الفصل الحادي عشر
وَجَفَت أوليف مورتون قليلًا عندما توقَّفَت سيارة السباق الطويلة، الرمادية، بلا ضجيجٍ بجانب حجر الرصيف. ورفع الكابتن جرانيت قبعته، وانحنى من مقعد القيادة نحوها.
«آمُل أني لم أفزعكِ يا آنسة مورتون؟»
أجابَت: «على الإطلاق. يا لها من سيارةٍ جميلة للغاية!»
وافقها بحماس.
«أليسَت كذلك! إنها هدية لي من عمي كي أقضيَ الوقت إلى أن أتمكَّن من العودة إلى خدمتي في الجيش. لقد أحضروها إليَّ في وقتٍ مبكرٍ من هذا الصباح فقط. هل يمكنني اصطحابكِ إلى أي مكان؟»
أجابَت: «لقد كنت ذاهبةً لمقابلة جيرالدين كونيرز.»
قال، وهو يميل على جانبٍ واحدٍ ويفتح الباب: «هل تعلمين، لقد خمَّنت ذلك. اسمحي لي أن أصحبك. فأنت أول راكب أصحبه في سيارتي.»
فركبَت في الحال.
وقالت: «في واقع الأمر، لقد كنت أبحث عن سيارة أجرة. لقد تلقَّيت برقية من رالف. وهو يُريدنا أن نسافر إلى بورتسماوث في أول قطار يُمكننا اللَّحاق به هذا الصباح. ويقول إنه إذا تمكَّنا من الوصول إلى هناك في الوقت المناسب لتناوُل الغداء في الساعة الثانية، فيُمكنه أن يصحبنا في جولةٍ على متن المدمِّرة سكوربيون. إذ بعد اليوم ستُصبح مغلقةً أمام الزوَّار، حتى أقاربه. وأنا كنت ذاهبةً فقط لأرى ما إذا كان بإمكان جيرالدين الحضور.»
فكَّر جرانيت للحظة. ونظر إلى الساعة الصغيرة على لوحة القيادة المقابلة له.
ثم قال: «لديَّ اقتراح، لماذا لا تسمحان لي بتوصيلكما بالسيارة أنت والآنسة كونيرز؟ لا أظن أنَّ هناك قطارًا سريعًا قبل الساعة الواحدة، بينما يمكنني توصيلكما في غضون ساعتَين بسهولة. إنه بالضبط ما أتوق إليه، نزهة جميلة في الريف.»
صاحَت الفتاة: «يُعجبني هذا الاقتراح، وأظن أنه سيُعجب جيرالدين أيضًا. هل ستنتظر بينما أدخل لمقابلتها على عجَل؟»
أجاب جرانيت: «بالطبع. ها نحن قد وصلنا، وها هي الآنسة كونيرز عند النافذة. اذهَبي وأخبِريها وسأتأكَّد فقط أن لدينا ما يكفينا من الوقود. سأُوصلكما إلى هناك في غضون ساعتَيْن بسهولة، إذا تمكَّنا من الانطلاق قبل أن تصبح الطرق مزدحمة.»
ومِن ثَم أسرعَت إلى داخل المنزل. فقابلتها جيرالدين على العتبة وتحدَّثتا معًا بضعَ لحظات. ثم عادت أوليف مرةً أخرى، ووجهها مبتهج.
وقالت: «لقد أعجبت جيرالدين بالفكرة جدًّا. وستأتي في غضون خمسِ دقائق. هل يُمكننا التوقف عند منزلي كي أحضر مِعطفًا جلديًّا؟»
قال جرانيت، وهو يُلقي نظرةً خاطفة على ساعته: «بالتأكيد! هذا ممتعٌ للغاية! سنصل هناك عند الساعة الواحدة. لماذا هذا هو آخر يومٍ لدى كونيرز من أجل استقبال أحد؟»
أجابَت بلامبالاة: «لا أعرف. إنها بعض لوائح البحرية الملَكيَّة، حسبما أظن.»
فتنهَّد.
