الفصل السابع عشر
وقفت الليدي أنسيلمان مرةً أخرى في بهو فندق ريتز وهي تعدُّ ضيوفها. وكان الضيوف أقلَّ عددًا هذه المرة، وأقل تميزًا أيضًا. فهناك اثنان من الضبَّاط، أصدقاء جرانيت، عادا من الجبهة في إجازة؛ والليدي كونيرز، مع جيرالدين وأوليف؛ وجرانيت نفسه؛ وفتاة طويلة، داكنة البشرة، ذات بشَرةٍ شاحبة وعينَين لامعتين، جاءت مع الليدي أنسيلمان وكانت تقف الآن بجانبها.
سألتها الليدي أنسيلمان بلطف: «أظن أنكِ تعرفين الجميع يا عزيزتي؟»
هزت الفتاة رأسها قليلًا في حزن.
وغمغمت قائلة: «نحن لا نأتي إلى لندن إلا قليلًا، يا ليدي أنسيلمان. أنت تعرفين مدى حدةِ طبع والدي، والآن هو أسوأ من أي وقتٍ مضى. في الواقع، إذا لم يكن منشغلًا للغاية في العمل أعتقد أنه ما كان سيسمح لي بالمجيء حتى الآن.»
فقالت الليدي أنسيلمان: «إن هؤلاء العلماء هم نعمةٌ عظيمةٌ للبلد، لكن كآباء للأسف هم غيرُ مراعين لحقوق أبنائهم عليهم. أيها الميجور هاريسون والكولونيل جراي، اسمحا لي أن أُقدِّم لكما ضيفتي الشابة — لهذا اليوم فقط، مع الأسف — الآنسة وورث. والآن، يا روني، إذا كان من الممكن إقناعُك بمنح الآنسة كونيرز لحظةً من الهدوء، فربما ترشدنا نحو القاعة لتناول الغداء.»
تخلَّى جرانيت على الفور عن محادثته الهامسة مع جيرالدين. وانتقل الجمع الصغير، وأخذوا أماكنهم حول المائدة المستديرة التي تُخصَّص عادةً لليدي أنسيلمان في أيام الثلاثاء.
فقالَت الأخيرة، بينما تجلس على المائدة: «إن بعض الناس يجدونني مخطئةً لأنني مستمرَّةٌ في إقامة حفلات الغداء هذا الموسم. حتى ألفريد لا يأتي إلا بين الحين والآخر. وأنا شخصيًّا، لديَّ آراء قوية حول هذا الموضوع. أعتقد أنه يجب علينا جميعًا الاستمرارُ في القيام بنفس الأمور كالمعتاد — إلى حدٍّ معيَّن، بالطبع. إذ لا يوجد سببٌ يدعونا إلى جعل مالكي الفنادق وأصحابِ المتاجر على حافة الإفلاس؛ لأننا جميعًا نشعر بقدرٍ أكثرَ أو أقلَّ من البؤس.»
وافق الكولونيل جراي، الجالس بجوارها، على ذلك بقوله: «هذا صحيحٌ تمامًا. أنا متأكدٌ من أنه لن يُفيدنا بشيءٍ ونحن على الجبهة أن نشعر بأنكم كنتم جميعًا جالسين في خيم الخيش والرماد. علاوةً على ذلك، فكِّروا في مدى متعة العودة إلى الوطن كي …»، وأضاف، وهو ينظر حول المائدة الصغيرة: «يا للروعة! يا لها من فتاة جميلة المظهر الآنسة كونيرز!»
أومأت الليدي أنسيلمان برأسها، وخفَضَت صوتها قليلًا.
«لقد فسخَت خطوبتها للتو من الجراح الميجور طومسون. أتساءل عمَّا إذا كنت تعرفه؟»
قال الآخَر بلا مبالاة: «إنه مفتش المستشفيات الميدانية أو شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟ لقد صادفته ذاتَ مرة في بولونيا. وبدا وكأنه رجلٌ كئيب نوعًا ما.»
تنهدت الليدي أنسيلمان.
ووافقت على ذلك قائلةً: «للأسف لقد وجدته جيرالدين هكذا. ووالدتها محبطةٌ للغاية. لا يسَعُني إلا أن أفكر أنا شخصيًّا، على الرغم من ذلك، في أن فتاة في مثل جمالها يجب أن تحصل على زوج أفضل.»
فكَّر الكولونيل للحظة.
وقال، كما لو كان يتحدث لنفسه: «يبدو لي أنني قد سمعت شيئًا عن طومسون في مكانٍ ما. بالمناسبة، مَن الفتاة الشاحبة ذاتُ العيون الرائعة، التي يحاول ابن أخيك التقرب منها؟»
أجابت الليدي أنسيلمان: «إنها إيزابيل وورث. وهي ابنة السير ميفيل وورث، العالم الكبير. للأسف هي تقضي وقتًا كئيبًا نوعًا ما، فتاةٌ مسكينة. حيث يعيش والدها في قرية نائية في نورفولك، ويقضي كلَّ وقته في محاولة صنع اختراعات، وينسى تمامًا أنَّ لديه ابنة. لقد جاءت لزيارة لندن في بضعة أيام مع عمتها، لكنني لا أعتقد أن السيدة العجوز قادرة على فعل الكثير من أجلها.»
فقال الرجل الجالس بجوارها: «يبدو أن روني يجيد التحاور معها.»
