الفصل من الجورنال
ممكن. وضعت السماعة وزوجها يبحلق فيها، ملامحها هادئة خالية من أي قلق، كأنما لم تفصل من الجورنال، واقفة تلف نفسها بالبشكير الأبيض الكبير، شق رفيع طويل في البشكير يكشف عن فخذها الناعمة الممشوقة المحروقة من الشمس، يهبط إلى ساقها الطويلة حتى قدمها الحافية المبللة بالماء فوق بلاط الصالة، تحركت شهوته قليلًا، أراد أن يأخذها إلى الفراش، لكن الرغبة لم تكن كافية، جسدها منذ ليلة الزفاف لم يشبعه جنسيًّا، تعود إشباع شهوته مع نوعٍ آخر من النساء، جسم ممتلئ باللحم، طري يلين تحته من دون جهد، أو بجهدٍ قليل، لا يحب أن يبذل جهدًا في الفراش، تكفيه الجهود الأخرى خارجه، يفضل أن تأخذ المرأة المبادرة، وتقوم هي بالعمل، دخلت غرفتها وأغلقت الباب من خلفها، كانت لها غرفتها الخاصة وسريرها، ومكتبها، ومكتبتها، وخزانة ملابسها، لكل منهما الاستقلال الكامل، لا يسيطر أحدهما على الآخر، لهما قانون خاص، بالبنود التي يتفقان عليها، في غرفتها تمدَّدت فوق سريرها، تنشد الراحة والاسترخاء بعد الحمام الساخن، تستعيد دفء الماء الذي يغرق جسمها، منذ الطفولة تعشق النوم، على الجدار فوق مكتبها صورة ملونة لأمها وأبيها بملابس البحر، تتمدَّد هي تحت الشمس، من حولها الأطفال يبنون القصور من الرمال ثم يهدمونها، يعيدون بناءها وهدمها، أبيات شعر وقصاصات ورق مثبتة بدبابيس على لوحةٍ خشبية، فوق المكتب مذكرة هامة، لا تنسي موعدك …
ثم غلبها نومٌ لذيذ، انتفضت على صوت زوجها من وراء الباب الساعة التاسعة يا فؤادة، ميعادك الساعة العاشرة مع رئيس التحرير، زوجها يحرص على المواعيد، أدخله أبوه المدرسة الألمانية في الطفولة، أعجبته شخصية هتلر وبطريق الكنيسة والسلطة الإلهية المطلقة، وهو في العاشرة من عمره انفصل أبوه عن أمه وتزوج فتاةً تصغره بأربعين عامًا، كان يناديها ماما، تضربه في غياب أبيه وتلسعه بالمكواة من دون سبب، ثم تغمره بالقبلات حين يعود أبوه، مبنى المؤسسة الصحفية في عمارةٍ شاهقة جديدة في شارعٍ متفرع من ميدان التحرير، ناطحة سحاب جدرانها زجاج ذات أعمدة من خرسانة حديد وأسمنت، من الطراز التجاري الأمريكي السريع، يشغل مطعم ماكدونالد نصف الدور الأرضي، تفوح منه رائحة الهامبورغر، النصف الآخر يبيع أجهزة الفيديو والديسكو، تتصاعد منه تسجيلات أغاني موسيقى راقصة صاخبة، لا يعلو عليها إلا أصوات الميكروفونات تذيع الصلوات والتسبيحات من الجوامع المجاورة، يشغل الجورنال الأدوار الحادية عشرة بعد الأرضي، مكتب رئيس التحرير في الدور الثاني عشر تشغل السكرتيرة غرفة واسعة هادئة إلا من أزيز خافت لجهاز التكييف، لها نوافذ كبيرة زجاجية تكشف نهر النيل وجبل المقطَّم وقلعة محمد علي، ترتدي السكرتيرة ثوبًا هفهافًا قصيرًا، يكشف جزءًا من الفخذَيْن الرشيقتَيْن، خطوتها سريعة خفيفة مثل خطوات راقصات