وقال: «في نهاية الأمر، لست متأكدًا مما إذا كنت قد اخترت المهنة الصحيحة. هناك الكثير من التشويق في مهنة ضابط البحرية. إنهم دائمًا ما يخترعون شيئًا أو يُجربون شيئًا جديدًا.»
نزلَت جيرالدين على السلَّم، وهي تُلوح بيدها.
وصاحت، بينما أبقى جرانيت البابَ مفتوحًا: «إنها فكرة مبهِجة للغاية! هل تعني حقًّا أنك ستأخذنا إلى بورتسماوث وتُقابل رالف معنا؟»
أجاب مبتسمًا: «أنا لن أزعج أخاك، لكنني سأصطحبكما إلى بورتسماوث، إذا سمحتما لي. سنصل هناك قبل القطار بوقتٍ طويل، و… حسنًا، ما رأيكِ في سيارتي الجديدة؟»
قالت جيرالدين: «بكل بساطة رائعة. أخبرتني أوليف أن عمَّك قد أعطاك إياها للتو. يا لك من شخص محظوظ، يا كابتن جرانيت!»
ضحك ضحكةً قصيرة بينما ينطلقون بخفَّة.
وأجاب: «هل تعتقدين ذلك؟ حسنًا، أنا محظوظٌ بعمي، على أي حال. إنه أحد هؤلاء الأشخاص القلائلِ الذين لديهم قدرٌ كبير من المال ولا يُمانعون في إنفاقه. لقد كنت أشعر بالملل حتى الموتِ بسبب ساقي وذراعي المصابتَين، وبالتأكيد هذه تجعل المرء ينسى كِلَيهما. إنها مزوَّدة بمحرك ذي ستِّ أسطوانات، كما ترَين، يا آنسة كونيرز، ولا أود أن أخبركِ بمدى السرعة التي قد نبلغها إذا كنا متعجِّلين.»
أكدت له جيرالدين: «أنت لن تُخيفنا.»
نظر جرانيت مرةً أخرى إلى الساعة أمامه.
وقال: «لبعض الوقت، أنا سائقُكِ الخاص. أريد فقط أن أرى إمكانياتها … للتجرِبة قليلًا.»
من تلك النقطة توقَّفَت المحادثة بينهم تقريبًا. وأراحت الفتاتان ظهرَيْهما على مقعدَيْهما. بينما جلس جرانيت منتصبًا، وعيناه مثبَّتتان على الطريق. ومن ثم قبل الساعة الواحدة بقليلٍ دخلوا بورتسماوث.
قالت جيرالدين: «إنها أروع رحلةٍ قمت بها في حياتي!»
ردَّدت أوليف: «إنها رائعة! يا كابتن جرانيت، لقد وعد رالف بأن ينتظرَنا زورقٌ صغير على الرصيف رقم سبعة من الواحدة حتى الثالثة.»
أشار جرانيت بإصبعه.
وقال: «الرصيف رقم سبعة هناك، وها هو الزَّورق. سأعود إلى الفندق لتناوُل طعام الغداء وأنتظركما هناك.»
قالت جيرالدين في إصرار: «أنت لن تفعلَ شيئًا من هذا القبيل. سيغضب رالف إذا لم تأتِ معنا.»
تدخَّلت أوليف قائلةً: «بالطبع! كيف يمكنك التفكيرُ في شيءٍ سخيفٍ كهذا! يرجع الفضل إليك بالكامل في قدرتنا على الوصول إلى هنا.»
بدا الكابتن جرانيت متشككًا للحظة.
وأوضح قائلًا: «اسمعا، الآن، أنا أعرف أن اللوائح الخاصة بزيارة السفن في الخدمة صارمةٌ للغاية. وربما يُحرج أخاكِ وجودُ زائرٍ إضافي.»
احتجَّت جيرالدين قائلة: «كيف يُمكنك أن تصبح غيرَ منطقي هكذا! أنت … جندي! عجبًا، بالطبع سيُصبح سعيدًا بوجودك.»
