الفصل العاشر
استيقظ الجراح الميجور طومسون بعد نحو اثنتَي عشرة ساعة منتفضًا. إذ نام نومًا عميقًا لدرجة أنه لم يتمكَّن في البداية من تذكُّرِ مكان وجوده. وتحرك عقله ببطء عبر البانوراما القصيرة لرحلته السريعة — القطار الخاص من فيكتوريا إلى فولكستون؛ والمدمِّرة التي جلَبتْه مع عدد قليل من الجنود الآخرين عبر القناة، في الظلام الحالك، بسرعةٍ جعلت الصعودَ على السطح مستحيلًا؛ الهبوط في بولونيا، وهي خليةُ عمل على الرغم من الظلام؛ قعقعة العربات، وصفير القاطرات، وتصادم الحشود، مع وميض مِصباح كهربائي من حينٍ لآخر. ثم الركوب في السيارة الكبيرة خلال الليل الضبابي. فرك عينَيه ونظر حوله. بدأ صباحٌ رمادي ينبلج. وتوقفَت السيارة أمام بوابة بيضاء، تمركز أمامها جنديٌّ بريطاني، شاهرًا سونكي البندقية. فاستجمع الجراح الميجور طومسون نفسه وأجاب على التحدي.
حيث قال: «صديق … الجراح الميجور طومسون، في خدمة جلالته.»
ثم مال من السيارة للحظة وهو يُمسك بشيء في راحة يده. فأدَّى الرجل التحية وتراجع. ومِن ثَم سارت السيارة على طريق وعرة تؤدي إلى مساحةٍ شاسعة من المراعي. وعلى سفوح التلال على يمينه، كانت مجموعاتٌ صغيرة من الرجال يعملون على تفكيك المدافع. وقد مرَّت قذيفة، مرةً أو مرتين، مع صوت صرير، غريب، مثل نفخةٍ صغيرة من الدخان الأبيض، عاليًا فوق السيارة وسقطت في مكانٍ ما في الوادي الرمادي بالأسفل. واستطاع أن يرى من بعيدٍ تحركات مجموعة من القوات عبر الأشجار، والجنود في طريقهم لإراحة رفاقهم في الخنادق. وبينما ينبلج الصباح، ظهرت الخنادق نفسها — كخطوط طويلة متعرجة، صامتة، وبدون أي علامة على الرجال الذين زحفوا إلى الداخل مثل النمل. كما مر بمصنع مشروبات كبير تحول إلى مقصف، حيث يمر عبره خطٌّ من العربات، ذَهابًا وإيابًا، طوال الوقت إلى الوادي. وبين الحين والآخر من خلال السكون يأتي صوتٌ حاد لبندقية من القناصين الرابضين في مساحات صغيرة من الغابات والمستنقعات على اليمين. كما أتت حافلةٌ كبيرة، لا تزال اللافتات الإعلانية معروضةً عليها، ولكن وُضِعت فوقها علامة صليب أحمر كبير، تتأرجح على الطريق في طريقها إلى المستشفى الميداني البعيد. وحتى الآن، رغم ذلك، يبدو أن المعارك القتالية لم تبدأ بعد.
مرُّوا بعدة منازل ومزارع صغيرة، تمركز أمام كلٍّ منها حارس. وفجأة، من فوق التلال في الخلف، حلقت طائرة كبيرة بيضاء الجَناحين فوق رأسه في طريقها لعمل استطلاع. وكان أغرب المشاهد، هو مشهد الفلاحين هنا وهناك وهم يعملون في الحقول. حيث انحنى رجلٌ عجوز على فأسه وشاهد السيارة وهي تمر. وعلى مسافةٍ أقلَّ من عشر ياردات بالقرب منه حفرة كبيرة في الأرض حيث انفجرَت قذيفة، وعلى مسافةٍ أبعد بقليل تقع حظيرة مدمَّرة. وقد أُجبِرت السيارة على التوقُّف هنا للسماح بمرور موكبٍ من عربات الذخيرة. فمال الجراح الميجور طومسون من مقعده وتحدَّث إلى الرجل العجوز.
وسأله: «إذن أنت لست خائفًا من القذائف الألمانية، أليس كذلك؟»
فأجاب الرجل العجوز: «يا سيدي، يجب على المرء أن يعيش أو يموت — لا يهمُّ أيُّهما سيحدث. لكن إذا كان على المرء أن يعيش، فيجب أن يأكل. لذلك أنا أعمل.» وأضاف، وهو يُلوح بيده جنوبًا: «إن أولادي الأربعة وابن أخي هناك في المعارك. هذا هو السبب في أنني أحفر وحدي. لماذا لا ترسل لنا المزيدَ من الجنود، أيها السيد الإنجليزي؟»
أجاب طومسون بمرح: «انتظر قليلًا وسأفعل.»