الباليه، تنتعل حذاءً فضيًّا مفتوحًا من الأمام، تمتص السجادة السميكة فرقعة الكعب العالي الرفيع، تبتسم بإتقان مثل نجوم الشاشة أو العرائس فوق المسرح، سارت فؤادة وراءها بحذائها الأسود المعفر وقميصها الواسع الأبيض من القطن والبنطلون الرصاصي من الجبردين، مكتب رئيس التحرير ضخم، مفروشٌ بالسجاجيد العجمية، فوق رأسه صورة ضخمة لرئيس الدولة، من تحتها صورة وزير الثقافة ثم رئيس المجلس الأعلى للأدب والصحافة وصور رؤساء تحرير الجورنال السابقين، في صف طويل، ثم صورته في آخر الطابور داخل إطار ذهبي، رأسه من فوق المكتب الضخم صغير الحجم يخلو من الشعر، إلا شعيرات سوداء نافرة وراء أذنيه، فوق المكتب أوراق ومجلات مصرية وعربية وأجنبية، وأجهزة تلفون متعددة مختلفة الألوان، منافض بلورية ملأى حتى الحافة بأعقاب السجائر، دخانٌ يتصاعد إلى السقف، علب سيجار وسجائر مرصوصة في جوار أكوام الكتب والورق، سيجارة مشتعلة بين إصبعين صفراوين في يده اليسرى، يده اليمنى تمسك القلم الذي يتحرَّك فوق الورق بخطوطٍ عشوائية، صوته متحشرج، جفونه المتورمة مسدلة قليلًا، كأنما يحاول الاستيقاظ من النوم. حاولت كثيرًا أن أمنع هذا القرار لكن الأغلبية في المجلس وقفوا ضدك، الأستاذ رئيس المؤسسة وقف ضدك بعنفٍ وهدد بالاستقالة إن لم يصدر قرار فصلك، لا بد وأنه عانى منك الكثير، فعلًا عانى مني الكثير، ليه التطرف ده يا بنتي؟ لك قلم ممتاز ومستقبل جيد في الصحافة، ألا تهتمين بمستقبلك الصحفي؟
– لا.
– أنا أحاول مساعدتك، وقد أعطيتكِ فرصًا كثيرة سابقة أتنكرين ذلك؟
– لا أنكر.
أشعل سيجاره وراح ينفخ الدخان، فؤادة تسبب له ضيقًا، عيناها تحدِّقان إلى عينيه بثبات، ليس في التحديقة وقاحة بل انتباه وتركيز، اسمعي يا بنتي، الصحافة لها أصولٌ وتقاليد، هل تظنين أنكِ قادرة على كسر الأصول والتقاليد؟! هذا عبثٌ، جنون.
– نعم.
– حين أطلب إليكِ حذف أجزاء من مقالك، هل هذا يغضبك؟
– طبعًا يغضبني.
– أعطيكِ فرصةً أخيرة.
– شكرًا.
– سأضطر إلى تنفيذ القرار، سوف تندمين.
– لن أندم، كنت أنوي الاستقالة منذ مدة، تعودت أن أقرر لنفسي ولا أنتظر قرارات الآخرين، كان يجب أن أترك الجورنال من زمان، أنا بصراحةٍ لا أحب الصحافة، لا أشعر فيها بأي متعة، الصحافة ليس فيها إبداعٌ أو تجديد، معظمها نفاق وكذب.
نفخ رئيس التحرير عمودًا من الدخان وصمت طويلًا، شيءٌ ما يجذبه فيها، ليس كلامها بل طريقتها في التعبير وتحديقة عينيها.
– النفاق طبيعي في الصحافة يا فؤادة، اسمه ذكاء سياسي، والإبداع والتجديد ممكن تطبيقهما في الصحافة، تجارب الماضي وضرورات الحاضرة مهمة، العملية الإبداعية في الصحافة طويلة بطيئة تدرُّجية جماعية، تقتضي التعاون بين الجميع واحترام رأي الأغلبية، الاحترام غير الخضوع، مش عارف إنتي عاوزة إيه؟
– عاوزة أعبر عن نفسي، عاوزة أكتب اللي في دماغي.