وضع جرانيت السيارة داخلَ الممر المغطَّى لفندقٍ يقع أمام الرصيف تمامًا.
ووافق قائلًا: «حسنًا. سنترك السيارة هنا. بالطبع، أود أن آتيَ معكما.»
ومن ثَم عبَروا الشارع المرصوف بالحصى واتجَهوا نحو الرصيف. حيث ينتظرهم الزورق، وفي غضون دقائق قليلة، شقُّوا طريقهم عبر الميناء. وقد رسَت المدمِّرة سكوربيون بعيدًا عن سفينةٍ أخرى، بينما تنبعث من مَداخنها الأربَع الضخمة ألسِنةٌ صغيرة من الدخان. وهي تطفو على ارتفاعٍ منخفضٍ جدًّا في الماء وكان مظهرها مهيبًا للغاية.
قالت جيرالدين، وهي تميل قليلًا إلى الأمام للنظر إليها: «أنا شخصيًّا، أعتقد أن المدمِّرة هي واحدة من أفظع الأشياء التي رأيتُها على الإطلاق. آمُل أن يكون رالف سريعًا ويحصل على سفينة سريعة.»
سأل جرانيت: «هل هذه هي المدمِّرة سكوربيون التي أمامنا؟»
أومأت جيرالدين برأسها.
«هل رأيت شيئًا أكثرَ قبحًا منها؟ إنها تبدو وكأنها ستبصق الموتَ من كل شِقٍّ صغير.»
تمتم جرانيت: «إنها قارب جميل. ماذا قال أخوكِ إنها تستطيعُ أن تفعل؟»
أجابت جيرالدين: «تسعٌ وثلاثون عُقْدة. يبدو هذا جيدًا، أليس كذلك؟»
ابتسم الضابط المسئول عن الزورق.
وقال: «إن سرعاتنا تقديريةٌ فقط، على أي حال. إذا كان لدى كبير مهندسينا هناك الرسالةُ المناسبة، فلا أحدَ منا يودُّ أن يقول ما يمكنه الحصول عليه من تلك المحركات الجديدة.»
ومن ثَم استدار وأصدر أمرًا بصوت عالٍ. وفي غضون لحظة أو اثنتَيْن، تأرجحوا ورسَوْا بجانب المدمرة. وأخذ رالف يلوح بيده من أعلى سُلَّم الصعود.
وصاح: «حسنًا فعلتم، جميعًا! مرحبًا جرانيت! هل أنت مَن أوصلَ الفتياتِ إلى هنا؟»
أخبرَته جيرالدين، وهم يصعدون السلم: «في أروع سيارةِ سباقٍ رأيتُها على الإطلاق! ما كنا لنصل إلى هنا إلا بعد ساعاتٍ لو أننا انتظرنا القطار.»
قالت أوليف موضحة، وهي تقف على متن المدمرة: «لقد قابلت الكابتن جرانيت هذا الصباح عن طريق الصدفة، وأصرَّ على توصيلنا.»
سأل جرانيت في قلق: «آمُل ألَّا يُمثل وجودي أيَّ مشكلة. إذا كان الأمر كذلك، فما عليك سوى أن تقول لي وتُرسلني إلى الشاطئ، وسأنتظر، بكل سرور، حتى تعود الآنستان. إن لديَّ الكثيرَ من الأصدقاء هنا أيضًا، يمكنني البحث عنهم.»
أجاب كونيرز: «لا تكن سخيفًا. صديقتنا العجوز العزيزة طومسون ليست هنا كي تقلق؛ لذا أعتقد أنه يُمكننا منحُك جولةً على السفينة. تعالَ معي لنتناولَ كوكتيلًا. انتبهوا لرءوسكم. نحن لسنا على متن سفينة حربية، كما تعلمون. سوف تجدون مقر إقامتي ضيقًا بعضَ الشيء، للأسف.»
