الفصل الخامس عشر
غواصتان ألمانيَّتان أُخريان تغرقان بكامل طاقمَيهما.
أشار تقرير قيادة البحرية الملَكية إلى أنهم قد تلقَّوا الليلة الماضية رسالةً من القبطان كونيرز قائد المدمِّرة سكوربيون يُعلن فيها أنه دمَّر الغواصتَين الألمانيتين يو ٢٢ ويو ٢٧، بكامل طاقمَيهما.
صاح الأدميرال، وهو يضع الصحيفة جانبًا بعد عدة أيام: «يا إلهي! لقد فعلها رالف هذه المرة، ولا خطأ.»
نظرت جيرالدين من فوق كتفه، وخداها متوهجان.
وقالت: «لقد علمت الخبرَ في الساعة السابعة. لقد أحضر لي هاريس الصحيفة بالأعلى. إنهم جميعًا فَرِحون للغاية حيالَ ذلك في المطبخ. وكنت أنت قد خرجتَ للتو إلى الحديقة.»
حاول الأدميرال التخمين وهو يقول: «أريد أن أعرف كيف أُنجِزَت المهمة. لا يمكن أن تكون الغواصات بكامل سرعتها ما دام قد استطاع تدمير اثنتين منها، وهما لم تصعدا بالتأكيد إلى السطح طواعية، مع وجود مدمرةٍ بالقرب منهما.»
ألقت جيرالدين نظرةً سريعة حول الغرفة للتأكُّد من أنهما وحدهما.
ثم قالت: «ألا تتذكَّر عندما كنت أنا وأوليف في بورتسماوث؟ لقد كان رالف متكتمًا للغاية بشأن هذا الأمر، لكنه أعطانا تلميحًا إلى أن لديه مفاجأةً صغيرة على متن مدمرته من أجل الغواصات. حيث كان هناك شيءٌ ما على سطحها، مغطًّى بالكامل ويُراقبه أحدُ الحراس، وقبل أن نجلس لتناول الغداء مباشرة، كما تعلم، قرَّروا إعادتنا إلى الشاطئ واضطُررنا إلى الذَّهاب إلى مطعم «شيب». ولن يُخبرنا رالف بكلمة واحدة عن ذلك، لكنني متأكدة من أنه حصل على اختراع جديد أُضيف إلى قدرات المدمرة سكوربيون من أجل محاربة الغواصات.»
قال الأدميرال بمرح: «ربما يكون هناك شيء ما فيها. لقد لاحظت أن المحرِّر المختص بشئون البحرية الملكية في صحيفة «مورنينج بوست» قد أشار بحذرٍ شديد منذ عدة أيام إلى بعض الوسائل السرية للتعامل مع هذه الحشرات.»
دخلت الليدي كونيرز إلى الغرفة على نحوٍ مفاجئ، وفي يدها برقية.
وقالت: «برقية من رالف. استمعا.»
أغرقتُ اثنين من الهمج. المزيد قادم. مع محبتي.
وهكذا انكبُّوا على البرقية والصحيفة حتى أصبح الفطورُ باردًا. وصار الأدميرال مثل الصبيِّ مرةً أخرى.
وقال، بينما يتناول فطوره المكونَ من اللحم المقدد والبيض: «إذا تمكنا من التخلص من لعنات البحر هذه، وجعل هؤلاء الألمان يخرجون، فستنتهي الحرب قبل شهور من الموعد الذي قد يتوقعه أي شخص. سأذهب إلى مقر البحرية الملكية بعد الإفطار وأرى ما إذا كان لديهم أيُّ شيء ليقولوه. لقد أعطاني رالف تلميحًا عن مخطَّط الشبكة لكنه لم يذكر أي شيء آخر على الإطلاق.»
رن جرس الهاتف في الغرفة المجاورة، واستدعى أحد الخدم جيرالدين.
وقال: «الكابتن جرانيت يرغب في التحدث إلى الآنسة كونيرز.»
