كوكب الكميلي
تنهدت رافعة ذراعيها «خلاص» كأنما ترفع عن قلبها عبئًا ثقيلًا، رمقها من ظهرها وهي تخرج من الباب، طويلة ممشوقة الجسم، مثل شاب رياضي، خطوتها واسعة خفيفة، كأنما تنطلق بسرعةٍ إلى موعدٍ هام، أهم من الجورنال ومن كل شيء، القاعة الضخمة ملأى بالمئات من المثقفين، الرجال والنساء من مختلف الأعمار، وجوهٌ معروفة تظهر في الصحف والإعلام، صحفيون، أدباء، مفكرون وما يقال عنهم صفوة المجتمع، جالسون في مقاعدِهم ينتظرون، يتطلعون إلى المنصة العالية، الكراسي من خلفها مغطاة بالقطيفة الحمراء ومطعمة بالذهب، سبعة آلاف سنة لم تتغير الكراسي منذ الإله آمون، نقل العالم شكل الكرسي ومعناه عن الحضارة المصرية القديمة، لا ينفصل الشكل عن المعنى، خمسة كراسي يلمع ذهبها تحت الأضواء القوية يتوسَّطها الكرسي الأضخم الأكثر ذهبًا الأثمن قطيفة، يجلس فيه رئيسهم، يأتي متأخرًا بعد أن تمتلئ الكراسي جميعًا، ويدب الصمت ثم يدوي الصوت الجهوري الجمهوري: السيد رئيس الجمهورية. يدوي التصفيق والأجسام تنتفض وقوفًا، والأعناق تشرئب نحو كتلة الضوء، تصبح العيون عمياء من شدة الكهرباء، يبدو وجهه كوكبًا مضيئًا من دون ملامح واضحة، إلا الجبهة المسطحة وأرنبة الأنف المعقوفة والشفة السفلى الممطوطة في اشمئزازٍ وكبرياء مصطنعة، يلقي وزير الثقافة خطابًا ركيكًا حافلًا بأخطاء النحو والصرف والتاريخ والجغرافيا، تصبح مصر هي قمة العالم، رئيسها هو رئيس القمة العالمية، فيلسوف القرن الواحد والعشرين، يعطي توجيهاته للجميع من وزير الثقافة إلى وزير الحربية والبوليس والتعليم والأمن والاقتصاد والسياسة، والدين والأدب والعلم وحماية الأخلاق والبيئة، وجمع القمامة ورعاية أطفال الشوارع، هو رب العائلة البشرية الذي صنع كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ بإرادة الله طبعًا أيها السادة، يقدم الوزير فخامة الرئيس، يتمطى فخامته ويمط الكلام، يخرج صوته بطيئًا مشمئزًّا، شفتاه الممتلئتان النديتان المشربتان بالحمرة، وعصير الفواكه والكسل، تتحركان في بلادة، العيون والآذان وقرون الاستشعار تُتابع الحركة والصوت والضوء، ثم يبدأ توزيع الجوائز، يتقدَّم الفائزون والفائزات في صفوفٍ منتظمة، ملابسهم أنيقة نظيفة، ملامحهم مغسولة لا يظهر منها إلا الابتسامة العريضة الممدودة بين الأذنَيْن، والعنق ينحني مع الرأس لحظة امتداد فخامة اليد بالجائزة الرفيعة، ويدوي التصفيق دويًّا كبيرًا، كوكب الكميلي بعد أن تسلمت الجائزة وجلست في مقعدها تدور بعينيها في القاعة باحثةً بين الوجوه عن وجهٍ معين، تدرك منذ تسلمت الجائزة أن العيون ترمقها، كوكب الكميلي عيناها سوداوان يكسوهما بريق الذكاء والانتباه، شفتاها ناعمتان ملونتان بحمرةٍ عاقلة متزنة تشبه العذرية، تحوم عليهما ابتسامة تنم عن فرحةٍ مكتومة، لا تظهري فرحك للناس وإلا كرهوك، إن الله لا يحب الفرحين، درس تعلمته في البيت والمدرسة، ترفع رأسها وهي جالسةٌ بزهو، تدرك أنها جميلة، وأن جمالها أمرٌ طبيعي من عند الله، ميزها الله من الآخرين والأخريات، إنها كوكب الكميلي نجمة الأدب والصحافة، نائبة رئيس التحرير، بطلة السباحة والكرة الطائرة، حصلت على أعلى الأصوات في الانتخابات، أصغر الأعضاء سنًّا، عيون الرجال تلتهمها حبًّا، عيون النساء