نظر الرجل العجوز بحزنٍ إلى حظيرته المدمَّرة.
وراح يتمتم: «إن الرد دائمًا هو «انتظر»، ويكبر المرء ويتعب. عِمْت صباحًا يا سيدي!»
واصلَت السيارة طريقها مرة أخرى وانحدرت فجأةً في وادٍ صغير محمي. ثم توقفت أمام قصر صغير، تمتد أمامه ما كانت ربما ذات يومٍ حديقةً منسقة، ولكن مزَّقتْها الآن عربات المدافع، وعربات القوافل، وكل أنواع المركبات. كما تمتد من الجزء العلوي من المنزل العديد من الأسلاك. وقد سمح حارس البوابات الحديدية للميجور طومسون بالمرور بعد سؤال روتيني. حيث وقف ضابطٌ يرتدي حذاءً ملطَّخًا بالطين وشعره أشعثُ بفعل الرياح، وقد بدا كما لو أنه كان بالخارج طوال الليل، على درجات سلَّم المنزل ليستقبل طومسون.
وقال: «مرحبًا، أيها الميجور، وصلت للتو، أليس كذلك؟»
أجاب طومسون: «هذه اللحظة. هل من شيء جديد؟»
أجاب الآخر: «لا شيء يستحقُّ الذكر. لقد تلقَّيْنا للتو رسالةً مفادها أن الفرنسيين قد وجَّهوا لهم ضربة. لقد أمضينا وقتًا هادئًا في اليومَيْن الماضيَين. إنهم يجلبون المزيد من البافاريِّين، على ما نعتقد.»
فسأل الميجور طومسون: «هل تعتقد أنه يمكنني التحدُّث ببضع كلماتٍ مع الجنرال؟»
«تفضل بالدخول وتناول بعض القهوة. أجل، سوف يُقابلك، بالتأكيد. إنه في غرفته الخاصة مع اثنين من الطيارين، في هذه اللحظة. سأبلغك متى يُمكنك الدخول.»
ومن ثَم توجَّها إلى غرفة كانت ذات يوم غرفة الطعام في القصر، التي وُضِعت فيها منضدة طويلة. وقدَّم واحدٌ أو اثنان من ضباط الأركان التحية لطومسون، وسأله الرجل الذي أحضره عما يرغب في تناوله.
قال الأخير: «لقد تناول الجنرال إفطارَه قبل ساعة. إننا نتقدم بشكل جيد هنا وعلينا أن نظلَّ منتبِهين. لقد سقطت علينا بعض القذائف أمس على مسافة ربع ميل منا. أعتقد أننا سنحاول دفعهم للخلف على الجهة اليسرى. سأدخل وأطلب منهم إعداد ما تريد، يا طومسون.»
«يا لك من زميلٍ جيد! من فضلك اطلب منهم أن يُعِدوا شيئًا للسائق الخاصِّ بي. إن المدمرة التي أحضرتني تنتظر في بولونيا، وأريد أن أعود إلى لندن هذه الليلة.»
ابتسم أحد الضباط من الجانب الآخر للطاولة، بشكل غريب.
وتمتم: «لندن! يا إلهي! لا يزال هناك لندن، أليس كذلك؟ لا يزال هناك سافوي وكارلتون؟ بال مول أين كانت؟»
قال طومسون مؤكدًا: «مثلما كانت دائمًا. إن لندن لم تتغير قطُّ وهذا رائع. هل أنت بعيدٌ عنها منذ مدة طويلة؟»
كان الرد المرح: «منذ الثاني من سبتمبر. ما زلتُ أتلقَّى وعودًا بالحصول على إجازة لأسبوع، ولكن لم أحصل عليها.»
أوضح الرجل الذي يقف بجانبه، وهو يتناول مربى البرتقال: «إنه خبير في الهواتف. والجنرال لا يُمكنه أن يتخلَّى عنه مطلقًا.»
صاح الآخر في اشمئزاز: «أوه، توقَّفْ عن ذلك! وماذا عنك؟ — الرجل الوحيد الذي لديه عينٌ مسلَّطة على مدفع موجَّه نحو السماء، كما قال واتلز العجوز في أحد الأيام. نحن جميعًا عباقرة، يا ميجور»، وتابع، وهو يلتفت نحو طومسون: «ولكن إذا لم أحصل على مشروب سول كولبرت ولحمٍ مشوي في سافوي، ومقعد أمامي في ألهامبرا، قبل مرور عدة أسابيع، فسيُصيبني العفن — هذا ما سيحدث لي.»
قال رجلٌ من الطرَفِ الآخر للمنضدة: «آمُل أن تقصَّ شعرك قبل أن تعود. إن والدتك لن تتعرف عليك هكذا … فضلًا عن حبيبتك.»
تحسَّس الشاب خصلات شعره بأصابعه وهو يفكر.