تركت جيرالدين مكانها في الحال، وسارعت إلى المكتبة. والتقطت السماعة.
وسألت: «هل هذا أنت، يا كابتن جرانيت؟»
أجابها قائلًا: «لقد شعرت أنه يجب عليَّ الاتصال بك، لتهنئتك، يا آنسة كونيرز، على بطولة أخيك. لقد قابلت ستةً من زملائي الجنودِ هذا الصباح فقط ممن يتحدثون عن الأمر، ونحن ببساطة نكاد نُجنُّ من الفضول. هل تعتقدين أنه سيجري إخبارنا قريبًا كيف حدث ذلك؟»
أجابت جيرالدين: «سيذهب أبي إلى مقر البحرية الملكية ليحاول اكتشاف ذلك. أما رالف فهو لا ينطق بكلمةٍ سوى أنه أغرقهم. لقد وصلتْنا برقيةٌ منه هذا الصباح.»
استطرد جرانيت قائلًا: «لا يُهم كثيرًا في الواقع، ما دمنا نتخلَّص من الهمج. لقد كنت متأكدًا تمامًا، عندما كنا في بورتسماوث، أن أخاكِ لديه شيءٌ ما في جعبته. إن المرء تتملَّكه الإثارة، أليس كذلك، عندما يكون على الشاطئ ولا يفعل شيئًا، بينما يقرأ أشياءَ من هذا القبيل؟»
قالت له مشجعة: «ستعود إلى العمل مرةً أخرى قريبًا.»
تنهَّد قائلًا: «لا أعرف. إنهم يتحدثون عن منحي مهامَّ داخل البلاد بعيدًا عن الجبهة، ولا أعتقد أنني أستطيع الاستمرار فيها. هل ستتنزَّهين في الحديقة هذا الصباح، يا آنسة كونيرز؟»
تردَّدت لحظة.
«كلا، سألعب الجولف في رانيلا.»
«هل يُمكنني زيارتكِ بعد ظهر اليوم؟»
أجابَتْه قائلة: «إذا أردت. لكن بعد الساعة الرابعة؛ لأنني سأتناول الغداء بالخارج.»
أجاب بامتنان: «شكرًا جزيلًا لك.»
وضعت السماعة مرةً أخرى، وعادت إلى غرفة الإفطار.
وقالت: «لقد أراد الكابتن جرانيت فقط أن يُهنئنا جميعًا، وأن يعرف ما إذا كان بإمكانه أن يأتيَ لتناول الشاي بعد ظهر اليوم.»
اقترح الأدميرال بترحاب: «من الأفضل أن تَدْعيه على العشاء، يا عزيزتي. إنه شاب لطيف، جرانيت. ولطيفٌ منه للغاية أن يتصل بنا.»
لم تُدلِ الليدي كونيرز بأي تعليق. بينما انحنت جيرالدين فوق طبقها. ونهض الأدميرال واقفًا. لقد كان متحمسًا للمغادرة أكثرَ من متابعة المحادثة.
وتابع قائلًا: «سأذهب إلى مقر البحرية الملكية وأرى ما إذا كان بإمكاني الإمساكُ بويلكوك العجوز. إذا لم يخبرني بأي شيء، فسوف أعتصرُ رقبته.»
غادر الأدميرال المنزلَ بعد بِضع دقائق، وسارت الليدي كونيرز وهي تتأبَّط ذراعَ ابنتها إلى غرفة الاستقبال الصغيرة الممتعة التي تُطل على الميدان. ثم توقفت الأمُّ لحظة كي تنظر في صورة طومسون، الموضوعةِ على إحدى الطاولات الجانبية. ثم أغلقت الباب.
وقالت: «جيرالدين، أنا لست سعيدة جدًّا بما حدث بينكِ أنت وهيو.»