تأكلها حسدًا، هذا الحشد من المثقفين جاء ليشهد حصولها على الجائزة، تدور عيناها على الرءوس في القاعة محاولة معرفة عددهم، في القاعة خمسمائة كرسي جميعها ممتلئة من دون استثناء، بعض الناس يقفون وراء الصف الأخير على الجانبين، جميعهم يعرفون موهبتها الصحفية والأدبية، إلا زميلها أحمد عارف الذي تصور أنه الفائز بالجائزة، لكنها صرعته في المنافسة، بالجهد المتواصل والصبر والعرق والأرق، تهمس لنفسها، نعم اشتغلت يا كوكب الكميلي مثل كلب لتصرعي غريمك أحمد عارف، لم يعد لديك منافسون بعد أحمد عارف، ثم ابتلعت كوكب الكميلي لعابًا مرًّا، شعرت فجأة بغصةٍ في حلقها، تنزلق الغصة من الحلق إلى المعدة، تشبه الكرة الصلبة الباردة الخاوية من الداخل، مثل ثقب الأوزون الأسود، أو فراغ من هواء مضغوط، يتحول من بخارٍ في المعدة إلى قطعةٍ صلبة، تتحرك في أحشائها، كتلة متراكمة من القلق والحيرة والشك داخلها الثقب، هل أنت يا كوكب الكاتبة الموهوبة التي تستحق هذه الجائزة؟
عيناها تدوران في القاعة بحثًا عن وجه أحمد عارف، لمحت وجهه النحيل الشاحب بنظارتيه الطبيتين البيضاوين فوق عينَيْه اللامعتَيْن تحت الأضواء، ابتسمَت في وجهه وهزت رأسها بتحية، يتخفى الزهو تحت التواضع، يرد لها التحية بانحناءة رأس مستسلم، وابتسامة كبرياء مهزومة، تشعر كوكب بدوارٍ لذيذ، كأنما شربت كأس نبيذ معتق، نشوة النصر على أحمد عارف، أقوى المنافسين لها، دعي العيون تشهد يا كوكب الكميلي كيف تتفوقين اليوم على أحمد عارف وغيره من الكتاب والصحفيين، في نهاية الحفلة وقفت بقامتها الطويلة الرشيقة بين كبار الأدباء ورؤساء التحرير، الأديب الكبير خالد الحموي، الحائز جائزة مبارك يبتسم في وجهها، يشد على يدها بقوةٍ وحرارة، مبروك يا أستاذة عقبال جايزة مبارك. وزير الثقافة يربِّت كتفها بحنان الأب، مبروك يا بنتي لك مستقبل أدبي مرموق يفخر به الوطن. يعانقها الزملاء والزميلات مهنئين، تستمع إلى عبارات التهنئة والتقدير بفرحٍ كبير، تتذكَّر صديقتها فتشتد فرحتها، لم تعد منافسة خطيرة لها بعد فصلها، كانت هي تخص كوكب بصداقتها، تعاملها برقةٍ وتساعدها على الكتابة، لم تكن كوكب تجيد الكتابة باللغة العربية، مقالاتها ملأى بالأخطاء، لا تتأخر عن تصحيحها إن طلبت إليها كوكب ذلك، أحيانًا تعيد كتابة المقال أو فقرة تراها ناقصة، كتبت لها مقالًا كاملًا حين سافرت في الإجازة، مدحه رئيس التحرير كثيرًا، هنَّأ كوكب عليه، نشره في مكانٍ مميز أعلى الصفحة، مع صورة كوكب داخل إطار، في الليل تحلم كوكب بكابوسٍ يثقل قلبها، تبدو صديقتها هي الكابوس أو الشبح الذي يطاردها في الظلمة، تتمنى أن يأخذها الله؟ ثم تقول لنفسها في الحلم: ما ذنبها يا كوكب إذا كان الله هو الذي يعطي الموهبة لمن يشاء ويحرم من يشاء؟ لكن أين العدل يا رب؟ تتشكك كوكب في عدالة الله في أثناء النوم، حتى يطلع النهار فيعود إليها الإيمان كاملًا، طردت كوكب الشبح بهزةٍ قوية من رأسها، فازدادت الأصوات المهنئة من حولها، يقول لها أحمد عارف: «ألف مبروك يا كوكب يجب أن نحتفل بكِ الليلة في النادي الثقافي، الوزير سيحضر، وكبار الأدباء ورؤساء التحرير جميعهم.» شكرًا يا أحمد أنت كاتب ممتاز كنت تستحق الجائزة أكثر مني لكن معلهش السنة الجاية تاخذها. لم تحضر صديقتها فؤادة الحفلة كعادتها، لم تكن تحب الحفلات والحياة الاجتماعية الأدبية والثقافية، تمنَّت كوكب أن تراها في الحفلة، لتشهد مع الآخرين فوزها، تجول عيناها في القاعة باحثة عنها، لم تكن فؤادة في الحفلة، أصبح غيابها غصةً في حلق كوكب، إبرة تنخس صدرها، أرادت أن تقرأ على وجهها ما قرأته على وجه أحمد عارف والمنافسين لها؛ الحسد، لكن فؤادة لم تحضر حفلة الجائزة في الصباح، ولا حفلة المساء، لم تتصل بها كوكب منذ فصلها من الجورنال، ركبت سيارتها بعد الحفلة، عازمة على زيارة فؤادة في بيتها، أقنعت نفسها بأنها زيارةٌ واجبة دافعها الصداقة، يداها تدوران مع عجلة القيادة وهي شاردة، يتحلق الأطفال في الشوارع حول سيارتها يمسحون زجاجها، يبيعون علب مناديل الورق المعطرة، أو زهور القرنفل، عقود الياسمين، أو لا يبيعون شيئًا، لكن يحملقون من خلال الزجاج المغلق بعيونٍ واسعة جائعة، يقشعر جسمها خوفًا وهي ترى التحديقة في عيونهم، تدوس بقوةٍ دواسة البنزين منطلقة بالسيارة، فتحت فؤادة الباب لترى كوكب أمامها تلهث، وقد صعدت الأدوار في الظلمة، كان المصعد معطلًا، أنوار السلم منطفئة، كانت فؤادة ترتدي قميص نوم أبيض مجعدًا، وكان شعرها ملفوفًا فوق رأسها في ضفيرتَيْن، مدت كوكب يدها نحوها بزهرة قرنفل وعقد ياسمين، كنت عاوزة أزورك قبل كده لكن الشغل كتير إنتي عارفة. مبروك الجائزة يا كوكب. الجائزة مش مهمة، المهم إنتِ يا فؤادة، أنا قلقت عليكي من يوم قرار الفصل. أنا نسيته يا كوكب. حد ينسى قرار مهم بالشكل ده؟
– أنا زعلت منهم في الجورنال، قلت لهم إزاي تفصلوا أكتر واحدة موهوبة فينا، عارفة تقديري لك يا فؤادة؟
– عارفة يا كوكب.
– عاوزة آخد رأيك في موضوع مهم.
– رأيي أنا يا كوكب؟
– رأيك كان دايمًا له قيمة عندي.
ضحكةٌ خافتة وهي تحدق إليها: إيه الموضوع يا كوكب؟
الأستاذ محمد رشحني لرئاسة تحرير مجلة المرأة الجديدة، العدد الأول سيصدر في عيد النصر الجاي؟ مش عاوزة أسيب الجورنال، مين فات قديمه تاه، إيه رأيك؟
اختاري الشيء اللي تحبي تعمليه يا كوكب. مش باحب حاجة في الصحافة ولا تحرير المرأة ولا حاجة من الكلام الفارغ عاوزة إيه يا كوكب، مش عارفة، عاوزة أحب يا فؤادة، عاوزة الراجل اللي أحبه بحق وحقيقي، اتجوزت بكري من غير حب، ثم تطلق كوكب ضحكتها العالية المجلجلة التي تنتهي بشهيقٍ عميق كالنشيج، ثم تحكي لها قصة حبها القديمة قبل الزواج، لا يمكن أنساه يا فؤادة مش عارفة ليه، هو الوحيد اللي حبيته وكنت عاوزة أتجوزه، لكن هو كان بيحب واحدة غيري دايمًا نبص للشيء في إيد غيرنا مش كده والا إيه يا فؤادة؟
– إيه يا كوكب.
وانفجرت الصديقتان بالضحك، قادت فؤادة سيارتها الصغيرة صباح اليوم التالي، كانت بدرية البحراوي تسكن في الناحية الأخرى من المدينة، في شقةٍ بسيطة من غرفتين، غرفة لمكتبها ومكتبتها، وغرفة للنوم، ومائدة الطعام في المطبخ، وصالة بها بعض المكاتب، انتقلت إلى هذه الشقة الصغيرة بعد تقديم استقالتها من سطرين:
لا تهتم الدولة بفتح العقول، شعبٌ مغلق العقل يسهل حكمه، انفض الناس عنها بعد فقدانها المنصب، لم يعد اسمها يظهر في الصحف، وبعد منع كتاباتها أصبحت تنشرها في مجلات الشباب غير المعروفة، لا يزورها في مكتبها إلا القليل، شابات وشباب متمردون فقراء يشقُّون طريقهم بصعوبة.