ومن ثم شربوا الكوكتيل بمرح. وبعد ذلك صاحت جيرالدين، وهي تأخذ نفسًا طويلًا: «إذا لم تكن أوليف مغرمةً بشكل مرعب، لشعرَت بالاختناق.»
توقف جرانيت ونظر أمامه بعبوس مرْتبِك.
«ما هذا بحق السماء؟»
كان أمامهم تمامًا هيكلٌ خفيف، من الواضح أنه مبنيٌّ حول شيء مخبَّأ، بغرض الإخفاء. وقد وقف أحد أفراد مُشاة البحرية أمامه للحراسة، شاهرًا سيفَه. كان جرانيت يُخاطبه عندما تقدَّم ضابطٌ بخفةٍ عبر الجزء الأمامي من المدمِّرة، وألقى التحية.
وقال: «أنا آسفٌ للغاية يا سيدي، ولكن هل تُمانع في البقاء على الجانب الآخَر؟ هذا الجزء مغلق، في الوقت الحاضر.»
سأل جرانيت بخفةِ ظل: «ماذا لديكم بحقِّ السماء خلف هذا الهيكل؟ … هذا إذا كان شيئًا يمكن لرجلٍ يعمل على البرِّ أن يعرفه؟»
قادهم الضابط الشابُّ إلى الجانب الآخر.
وقال: «إنه مجرد شيءٍ صغيرٍ لا يُسمح لنا بالتحدُّث عنه الآن. لم أكن أعرف أن القائد ينتظر أي زوارٍ اليوم، وإلا كنا عزلنا ذلك الجانب ومنعنا تجوُّل الزوار.» ثم استفسر بأدب: «هل يمكنني أن أُريَكم أي شيء في هذا الجزء؟»
قالت له جيرالدين: «لا شيء على الإطلاق، شكرًا. سوف نتجوَّل وقتًا قصيرًا فحَسْب.»
ومن ثم انحنَوْا على حاجز المدمرة معًا. بينما حيَّاهم الضابط الشاب وانسحب. فهبَّ نسيمٌ منعشٌ في وجوههم، وتراقصت أشعة الشمس على البحر المكسوِّ بالزبَد. وضج المرفأ بالحيوية عبر حركة المراكب الصغيرة، مع تحليق طائرة في السماء فوق الرءوس، وبالخارج في رودز كانت هناك عدةُ سفن حربية راسية.
قال جرانيت: «لقد كنت محظوظًا هذا الصباح.»
ردَّت جيرالدين: «ونحن كذلك. فأنا لم أستمتع قطُّ بركوب السيارات أكثرَ مما فعلت اليوم. إن سيارتك الجديدة رائعة.»
وافقها جرانيت بحماس: «إنها جميلة، أليس كذلك؟ ما يمكن أن تفعله عند السرعة الرابعة لن أجرؤَ على قوله. لقد تجاوزنا الستين عدة مرات هذا الصباح، ومع ذلك نادرًا ما لاحظنا ذلك. كما ترين، إن نظام التعليق فيها رائع.»
فقالت: «أنت محظوظ؛ لأن لديك عمًّا يُقدِّرك للغاية.»
قال جرانيت معترفًا: «إنه سندٌ لي. لقد ظلَّ يدعمني دعمًا هائلًا طَوال حياتي.»
أومأَتْ برأسها.
وقالت: «أظن حقًّا أنك يمكن أن تُحسَد على هذا، أليس كذلك، يا كابتن جرانيت؟ إذ إن لديك معظمَ الأشياء التي يُريدها رجلٌ. وقد أُتيحَت لك الفرصة أيضًا لفعل أفضل الأشياء التي يمكن لرجلٍ القيامُ بها، وبالفعل قمتَ بها.»
فنظر باتجاه البحر في حزن.
واعترف قائلًا: «أنا محظوظٌ في شيء. أما في بقية الأشياء فلست متأكدًا.»
ظلَّت ملتفتةً بعيدًا عنه. إذ بطريقةٍ أو بأخرى، استشفَّت بشكلٍ جيد ما كان يدور في ذهنه. وحاولت أن تفكر في شيء لتقوله، شيء لتبديد سحابة الحزن التي شعرَت بها في الجو، لكن الكلمات خذلتها. وكان هو مَن كسرَ حاجز الصمت.