سألتها الفتاة وهي تنظر من النافذة: «لماذا يا أمي؟»
تابعَت الليدي كونيرز بهدوء: «ربما لأنني معجبةٌ بهيو، وربما، أيضًا، لأنني لست واثقةً من أنكِ قد تصرفتِ بحكمة. فأنت لم تعطني أي سببٍ حتى الآن لفسخ خطوبتك، أليس كذلك؟»
صمتَت جيرالدين للحظة. ثم عادت وجلست على البساط عند قدمَيْ والدتها. وأبقَت وجهها، مع ذلك، في الاتجاه الآخر بعض الشيء.
ومن ثم قالت بتمعُّن: «من الصعب جدًّا أن أصف الأمر بالكلمات، يا أمي، فقط إن هيو لم يُبدِ قطُّ أنه يمنحني أيًّا من ثقته. بالطبع، إن عمله مملٌّ للغاية، حيث يعتني بالمستشفيات وهذا النوع من الأشياء، لكن مع ذلك، كنت أرغب في محاولة الاهتمام به. لا بد أنه قد رأى أشياءَ مثيرة في فرنسا، ولكن المرء لا يدرك حتى أنه اقترب من الجبهة، إلا بالصدفة البحتة. إنه صامت للغاية، وكتوم للغاية.»
تناولت الليدي كونيرز عمل الإبرة الخاص بها.
وقالت: «بعض الرجال هكذا، يا عزيزتي. إنه مِزاجيٌّ فقط. ربما أنت لم تُشجِّعيه على التحدث.»
قالت جيرالدين في إصرار: «لكنني فعلت. لقد سألته الكثير من الأسئلة، ولكن قبل أن يُجيب عن أيٍّ منها بشكل صحيح، أجده يحاول تغيير المحادثة.»
قالت الليدي كونيرز: «إن الرجال لا يُحبون الحديث عن الحرب، كما تعلمين. لقد كان هناك الميجور اللطيف تنديل الذي عاد من الجبهة منذ عدة أيام، وقد حصل على وسام فيكتوريا كروس والله يعرف ماذا يعني الحصول عليه. وهو لا ينطق كلمة عن أيٍّ من المعارك التي خاضها، لكنه مبهج بما فيه الكفاية بشكلٍ عام، أليس كذلك، ومولع بالتحدث؟»
قالت جيرالدين محتجة: «وعلى الرغم من ذلك، فإن عملَ هيو مختلف. يمكنني أن أفهم لماذا لا يحب التحدث كثيرًا عن الجرحى وهذا النوع من الأشياء، لكن لا بد أنه خاض بعضَ المغامرات الشيِّقة.»
قالت الليدي كونيرز: «لا أعتقد أن ألطف الرجال يتحدثون عن مغامراتهم.»
ارتسمت على وجه جيرالدين تكشيرةٌ طفيفة.
وقالت شاكية: «إن هيو لا يتحدث عن أي شيء. إنه يتجول وكأنه يحمل هموم العالم على كتفيه، ثم إن لديه — حسنًا — الوقاحةَ، كما أُسميها، ليُحاضرني عن الكابتن جرانيت. إنه يتحدث عن الكابتن جرانيت بأكثر الطرق سخافة، كما تعلمين، يا أمي.»
قالت الليدي كونيرز: «ربما لديه أسبابُه.»
أدارت جيرالدين رأسها ونظرَت إلى والدتها.
وسألتها: «الآن ما الأسبابُ التي قد تكون لديه لعدم إعجابه بالكابتن جرانيت والاشتباهِ به في كل أنواع الأشياء السخيفة؟ هل عرَفتِ قطُّ في حياتك شابًّا غير مؤذٍ، وبريئًا، ومبهجًا أكثرَ من جرانيت؟»
قالت الليدي كونيرز: «ربما لأنكِ تجدين فيه كل هذه الأشياء، فإن هيو غيرُ معجبٍ به.»
«بالطبع، إذا كان سيشعر بالغيرة من شيءٍ غير موجود على الإطلاق …»
«هل هو بالفعل شيءٌ غير موجود على الإطلاق؟»
رفعت الليدي كونيرز رأسَها عن عمل الإبرة ونظرت نحو ابنتها. فاحمرَّ وجه جيرالدين فجأة. وتراجعت كما لو كانت جالسة بالقرب من المدفأة.