ثم قال في تذمُّر: «إن الشاب الذي كان سيقصه لي أُصيب بالرصاص أمس. هل لاحظتَ أي نشاط عندما جئت عبر قمة التل، يا ميجور؟»
هز طومسون رأسه.
«طائرة واحدة وبضعُ قذائف.»
علَّق أحدهم قائلًا: «لا بد أن هذا جوني أوتس يقوم بطلعةٍ استكشافيةٍ بطائرته من طراز بليريوت. وسرعان ما سيعود إلى هنا مع تقرير.»
عاد الضابط الذي قابل طومسون في الحديقة إلى الغرفة.
وقال: «يقول الجنرال إنه سوف يُقابلك في الحال.»
تبع طومسون دليله إلى غرفةٍ خلفيةٍ صغيرة. كان ثمة ضابطٌ يجلس أمامَ مكتب، وهو يكتب، وآخَرُ يصرخ عبر الهاتف، وثالثٌ يُجري بعض القياسات على خريطة أوردنانس كبيرة مثبتة على أحد الجدران. بينما يقف الجنرال وظهرُه إلى المدفأة وفي فمه غليون. أومأ برأسه مبتهجًا إلى طومسون.
وسأله: «متى غادرتَ لندن؟»
أجاب طومسون: «في الساعة التاسعة من مساء أمس، يا سيدي. رحلة قياسية نوعًا ما. عبر قطارٍ خاصٍّ ومدمرةٍ عبَرتْ بنا القناة.»
واصل الجنرال إلقاء نظرةٍ خاطفةٍ على وثيقةٍ في يده وهو يقول: «وأنا سأخبرك بما تريد أن تعرفه. حسنًا، أغلق الباب، يا هاروود. أفصح عمَّا تريد.»
قال طومسون: «إن الأمر يخصُّ الكابتن جرانيت من طاقم هاريسون.»
عبس الجنرال وطرق الرمادَ من غليونه.
وسأل: «حسنًا، ما الأمر؟»
أجاب طومسون: «لدينا أسبابٌ خاصة بنا لرغبتنا في معرفةِ ما قصدتَه بالضبط من مطالبة مكتب الحرب بعدم إعادته مرةً أخرى.»
تردَّد الجنرال.
«حسنًا، ما هي تلك الأسباب؟»
قال طومسون: «إنها غير ملموسةٍ بعض الشيء، يا سيدي، لكنها مهمَّة للغاية. إذ بدون أي دليلٍ مباشر، توصَّلت إلى استنتاجٍ مفاده أن الكابتن جرانيت شخصٌ غامضٌ يحتاج إلى المراقبة. وكالمعتاد، نحن في مشكلةٍ مع السلطات المدنية، ولكي أكون صريحًا معك، أنا أحاول تعزيز قضيتي.»
هز الجنرال كتفيه.
وقال: «حسنًا، في ظل هذه الظروف يحقُّ لك معرفةُ ما تعنيه رسالتي. لقد أعدنا جرانيت إلى الوطن بسبب اشتباهٍ قد يكون غيرَ مبرَّرٍ تمامًا. ومع ذلك، كان الشك موجودًا، وكان قويًّا بما يكفي بالنسبة إليَّ لاتخاذ قرارٍ بشأن أنني أفضِّل عدم عودته للجبهة مرة أخرى. الآن عليك أن تعرف الحقائق بإيجازٍ شديد. لقد أُسر جرانيت مرتَين. لم يرَه أحدٌ وهو يقع في الأسر؛ في واقع الأمر، كلتا الواقعتَين كانتا هجماتٍ ليلية. بدا أنه اختفى فجأة — لأنه ابتعد للغاية عن رجاله، كان هذا هو تفسيره. كل ما يمكنني قوله هو أنه كان محظوظًا أكثرَ من معظمهم. فأي شيء يتجوَّل بحُريةٍ بزيٍّ بريطاني … لكن ما علينا، لن أستمر في ذلك. وكان يعود في كل مرة بمعلومات عما رآه. في كل مرة خطَّطنا لهجوم بِناءً على تلك المعلومات. في كل مرة أثبتت هذه المعلومات أنها مُضللة وفشل هجومنا، وكلَّفتنا خسائرَ فادحة. بالطبع، ربما تكون الترتيبات قد تغيرت منذ أن رأى ما رآه، ولكن تبقى الحقيقة.» واصل الجنرال، وهو يملأ غليونه ببطءٍ ويضغط التبغ فيه: «علاوة على ذلك، في المرة الثانية، دفعنا أربعَمائة رجل إلى الأمام في قرية أوسراي. تحركوا في الظلام الدامس بصمت. كان من المستحيل أن تكون أي كلمة عن وجودهم في أوسراي معروفةً للألمان. ومع ذلك قُصفت القرية في ليلة القبض على جرانيت، وحوصر أولئك الذين نجَوا ووقعوا في الأسر. هل تُتابعني، أيها الميجور؟»
أجاب طومسون: «أجل، يا سيدي!»
