مع التيار
يرتعش صوت كوكب ألمًا وينسدل جفنها الأعلى مخفيًا الفرحة، لا فائدة من الصدق في هذا البلد يا فؤادة، الفساد منتشر وخصوصًا في الصحافة، رئيس التحرير يتلقَّى الأوامر بالتلفون كل يوم من السيد الرئيس، نصحتك كثير، قلت لك لازم تمشي مع التيار يا كوكب، لا يمكن أغير نفسي، المسألة مش نفاق يا حبيبتي، أنا زيك لا يمكن أنافق لكن مجرد ذكاء اجتماعي، صعد الدم إلى وجهها كل حاجة بقت مقلوبة يا كوكب، الصدق بقى غباء والنفاق بقى ذكاء. انزلق جسد كوكب قليلًا إلى الوراء في المقعد، مدَّت ذراعها إلى جرس يتدلَّى من الجدار، ظهر السفرجي، بشرته سوداء مثل بشرة أهل أسوان أو السودان، يرتدي قفطانًا قطيفيًّا أحمر من حوله فوطة بيضاء، تشربي إيه يا حبيبتي؟ وحشني كلامك الثوري، هات شربات الورد من الثلاجة يا عم عثمان، شكرًا أنا لازم أمشي، تمشي من اسكندرية لمصر؟
– أمشي لإيطاليا كمان يا كوكب؟
– عارفاكي يا فؤادة تعملي أي حاجة.
أطلقت كوكب ضحكتها القصيرة كالشهقة المتقطعة.
أنا وبكري راجعين بعد الغدا، تتغدي معانا سمك مشوي وننزل مصر بالعربية سوا إيه رأيك؟ ظهر الزوج بكري في الشرفة، مرتديًا روب دي شامبر حريريًّا لونه كلون البحر، يفوح منه عطر الحلاقة، صاح مرحِّبًا بها، يحبها ويكرهها في آنٍ واحد، واقفة ليه يا فؤادة؟ إذا حضرت الشياطين غابت الملائكة؟
– بالعكس يا بكري.
– أنت الملائكة طبعًا.
انطلقت الضحكات في الشرفة العلوية، جاء شراب الورد المثلج، ابتلعته جرعةً واحدة مثل شربة زيت الخروع، اعتذرت عن الغداء وخرجت بعد أن أغلق الخادم الباب وراءها، أطرقت كوكب طويلًا وهي تشعر بثقل في قلبها، نوع غامض من الهزيمة، رفضَت فؤادة دعوتها، ربَّت زوجها كتفها: ما لك يا كوكب؟
مش عارفة يا بكري ليه أحيانًا أحس فجأة بالحزن. يشير بكري إلى صورتها في الجورنال: تحزني ليه؟ صورتك في الجورنال، الوزير بيسلمك الجايزة، الأستاذ محمد أكبر مفكر عندنا يعتبرك الكاتبة الأولى في مصر والعالم العربي. ابتسمت كوكب في سخرية: كفاية عليه السيدة الأولى. تلعثمت ثم قالت: أنا فخورة إني باشتغل معاه رغم إني باحتقره. تتلعثم تتردد، تحاول كشف أعماقها لزوجها أو لنفسها: أيوه يا بكري، بصراحة أنا باحتقر المفكر والكاتب الكبير ده. شيء طبيعي يا كوكب. أنا متناقضة وانت بتحتقرني يا بكري؟
– التناقض أصل الكون يا كوكب، ربنا نفسه متناقض.
– أستغفر الله العظيم! رجلٌ مؤمن يقول الكلام ده؟
أنا مؤمنٌ والحمد لله، لكن التناقض سُنة الحياة، لا تحاولي جلد ذاتك، صديقتك فؤادة رفضت دعوتك بسبب الغيرة، أنت تصعدين إلى القمة وهي تهبط إلى القاع، وأنت متزوجة الكاتب المرموق أنا، وتشتغلين في أكبر دار صحفية في مصر والعالم العربي، فعلًا يا بكري، أكبر جورنال في الشرق الأوسط، وأنا مخلصة في عملي، والأستاذ محمد يقدِّر شغلي، رغم أني أحيانًا أسرق أفكار غيري وأُعيد كتابتها، إيه الكلام اللي أنا بقوله ده؟
– أنا فاهمك يا كوكب.