«هل لي أن أطرح عليك سؤالًا، يا آنسة كونيرز؟»
«سؤال؟ لمَ لا؟»
«هل أنت مخطوبة حقًّا للميجور طومسون؟»
لم تُجِبْه في الحال. كانت لا تزال تُبقي عينَيْها متعمدةً بعيدًا عن عينَيْه. وعندما تحدَّثَت أخيرًا، كان صوتها لا يكاد يرتفع فوق الهمس.
وقالت: «بالتأكيد أنا كذلك.»
فانحنى قليلًا نحوها. وبدا صوته لها عميقًا وحازمًا. إذ كان صوتَ رجلٍ شديد الجدية.
وقال: «سأصبح مزعجًا بشكلٍ فظيع. أعتقد أن من المفترض أن أعتبر إجابتكِ عن سؤالي نهائية. لكن لن أتقبَّل ذلك. لقد تقدَّم إليكِ أولًا ولكن هذا ليس كلَّ شيء. إنها معركةٌ عادلةٌ بيني وبينه. إنه يكرهني ولا يبذل أقلَّ جهدٍ لإخفاء ذلك. إنه يكرهني لأنني أهتمُّ بكِ … وأنت تعرفين ذلك. لا يمكنني الاحتفاظ بهذا السرِّ لنفسي حتى لو كنت قادرًا على ذلك.»
أشاحَت بوجهها قليلًا، لكنه أجبرها على النظر إليه. كان هناك شيءٌ آخر بخلاف الجاذبية في عينَيْها.
قال في إصرار، وهو يُمسك بيدها: «لقد كنت ضحيةً لخطأ. لا أعتقد أنكِ تهتمِّين به بالفعل مطلقًا. إنه لا يبدو من النوع المناسب لك، فهو أكبر منكِ سنًّا بكثيرٍ ويفتقد الحيويةَ والمرح. يجب ألَّا تغضبي. يجب أن تعذريني، من فضلك، إذا قلت أكثر مما هو مسموحٌ لي — إذا قلت المزيد الآن — لأنني سأخبرك، الآن بعد أن أصبحنا وحدنا معًا للحظة، أنني أُحبك.»
التفتت نحوَه مع بعض الانزعاج، كما أن الضيق على وجهها كان لا يزال واضحًا.
وصاحت: «كابتن جرانيت! لا ينبغي أن تقول ذلك! ليس لديك حق … ليس لديك حقٌّ على الإطلاق.»
أجاب بإصرار: «على العكس من ذلك، إن لديَّ كلَّ الحق. ليس الأمر كما لو أن طومسون هو صديقي. إنه يكرهني وأنا لستُ معجبًا به. لكل رجل الحقُّ في بذل قصارى جهده للفوز بالفتاة التي يُحبها. إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بأي شيءٍ من هذا القبيل. أنا لم يسبق لي أن رغبتُ في الأشياء الكبيرة من أي امرأة. والآن …»
أشاحت بوجهها عنه بشكلٍ تلقائي سريع. وفجأةً ومضَت فوق رأسَيهما رسالةٌ كهربائية وهي تُصدر صوت طقطقة. فوقفت تنظر لأعلى، ويدها ممدودة كما لو كانت لإبقائه بعيدًا.
وقالت: «لا يُمكنني الاستماعُ أكثرَ من هذا. إذا قلت كلمة أخرى فسأذهب للأسفل.»
ظل صامتًا للحظة في عبوس. بينما خرج ضابطٌ شابٌّ من غرفة اللاسلكي وحيَّا جيرالدين.
وقال: «أنا آسف جدًّا لكم، يا آنسة كونيرز، لكنني أخشى أننا سنُضطرُّ إلى إعادتكم إلى الشاطئ. إذ ورَدَتنا رسالةٌ عاجلةٌ هنا من سفينة القيادة بإخلاء السفينة من جميع الضيوف.»