وقالت: «بالطبع هو كذلك. لقد تعرفت على الكابتن جرانيت منذ مدةٍ قصيرة للغاية. وهو يعجبني بالطبع — إن كل من يعرفه لا بد أن يُعجب به — لكن هذا كل ما في الأمر.»
قالت الليدي كونيرز، بعد لحظة: «هل تعلمين، أتمنى أن يصبح هذا كلَّ ما في الأمر.»
«ولماذا، يا أمي؟»
«لأنني أعتبر أن هيو رجل يُجيد الحكم على الشخصيات. ولأننا نعرف هيو منذ أن كان صبيًّا، بينما نعرف الكابتن جرانيت منذ أسبوع تقريبًا.»
نهضت جيرالدين واقفة.
«أنتِ غير معجبة بالكابتن جرانيت، يا أمي.»
ردَّت الليدي كونيرز بتمعُّن: «أنا لا أكرهه. ولا أفهم كيف يمكن لأحدٍ أن يفعل.»
«هيو يكرهه. وقد ألمح إلى أشياءَ عنه … أنه غير مؤتمَن … ثم منعني من إخباره. أعتقد أن هيو كان لئيمًا.»
نظرت الليدي كونيرز إلى الساعة.
وقالت: «من الأفضل أن تذهَبي وتستعدي، يا عزيزتي، إذا كنت قد وعدت بأن تذهبي إلى رانيلا في العاشرة والنصف. هل ستتذكَّرين هذا؟»
وعدت جيرالدين قائلةً: «سأتذكر أي شيء تقولينه، يا أمي.»
تابعت الليدي كونيرز: «أنت فقط مندفعة قليلًا، يا عزيزتي، في بعض الأحيان، على الرغم من أنكِ تبدين عميقةَ التفكير. لا تتسرَّعي في أي استنتاجٍ بشأن هذَيْن الرجلَيْن. في بعض الأحيان كنت أتخيل أن هناك نبعَ شعورٍ هائلًا وراء صمت هيو. وأكثر من ذلك … أن هناك شيئًا في حياته لا يستطيع التحدث عنه الآن، وهو ما يجعله يعيش في مكانةٍ عظيمة. إن أفكاره التجريدية ليسَت عاديةً كما تعلمين. إنها مجرد فكرةٍ تخصُّني، ولكن في أحد الأيام … حسنًا، حدث شيءٌ ظننته غريبًا نوعًا ما. لقد رأيت سيارةً مغلقة تدخل إلى سانت جيمس بارك، ومن الواضح أنه وَفقًا للأوامر، كان السائق يقودها ببطء شديد. بينما جلس رجلان بداخلها يتحدثان بجدِّية شديدة. أحدهما هو هيو؛ والآخر كان — حسنًا — أهمَّ رجل في مكتب الحرب، الذي نادرًا، كما تعلمين، ما يتحدث إلى أيِّ شخص.»
صاحت جيرالدين غيرَ مصدِّقة: «هل تقصدين أن تقولي إنه كان بمفرده، ويتحدث في سرِّية مع هيو؟»
قالت والدتها: «أجل، يا عزيزتي، وهذا جعلني أفكر. هذا كل ما في الأمر. لكنْ لديَّ تخيُّل أنه في يوم من الأيام عندما يحين الوقت المناسب الذي يُسمح فيه لهيو بالتحدث، سيصبح قادرًا على إثارة اهتمامك … حسنًا، مثل الكابتن جرانيت تمامًا … والآن يا عزيزتي، أسرعي. هناك سيارة تنتظركِ عند الباب وأنت لم ترتَدِي قبعتك.»
صعدت جيرالدين إلى الطابق العلوي مفكرةً. وبينما كانت ترتدي قفازاتها، نظرَت إلى الموضع الخالي حول إصبعها الثالث. وللحظةٍ شعرَت بغصَّةٍ في حلقها.