياسة زي كل النسوان.
– النسوان؟
– إنت عارف يا دكتور عقلية النساء؟
– إنت نشرت في كتابك يا شاكر إن عقل المرأة يساوي عقل الرجل.
– أيوه لكن الطبيعة تتغلب في النهاية.
– إنت بتشعر بالذنب يا شاكر؟
اتسعت عينا شاكر في دهشة: الذنب؟
– تأنيب ضمير مثلًا يا شاكر.
– ليه يا دكتور؟
– إنت عارف ليه.
– مش فاهم يا دكتور.
– حاول تفهم يا شاكر.