في بيت رجل
كانت تنظر إلى الساعة من حينٍ إلى حين، تسير إلى باب أخيها تدقه، تضغط على الجرس، ثم تعود حائرة، بلغت الساعة منتصف الليل، عصام اتأخر جدًّا، دايمًا يتأخر، زمانه جاي في السكة عندي صينية بطاطس في الفرن، جعانة؟ جدًّا وضحكت نهض إلى المطبخ وكوباية ميه كمان من فضلك، أكلَت بشهية الأطفال في غرفة الطعام، ونامت حتى الصباح في غرفة الضيوف، قلقت في نومها مرة أو مرتَيْن، تتلفت حولها بدهشة، غرفة غريبة عنها، وهي راقدة بملابسها لم تخلع الحذاء، تدرك فجأة أنها تمضي الليل في بيت رجل لا تعرفه، ليس لباب الغرفة مفتاح، ينتابها القلق ثم يغلبها النوم، تفتح عينيها في الظلمة، ترهف أذنيها لسماع صرير باب غرفتها وهو يدخل؟ مجرد خيالات ومخاوف طفولية قديمة، حين كانت تسد شقوق الشيش بأوراق الصحف؛ خوفًا من تسلل الشيطان أو الملاك مندوب الله إلى السيدة مريم العدرا، لكن الليل انقضى في أمان، قفزت من الفراش على ضوء النهار، صافحت الرجل وشكرته، لم تسأله عن اسمه، سارَت إلى باب شقة أخيها ضغطَت الجرس، فتح أخوها الباب، اتسعَت عيناه دهشة، جيتي من مصر امتى؟
دلوقتي أتقول له أين قضَت الليلة؟ لا أحد يصدق؟ تكاثرت المساجد والمسابح وفتاوى وأحاديث من نوع: ما اجتمع رجلٌ وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. دخلت الصالة، كانت مائدة الفطور معدة، فتاةٌ جالسة تشرب الشاي وهي مرتديةٌ قميص نوم أحمر شفافًا، حمالة رفيعة فوق الكتف البيضاء العارية، رأسها ملفوفٌ بالحجاب، تلعثم أخوها قليلًا: صديقتي.
ابتسمت الفتاة وهمست: اتفضلي الفطور جاهز. شكرًا، لازم أرجع مصر حالًا، نشلوني يا عصام وعاوزة أستلف منك ثمن تذكرة القطار إلى القاهرة. جلسَت في جوار النافذة، تحب السفر بالقطار منذ الطفولة، تشرد عيناها في المساحات الخضراء الممدودة إلى الأفق، لم تعد المساحات خضراء، تقلَّصت الخضرة وتقلصت البهجة، في محطة طنطا اشترَت رزمةً من الجرائد، رائحة السميط أعادَت إليها شيئًا من البهجة، قضت الوقت وهي تقرأ وتقضم السميط مع الجبنة الرومية، في الصفحة الأولى من الجورنال رأت الصورة، صورته تظهر في كل يوم في الصفحة الأولى، في كل مكان في البلد، فوق أعمدة النور والسواري، في مكاتب الموظفين والحلاقين، وفي دورة المياه بالقطار، تطل عيناه عليها وهي جالسة فوق المرحاض، تهتز الخطوط فوق جبينه مع الاهتزازات فوق القضبان، ويشتد غضبه حين يراها تمسح المرحاض بالجورنال، وصلت إلى محطة باب الحديد، ركبت الأوتوبيس إلى شارع التحرير، تمشي بخطوتها السريعة، الناس يرمقونها وهي تمشي، يحملقون في ظهرها المشدود ورأسها المرفوع، نوعٌ من الكره تثيره في الرجال والنساء، يكرهون كيانها وكبرياءها، جسمها ممشوقٌ مثل جسم شاب رياضي لكنها فتاة، خطوة واسعة واثقة تنم عن الكرامة، ليست خطوة أنثى، عيناها شاخصتان إلى الأمام تتحديان الأنوثة والذكورة معًا، لم تكن ترى أحدًا وهي تمشي، لا تتلفت هنا وهناك، كأنما الكون خالٍ من البشر، تمشي نحو الأفق، حتى التقاء الأرض والسماء، تمشي كأنما إلى اللامنتهى، زوجها شاكر كان ينتظرها، بشرته بيضاء، شعره أسود كثيف إلا صلعةً صغيرة في منتصف الرأس، عنقه رفيع يطل من فتحة القميص المفتوح، صدره أملس ليس عريضًا وليس فيه شعر، عضلات ذراعَيْه قوية، يُمارس الرياضة في النادي.