– أنا عاوز الحقيقة يا فؤادة؟
– أيوه يا أستاذ.
– الحقيقة أن دماغك دي عاوزة الكسر، إنتي عارفة قيمة قلمك عندي المشكلة دماغك، مطلوب كسرها، إحنا بنعيش في دولة فاسدة من قمة رأسها لأسفل مؤخرتها، النفاق يكسب في كل مجال خصوصًا الصحافة، لا يمكن أن أستمر فوق الكرسي بدون إراقة ماء وجهي، لازم أحط مناخيري في الأرض، الوزير مناخيره في الأرض ليرضي رئيسه، ورئيسه مناخيره في الأرض ليرضي رئيسه، ورئيس الكل عارفاه مين؟
– ربنا يا أستاذ محمد؟
– ربنا يجعل كلامنا خفيفًا على قلبه يا فؤادة، اسمعي كلامي كفاية مبادئ وكلام فارغ، شعب إيه وثورة إيه؟ في التاريخ كله النظام واحد في الكون كله، لا يمكن يتغير.
– ممكن يتغير يا أستاذ.
– اسمعيني وكفاية عبط ومثالية، أفلاطون لم يكن مثاليًّا، كان يؤمن بالقوة فوق الحق، لا يوجد شيء اسمه حق دون قوة، القوة هي كل شيء، أنا أصدرت قرار فصلك تحت ضغط القوة العليا من فوق رأسي، لازم أنفذ الأمر وإلا أقعد في البيت وعيالي يموتوا من الجوع فاهماني؟
– لكن يا أستاذ محمد …
– أرجوكي لا تقاطعيني، أخطر شيء أن العيال يجوعوا، أبويا الله يرحمه جوعنا كلنا من أجل رأيه الحر، أمي اشتغلت في البيوت، وأنا خرجت من المدرسة واشتغلت في ورشة ميكانيكي، كان يضربني في بطني بكعب جزمته، أنا ممكن أضحي برأيي الحر من أجل أولادي، أبويا كان أناني يفكر في نفسه في رأيه وخلاص، أنا أفكر في أولادي، لازم يتعلموا كويس ويعيشوا كويس ويكون لهم كرامة، أنا مستعد يا بنتي ألغي قرار الفصل بشرط أنك تغيري طريقتك وتمشي في الصف، كلنا ماشيين في الصف، موافقة؟
– لأ مش موافقة يا أستاذ محمد.
– مش فاهم إنتي عاوزة إيه؟
– عاوزة أعمل الشيء اللي باحبه.
– إيه هو؟
– الكتابة.
– شغلنا كتابة في كتابة.
– الصحافة غير الكتابة، عاوزة أكتب أدب؟
– أدب إيه يا فؤادة، إنتي عايشة في الخيال، حاولي تعيشي الواقع، الأدب الحقيقي أو الإبداع الحر لا يمكن يوكل عيش، قوليلي اسم أديب واحد عايش على الأدب، كلهم موظفين في الدولة في الصحف والمجلات، كلهم ماشيين في الصف فيه ناس تمردوا وكتبوا أدب حقيقي، زي مين؟
– الكاتبة بدرية البحراوي.
– بدرية البحراوي كاتبة موهوبة لا يمكن حد ينكر، لكن شوفي هي عايشة إزاي، كان ممكن تكون في قمة الأدب وتعيش في المجد لكن مين يعرف بدرية البحراوي النهارده؟ اسمها اختفى تقريبًا، اسمعي نصيحتي يا بنتي، فكري بعقل، أنا كنت الوحيد في المجلس اللي دافع عنك، كلهم وقفوا ضدك.
– عارفة أيوه عارفة.
– الأفضل تغيري طريقتك، موافقة؟
– لأ.