ابتلعَت دموعها، أحاطها بذراعيه وهمس في أذنها: أحبك يا كوكب كما أنت ولا يمكن أحب واحدة تانية. وضعت رأسها فوق صدره وتنهدت في راحةٍ تعترف له بأشياء تُخفيها عن نفسها، تشعر بحريةٍ معه، ترفع عن قلبها العبء، لم تعُد تشعر بثقل شيء، إلا صدره المغطَّى بالشعر الأسود الخشن يضغط نهدها الأيسر، أخذها إلى غرفة النوم، في السرير العريض صعدها، دخلها وخرجها بسرعة، ثم انقلب فوق ظهره مغمضًا عينيه، قبل أن يسقط في النوم قال: على فكرة دعيت الأستاذ للعشاء الجمعة الجاية!
– راجل عظيم؟!
– أهم مفكر في مصر والعالم العربي.
– بصراحة يا حبيبي أنا لا أفهم ما يكتبه!
– يا كوكب ده فيلسوف عالمي.
تململت كاتمة الضيق، لا تشعر بلذةٍ في قراءة الأستاذ، كلماته مقعرة متعالية، يدعي العلم، يردد أقوال فلاسفةٍ من الغرب والشرق، لم تعد تشعر بلذةٍ في القراءة، كل شيء في حياتها يخلو من اللذة، القراءة والكتابة والحب والجنس وكل شيء، وجدت نفسها تصيح بغضب: أرجوك يا بكري، بلاش كلمة عالمي دي.
– ما لها كلمة عالمي يا كوكب؟
– أباتت كلمةً مقززة؟
– كل شيء مقزز حتى الصحافة والكتابة …
وأرادت أن تكمل لكنها توقفت، يتركها زوجها تتكلم ويسقط في النوم، تروِّح عن نفسها بالهمس، تواصل الحديث مع زوجها النائم حتى ينزاح العبء عن صدرها، تغسل عن نفسها كل ما يسبِّب لها التقزز، تصبح نظيفة طاهرة، ثم تغرق في نومٍ عميق كالملائكة. هبط الليل وفؤادة تمشي على شاطئ البحر، من أين لها بتذكرة القطار؟ هل تبيت في الكبينة على الشاطئ؟ تذكرت فجأةً أخاها، إنه يسكن في شقةٍ تطل على محطة الرمل، ويعمل في مكتبٍ بالإسكندرية. وصلت إلى شقة أخيها متعبة جائعة ريقها ناشف، دقت الجرس لكن لم ينفتح الباب، واصلت دق الجرس والخبط على الباب الخشبي ذي اللون البني الأدكن، له مقبضٌ ذهبي منقوش عليه حروف الله، لم ينفتح باب أخيها فازدادت حيرة، لا تعرف ما تفعل، أمام الباب قطعة من السجاد، مكتوبٌ عليها كلمة أهلًا، تكوَّرت فوقها ورأسها بين يديها، انفتح باب الشقة المجاورة، ظهر شابٌّ طويل نحيف يرتدي بيجاما بيضاء، اتسعت عيناه دهشةً: حضرتك أخت عصام؟
– أيوه، أنا أخته.
– اتفضلي، استريحي عندي، عصام دايمًا يرجع متأخر، اتفضلي لغاية ما يرجع.
كان واقفًا في الباب، نظرته توحي بالثقة، وهي جالسةٌ لم تنهض قالت ولسانها جافٌّ من الظمأ: كوباية ميه من فضلك؟
– اتفضلي عصام صديقي.
دخلَت من الباب المفتوح، الصالة واسعة فيها كنبةٌ كبيرة من الجلد وبعض الكراسي من النوع الأسيوطي، ومكتبة من خشب الزان محملة بالكتب، قالت لنفسها: رجل يقرأ الكتب، إذن لا خوف منه. تملؤها الكتب منذ الطفولة بالطمأنينة، لمحت عناوين روايات عربية وأجنبية وكتب في الاقتصاد والتاريخ والفلسفة، كتب الأدب لها عندها جاذبية خاصة، أفرغت كوب الماء البارد في جوفها الساخن، غمرتها الراحة فاستندت إلى المسند الجلدي: أنت بتحب قراءة الروايات؟
– أيوه.
لكن كان يشتغل مهندسًا، يضع رسوم الإنشاءات والمباني، يتحدث عن فن المعمار بحماسةٍ عاطفية. دار الحديث بينهما كأنه زميلها في الجورنال، الإبداع في المعمار لا يختلف عن الإبداع في الأدب أو الموسيقى أو أي شيء آخر، لكن لا أحد يهتم بالحاجات دي في بلدنا؟