– مكتب الرئيس طلبك مرتين.
– الرئيس أنهوه؟
– مش عارفه.
– رئيس التحرير؟
– عاوز يقابلك.
– بخصوص؟
– قرار فصلك.
حدَّقت إلى عينيه الخضراوين من خلال زجاج النظارة البيضاء، في صوته رنة سرور غامض وهو ينطق «قرار فصلك»، يخفي الصراع في أعماقه بابتسامةٍ أو بنصف ابتسامة، شارك في التظاهرات، هتف للحرية والعدالة والمساواة، دخل السجن وخرج، صدر له كتاب عنوانه تحرير المرأة: فصلني خلاص عاوز يقابلني ليه؟
– يمكن يرجع في قراره.
– لا يمكن أرجع الجورنال.
– بلاش مشاكل جديدة يا فؤادة.
يتحسس مؤخرة رأسه بأطراف أصابعه، حركة لا إرادية، منذ خرج من السجن قرَّر ألَّا يدخله مرة أخرى، يرمق زوجته بغضبٍ مكبوت، تعيش في الخيال غير معترفة بالواقع، تصفع الناس برأيها من دون أن تفكِّر في العواقب، كان الأفضل أن يتزوج ابنة عمه سوسو، ليست ذكية ولا جميلة، لكنها أنثى رقيقة، تحب رعاية الأطفال وتجيد الطبخ وأعمال الإبرة، ليس لها طموح خارج البيت والأسرة، لكنه اختار فؤادة، ليس بسبب الحب أو الجنس، زوجته في نظره باردة، تفتقد ضعف الأنوثة، لا تطيع إلا عقلها، كانت له علاقات بنساء شبقات غير مختونات، يفضل الفتيات العذراوات دون سن العشرين، لكنه تزوج فؤادة بعد خروجه من السجن، كان متعبًا معزولًا عن الحياة، أراد زوجةً قوية الشخصية تُعيده إلى الحياة، تحمل عنه أعباء البيت ومصاريف الأسرة، جميلة ممشوقة يفخر بها في الحفلات، ولا مانع من أن تكون مثقفة أو كاتبة، شرط ألَّا تعوقها الكتابة عن واجباتها الزوجية، دخلَت فؤادة الحمام، تركَت نفسها تحت مياه الدش تغسل الرمال والماء المالح، ناسيةً جسمها تحت المياه المتدفقة، علاقة طفولية تربطها بالماء والبحر، قالَت لها جدتها وهي طفلة إنها كانت «سمكة» تسبح تحت الماء، وجدوها على الشاطئ فأخذوها إلى البيت، سمكة نوعها إيه يا جدتي؟ تضحك جدتها من دون أسنان، تستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، عرفتي منين أنواع السمك يا عفريتة؟
كانت فؤادة طفلة في الرابعة من عمرها، تسمع جدتها تنشد مع الراديو الأناشيد الوطنية، النصر المجيد، الصوت يدوي في الإذاعات انتصرنا، تحدِّق إلى عيني جدتها، التحديقة المخيفة مثل العفاريت، تريد أن تسألها عن الحرب والنصر، لكنها تسألها عن أنواع السمك، تعد الجدة الأسماء على أصابع يدها المعروقة، التي يعلوها نمش أسود: البلطي والبوري والبياض والقراميط والثعابين وسمك موسى. تتذكر الطفلة قصة سيدنا موسى التي حكتها الجدة فتسألها: وسيدنا محمد له سمك كمان؟ تخبط الجدة على صدرها مستعيذة من الشيطان الرجيم أستغفر الله العظيم، سيدنا محمد ما لوش سمك. صوت زوجها يأتيها من وراء باب الحمام: رئيس التحرير ع التلفون، خرجت تلف نفسها بالبشكير الأبيض الكبير، جففت يدها المبللة، وأمسكت السماعة: آلو، آلو.
– لأ يا أستاذ، النهارده مش ممكن أنا في أجازة.
– بكرة الساعة عشرة الصبح يا فؤادة؟