يصمت رئيس التحرير لحظة، يرمقها في صمت، ينفث الدخان من أنفه، يراها تحدق إلى عينيه، لا يرى في تحديقة عينيها وقاحة، بل ثقة بالنفس ونوعًا من الأدب، كان مثلها في طفولته، قبل أن يضربه الميكانيكي بكعب حذائه في بطنه. كلهم بيتهموكي بالتطرف أو بالجنون، اعذريني لصراحتي معك.
– أعذرك طبعًا.
– اسمعي، لازم أنفذ قرار فصلك، أنا آسف.
– ما فيش داعي للأسف يا أستاذ، كنت عاوزة أتحرر من عبء عمل لا أحبه، ولا أجد فيه أي متعة، مهنة الصحافة لا تناسبني، لا أستطيع الخضوع لتقاليد هذه المهنة، أنا أحب الكتابة الأدبية، إنها متعتي الوحيدة، الكتابة الأدبية مهنة أيضًا لها تقاليدها ومدارسها وأساتذتها الكبار، لا يمكنك الخروج على قواعدها، ممكن الخروج على أي قاعدة يا أستاذ، الإبداع هو خلق قواعد جديدة.
– ألا تعترفين برُواد الأدب الكبار المعروفين اللي حصلوا على أعلى الجوائز؟
– التاريخ يا أستاذ محمد هو اللي يحكم ويفرز الرواد الحقيقيين من الرواد المفروضين بالدولة ورئيسها، وكل إنسانٍ مبدع رائد في مجاله يا أستاذ محمد، طبعًا الدراسة والقراءة ضرورية في العلم والفن، ليس في الأدب فقط لكن الإبداع ينبع من الحياة، من الملاحظة الدقيقة للواقع والخبرة والتجربة والحساسية والمشاعر والتفكير، الشكل لا ينفصل عن المضمون، الجلد لا ينفصل عن اللحم، كل قصة لها تكوينها، كل قصة كائن حي له بصمته وصفاته المميزة.
يرمقها في صمت، ينفث الدخان في السقف، في أعماق عينَيْها إيمان بما تقول، يستمع إليها بشيءٍ من الدهشة، ليس كلامها الذي يدهشه بل الطريقة التي تتكلم بها، حماستها لما تقول من دون أن يطرف لها جفن، من أين لها هذه الثقة العارمة بنفسها؟ يقلب الملف فوق مكتبه الخاص بسيرتها الذاتية، عمرها ثلاثة وعشرون عامًا، تخرجت في كلية الهندسة، لم تتخرج في كلية الآداب أو الإعلام، قليلة الاختلاط بزملائها وزميلاتها في الجورنال، لا تحضر اجتماعات التحرير، لها زميلة تتبادل وإياها الحديث هي كوكب، وصديقة لها تعمل في المطبعة اسمها حميدة. يا فؤادة لمن تكتبين؟
– أكتب لنفسي.
– مش عاوز قراء وجمهور؟
– أكتب لنفسي وبعد ذلك للآخرين.
– والكتابة هدفها إيه؟
– هدفها الكتابة.
– ده مش معقول.
دق جرس التلفون فوق مكتبه، تركه يدق وراح يفكر، جنونها معقول، لا يريد أن يخسرها الجورنال، بالرغم من جنونها لها قلم، لها شخصية لا يمكن تجاهلها، بالرغم من غرابتها ليست غريبة، ضميره يؤنِّبه لأنه يفصلها، يبذل أقصى جهده لإبقائها، وهي لا تحاول مساعدته. إنتي خطيرة يا فؤادة.
– يعني إيه خطيرة؟
مد يده ورفع سماعة التلفون: آلو، أيوه، جاي حالًا.
نهض واقفًا.
حاولي مراجعة نفسك، اسألي صاحبتك كوكب، هي صحفية ممتازة، عاقلة متزنة، قررنا جميعًا ترشيحها لجائزة الدولة، ممكن ترشيحك السنة القادمة لو عقلت وبطلت الجنون، أنا أعطيتك وقت أكتر من اللازم، أمامك فرصة أخيرة للتفكير.
– أنا فكرت خلاص.
– خلاص.