احتجَّت جيرالدين قائلة: «لكننا لم نتناوَل الغداء بعد!»
ظهر كونيرز فجأةً على سُلَّم السفينة، وتبعَتْه أوليف.
واستفسر قائلًا: «ما هي الرسالة، يا هوارد؟»
أدَّى الضابط التحية وسلَّم له ورقةً مطوية. قرأها كونيرز بعبوسٍ وخطا على الفور إلى متن السفينة. وأعطى بعضَ الأوامر، ثم عاد إلى ضيوفه.
وقال موضِّحًا: «يا فتيات، وأنت يا جرانيت، أنا آسفٌ للغاية ولكن لا يُمكنني أن أُبقيَكم هنا لثانيةٍ أخرى. لقد طلبت الزَّورق ليُعيدَكم. يجب أن تعودوا إلى الشاطئ وتتناوَلوا الغداء في «شيب». سآتي إليكم في أقربِ وقتٍ ممكن. أنا آسفٌ للغاية يا جرانيت، لكني لستُ بحاجةٍ إلى الاعتذار إليك، أليس كذلك؟ فالحرب هي الحرب، كما تعلم وهذه مسألة طارئة.»
سألت جيرالدين بلهفة: «هل ستُبحر مع هذا المد؟»
هز كونيرز رأسه.
أجاب: «ليس هذا هو السبب. لدينا بعض المهندسين القادمين للقيام ببعض الأعمال على متن السفينة، وقد تلقَّيت تعليماتٍ خاصةً من قائدي بإعادة أيِّ ضيوفٍ لديَّ على متن السفينة.»
سألت أوليف وهي تسير نحو الشيء المغطَّى بالهيكل: «هل للأمر علاقةٌ بهذا الشيء الرائع المخفي؟»
هز كونيرز كتفَيه.
«لا يمكن إفشاء أسرار الحكومة! بيننا نحن الأربعة فقط …» وأضاف مبتسمًا: «فصديقُنا طومسون ليس هنا، أليس كذلك؟ … نحن نُخطط لتدمير الغواصات.»
فنظروا بفضولٍ إلى الهيكل الغامض. وتنهَّد جرانيت.
وقال: «أنتم رجال متكتِّمون، أيها البحَّارة. لا تهتم، إن لديَّ صديقًا في مقر البحرية الملكية يُعطيني بعض المعلومات بين الحين والآخر. سأذهب وأستقي منه المعلومات.»
ترجَّاه كونيرز بسرعة قائلًا: «لا تُخبر أحدًا شيئًا عن صعودك على متن سكوربيون. إنهم يتغاضَون عن الأمر هنا، ما دام يتمُّ ذلك بتكتُّم، لكنه يتعارض مع القواعد بشدة، كما تعلم.»
قال جرانيت: «هذا صحيح! لن أُخبر أحدًا بزيارتنا هذه مطلقًا.»
وعد كونيرز قائلًا: «سآتي إلى «شيب» بمجرد أن أستطيع إنهاء عملي.»
ومن ثَم شقُّوا طريقهم عبر ميلٍ من الموج المتكسر حتى وصلوا إلى الشاطئ. وهم جميعًا صامتون. حيث شعرَت أوليف بخيبة أملٍ واضحة، وانشغلت جيرالدين بأفكارها. وبدَت نظرةُ جرانيت مثبَّتة على سكوربيون. سار زورقٌ آخَر بجوارهم وعلى متنه مجموعةٌ صغيرة من الرجال.
وقال، وهم يشقُّون طريقهم عبر الرصيف: «آمُل فقط أن يكونوا قد توصَّلوا إلى جهازٍ لتخليص البحر من هذه الغواصات الملعونة! أرى أن هؤلاء المتوحِّشين قد أقدَموا على إغراق قوارب الصيد الآن.»
قالت أوليف في حماس: «يعتقد رالف أنهم توصَّلوا إلى شيء ما. إنه ببساطة متلهِّفٌ لمباشرة مهامِّه القتالية.»