ختم الجنرال حديثه قائلًا: «هذه هي الحقائق فقط. الآن من ناحية أخرى، فإن جرانيت يتعاملُ مع رجاله بشكل جيد، وقد أظهر شجاعةً شخصية كبيرة، وله مظهر الجندي المتحمس. وأنا أكره أن أرتكب خطأً في الحكم عليه حتى في أفكاري، لكنْ هناك آخَرون غيري ممن بدت لهم هذه الصدف محيرة. لذا قررنا ببساطة أنه من الأفضل تسكينُ جرانيت في موقع آخر في الوطن. وهذا هو سبب رسالتي.»
قال طومسون ببطء: «أنا ممتنٌّ جدًّا لك، يا سيدي. لقد أعطيتني بالضبط المعلومات التي نريدها.»
استُدعِيَ الجنرال للحظةٍ لإعطاء بعض التعليمات للضابط الشاب الذي كان جالسًا في زاويةٍ بعيدةٍ من الغرفة مع سماعة هاتف حول رأسه. ومع ذلك، أشار لطومسون كي يبقى.
ومن ثم قال، عندما عاد: «الآن بما أني قد أرضيتُ فضولك، فهل ستُرضي فضولي؟ هل ستُخبرني كيف أصبحَت لديك شكوكٌ في هذا الرجل وأنت هناك في إنجلترا؟»
أوضح طومسون قائلًا: «إن هذا، يكاد يكون أمرًا شخصيًّا بالنسبة إليَّ. قبل ثلاثة أشهر قضيت الليل مع الفيلق الثالث بالقرب من نيمن. كنت هناك في مهمةٍ أخرى، كما قد تتخيَّل، ولكن اشتعل هناك بعض القتال الساخن وخرجتُ للمساعدة. كنتُ أعالج بعض زملائنا واقتربت جدًّا من الخطوط الألمانية. وانفصلت قليلًا عن الآخرين وكنتُ أتلمَّس طريقي عندما سمعت أصواتًا تتحدَّث الألمانية على بُعد أقدامٍ قليلة مني. لم أستطع سماع ما قالوه لكن استطعتُ فقط تمييز شخصَيْن. انطلق أحدهما نحو الخطوط الألمانية. أما الآخر، فبعد أن وقف ساكنًا للحظة، جاء في اتجاهي. فأخرجتُ مسدسي، ولأخبرك بالحقيقة كِدتُ أُطلق النار عليه، لأنه كان سيصبح أمرًا محرجًا للغاية بالنسبة إليَّ أن أقع في الأسر في ذلك الوقت. وبينما كان إصبعي على الزناد، أدركتُ أن الرجل الذي يقترب كان يدندن «تيبيراري». فسلطت مصباحي على وجهه ورأيت على الفور أنه ضابطٌ بريطاني. وخاطبَني بسرعةٍ باللغة الألمانية. فأجبته بالإنجليزية. وتخيَّلت للحظةٍ أنه بدا منزعجًا. وقد همس قائلًا: «من الأفضل أن نبتعد عن هنا. نحن على بعد مائة ياردةٍ من الخنادق الألمانية وهم يُسلِّطون الكشافات». فسألته، بينما نتسلَّل: «مع من كنت تتحدث الآن؟» فأجاب: «لا أحد على الإطلاق». لم آخُذ الأمر على محمل الجِدِّ في ذلك الوقت، على الرغم من أنه بدا لي غريبًا. بعدها شعرتُ بالأسف، رغم ذلك، لأنني لم أُصرَّ على اكتشاف معنى ما بدا أنه كذبة متعمَّدة. في المرة التالية التي قابلت فيها جرانيت كان في حفل غداء في فندق ريتز، قبل بضعة أيام. فتعرفتُ على وجهه في الحال، رغم أنني لم أرَه إلا من خلال وميض المصباح الكهربائي. منذ تلك اللحظة راودتني شكوكي.»
أومأ الجنرال برأسه. وبدا عليه الحزن.
وقال: «إنه لشيءٌ بغيض أن نُصدقَ أن أي شخصٍ يرتدي الزي العسكري في خدمة جلالته يُمكن أن يلعب مثل هذا الدور الذي يوصَم بالخيانة. ومع ذلك، بشكلٍ عامٍّ أنا سعيدٌ لأنني قدمتُ ذلك الطلب إلى مكتب الحرب. هل يمكننا تقديمُ المزيد من المساعدة لك، أيها الميجور؟»
أخذ طومسون المعلومة وغادر. وبعد بضع دقائق استقل سيارتَه في طريق عودته إلى بولونيا.