ذكَّرها جرانيت قائلًا: «إن البحارة جميعهم متفائلون بشكلٍ مبهج للغاية. إنهم يفعلون شيئًا مفيدًا جدًّا باستخدام الشباك، بالطبع، بالطريقة التي كان أخوكِ قد بدأ يشرحها لي عندما قاطعَنا الميجور طومسون، لكنهم لن يتمكَّنوا من الحفاظ على القناة خاليةً إلا بهذه الطريقة. إن ما يحتاجون إليه حقًّا هو طريقةٌ ما للتعامل معها وهي تحت الماء. ها قد وصلنا أخيرًا. أتمنى أن تكونا جائعتَين مثلي.»
تناولوا الغداء برويَّة، وظلَّت أوليف على وجه الخصوص تُلقي نظراتٍ خاطفةً على الباب، وبعد ذلك جلسوا في الردهة وتناولوا قهوتهم. وقد بدا أن جرانيت كان في حالةٍ معنويةٍ عاليةٍ طوال الوجبة، وأخبر الفتياتِ بالعديد من الحكايات عن مغامراته على الجبهة. ومع ذلك، توقَّف عن الحديث بعد بُرهة، وفي النهاية، خرج ليتمشَّى وحيدًا بعد أن استأذن منهما. ونظرَت أوليف مرةً أخرى إلى الساعة.
وقالت وهي تتنهَّد: «يبدو أن رالف لن يأتي، أليس كذلك؟ دَعينا نَسِر قليلًا نحو رصيف الميناء.»
ذهبت الفتاتان للتنزُّه واتجهَتا نحو الميناء. وتمكَّنتا من رؤية سكوربيون لكن لم يكن هناك ما يُشير إلى مغادرة أي زورقٍ منها. فعادتا على مضضٍ نحو الفندق.
سألت أوليف: «ترى ما الذي حدث للكابتن جرانيت؟»
توقَّفت جيرالدين لبرهة. مع بعض العبوس الذي بدا على وجهها. وأشارَت إلى سطح الفندق، حيث رأَتْ رجلًا يجلس القُرْفُصاء مع منظارٍ ملتصقٍ بعينَيه. وقد أنزله بمجرد أن توقفتا، ولوَّح لهما بيده.
وصاح: «لا أستطيع رؤية أيِّ أثر لكونيرز. أنا في انتظار الزورق. اصعدا إلى هنا. إن المنظر من هنا رائع.»
فدخلتا إلى الفندق في صمت.
وقالت جيرالدين في انزعاج: «لا أظن، أن رالف سيعجبه ذلك.»
ومن ثم صعدتا إلى سطح الفندق ورافقَتهما خادمةُ غرفٍ ممتلئةُ الجسم إلى سلَّمٍ صغيرٍ ينفتح على كوَّة. ومن هنا زحَفتا إلى السطح، حيث وجَدتا جرانيت جالسًا بشكلٍ مريحٍ وظهره مسندٌ إلى مِدخنة، وهو يدخن سيجارة.
قال بضحكةٍ مكتومة: «هذه ستُحتسب على أخيك.»
سألته جيرالدين: «أين وجدت هذا المنظار؟»
فأجاب: «لقد استعرته من الطابق السفلي. تعالَي وألقي نظرة. يمكنكِ رؤية سكوربيون بوضوحٍ تام. يبدو أن جميع الضبَّاط مجتمعون حول ذلك الهيكل الغامض على سطح السفينة. لقد اعتقدت في البداية أنه منصَّةٌ لمدفع، ولكنه ليس كذلك.»
مدَّت أوليف يدَها لتأخذ المنظار، لكن جيرالدين هزَّت رأسها. وقد ظهر تعبيرٌ مضطربٌ في عينَيْها.
وقالت: «أظن أنه أمرٌ سخيف للغاية، يا كابتن جرانيت، لكن بصراحة، أعتقد أن رالف لن يتقبَّله على أنه مزحةٌ مطلقًا إذا علم أننا صعدنا هنا، لنُحاول معرفة ما يجري.»
وضعَت أوليف المنظارَ جانبًا على الفور.
وغمغمت: «لم أفكِّر في ذلك.»
ضحك جرانيت ببساطة.
وقال: «ربما أنت على حق. ورغم ذلك، نحن في وضعٍ استثنائي قليلًا، أليس كذلك؟ … أخته، وخطيبته، و…»
وتوقَّف عن الكلام على نحوٍ مفاجئ. عندما ربتت يدٌ على كتفه. وهي لرجلٍ ضئيل الجسم، داكن اللون، اقترب من خلف زاوية المدخنة دون أن يُلاحظه أحد، ووقف خلفه مباشرة.
وقال بهدوء: «يجب أن أُزعجكم جميعًا وأطلب منكم أسماءكم وعناوينكم، إذا سمحتم.»
حدَّقت الفتاتان في وجهه، وهما مذهولتان. ومع ذلك، ظل جرانيت هادئًا. وهو يضع المنظار جانبًا وتفحَّص الوافد الجديد.
وقال بدماثة: «أنا حقًّا لا أفهم مطلقًا، لماذا يجب عليَّ أن أُعطي اسمي وعُنواني لشخصٍ غريب تمامًا لمجرد أنه طلب ذلك.»
فتح الرجل معطفه وعرض شارة.
«أنا في الخدمة الحكومية، يا سيدي.»
قال له جرانيت: «حسنًا، أنا الكابتن جرانيت، وقد عُدت من الجبهة مع تقرير الشجاعة قبل بضعة أيام. وهذه الآنسة كونيرز، شقيقة القبطان كونيرز قائد سكوربيون، والآنسة أوليف مورتون هي خطيبته. ونحن ننتظر القبطان كونيرز في الوقت الحالي، وكنا ننظر فقط لنرى ما إذا كان الزورق قد تحرَّك. هل استخدامُ المنظار في بورتسماوث مخالفٌ للقانون؟»
دوَّن الرجل بعضَ الملاحظات في دفتره الصغير. ثم فتح الكوَّة ووقف على جانب واحد.
وقال: «لا يُسمح لأحدٍ بالصعود إلى هنا يا سيدي. يقع اللوم على موظَّفي الفندق لعدم إغلاق الكوة. يجب أن أُقدِّم تقريرًا ولكن ليس لديَّ أدنى شكٍّ في أن تفسيرك سيُقبَل. هل يمكن أن تتفضَّل بالنزول، من فضلك؟»
نهض جرانيت على قدمَيْه والتفتَ نحو رفيقتَيه.
وقال: «إن الرجل على حقٍّ تمامًا. أنا سعيد فقط لأن الحكومة تهتمُّ بالأمور على هذا النحو. إن قيادة البحرية الملكية لها السبق بهذه الطريقة أكثر منَّا نحن. أنا أقترح أن نخرج بالسيارة ونذهبَ إلى المقدمة في ساوثسي» … وأضاف بمرح، وهو يلتفت نحو الرجل الذي اقترب منهم: «إلا إذا كنا قيد الاعتقال؟»
كان الرد المهذب: «لك الحرية في أن تفعلَ ما يحلو لك، يا سيدي. على أي حال، أعتقد أنه من غير المُجدي أن تنتظر القائد كونيرز.»
سألت أوليف بسرعة: «لماذا؟»
قال الرجل: «لقد تلقَّت المدمرة سكوربيون للتو أوامرَ بالمغادرة عند المد هذا المساء، يا سيدتي. يمكنكِ حتى رؤية أنها تتحرَّكُ الآن.»
نظروا عبر الميناء. حيث يتصاعد الدخان من مداخن المدمرة. وقد التفَّت بالفعل، وتتَّجه ببطءٍ نحو القناة.
صاح جرانيت: «إنها تُبحر، هذا صحيح بالفعل! لم يتبقَّ لنا شيء، إذن، سوى العودة إلى لندن.»