قالت الليدي أنسيلمان: «لقد طلبت منه أن يعتني بها بشكل خاص، وروني دائمًا ما يكون لطيفًا للغاية ويُنفذ ما يقال له.»
انحنى الميجور هاريسون عبر المائدة نحوهما.
وسأل: «ألم أسمعك تذكر اسم طومسون للتو؟ لقد رأيته منذ عدة أيام في بولونيا. كان يسعى بغطرسةٍ رهيبة خلف شيءٍ ما، أيضًا. حيث وصل على متن مدمِّرة، وكانت في انتظاره على رصيف الميناء سيارةٌ حكومية لتُقلَّه بسرعة إلى الجبهة. لقد اعتقدنا جميعًا في بولونيا أن شخصيةً من العائلة الملكية قادمة، على الأقل.»
كان هناك عبوسٌ خفيف على جبين جرانيت. ونظر نظرة عابرة نحو جيرالدين.
بينما تابع الميجور هاريسون، في جهل هائل بالأهمية الخاصة لكلماته، قائلًا: «إن طومسون، من النوع الغامض من الرجال. إذ تراه في باريس ذاتَ يوم، ثم تسمع عنه في أبعد نقطة من الخطوط الفرنسية بعد ذلك مباشرة، وبعد ذلك يُقدم تقريرًا في مقر القيادة في غضون ساعات قليلة؛ ومن ثَم تلتقي به وهو يتسلَّل من الباب الخلفيِّ لمكتب الحرب، بعد يومٍ أو اثنَيْن.»
قال الكولونيل جراي: «إن منصب مفتش المستشفيات الميدانية هو منصبٌ أعتقد أنه لا بد قد أُنشئ من أجله. إنه رجل من النوع الذي لا يُمكن اختراقُه.»
فسألت جيرالدين وهي تنظر عبر المائدة: «هل كان الميجور طومسون ذاهبًا أو عائدًا من فرنسا عندما رأيتَه آخرَ مرة؟»
«لقد كان عائدًا. عندما غادرنا بولونيا، كانت المدمرة التي جلبته تنتظر في الميناء. ثم تجاوزتنا في منتصف القناة، وكانت تُبحر بسرعة نحو ثلاثين عقدة بينما نحن على سرعة ثماني عشرة. كان الأمير سيريل منهكًا إلى حدٍّ ما. لقد كان يحضر تقارير عسكرية ولكن لم يفكر أحدٌ على ما يبدو في توفير مدمرةٍ له.»
غمغمَت الليدي أنسيلمان قائلة: «في نهاية الأمر، لا يوجد شيء أكثرُ أهمية من مستشفياتنا.»
ثم اتخذ الحديثُ مسارًا مغايرًا لموضوع طومسون. بينما كان جرانيت يحاول التقربَ أكثر من إيزابيل وورث. حيث تورد لونُ خدَّيها أكثر بقليل مما كان عليه في بداية مأدبة الغداء، وأصبحَت طريقتها أكثرَ حيوية.
حيث سألها: «أخبريني عن القرية التي تعيشين فيها؟ … ماركت بيرنهام، أليس كذلك؟»
أجابت: «عندما ذهبنا إلى هناك أولَ مرة، اعتقدت أنها ببساطةٍ جنةٌ. كان ذلك قبل أربع سنوات، ورغم ذلك، أنا لا أفضِّل قضاء الشتاء هناك.»
«أنت تجدينها جميلةً، إذن.»
ارتجفَت قليلًا، وأغمضت نصف عينيها وكأنها تحجب بعض الذكريات غيرِ السارة.
ووضَّحت له قائلة: «إن المنزل يقع على ما يُشبه لسان الأرض، مع وجود نهرٍ يتمتع بالمد والجزر على الجانبَين، والبحر لا يبعد خمسين ياردةً عن نافذة قاعة الاستقبال. وعندما يرتفع المد، نصبح ببساطةٍ معزولين عن البر الرئيسي تمامًا ما لم نمرَّ بواسطة عربة مزرعة ذات عجلات مرتفعة.»
قالت الليدي أنسيلمان: «يجب ألَّا ترسُمي صورةً قاتمةً للغاية لمنزلك. لقد رأيته عندما كان ببساطةٍ مبهجًا للغاية.»
ردَّت الفتاة مع نغمة حزنٍ في نبرة صوتها: «وقد رأيت ذلك، عندما كان يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ المكانَ الآخر؛ سكون يبدو أنه يكبحكِ تقريبًا، وضباب رمادي يخنق أنفاسكِ ويمحو كل شيء؛ لا شيء سوى قَرْقرة القليل من الماء، وتنهدات — أكثر التنهدات حزنًا التي يمكن أن تسميعها — من الريح في شجر الدردار الممزق. أنا أتحدَّث عن الخريف والشتاء الآن، يجب أن تتذكَّروا.»
قال جرانيت: «يبدو الأمر غيرَ جذاب. بالمناسبة، على أي جانبٍ من نورفولك يقعُ منزلك؟ أنت لست بالقرب من برانكاستر، أليس كذلك؟»
ردَّت الفتاة بسرعة: «نحن على بُعد أربعة أميال منها. أنت لا تذهب إلى هناك مطلقًا، أليس كذلك؟»
نظر إليها جرانيت بحاجبَيْن مرفوعَين.
وصاح: «هذه مصادفة بالفعل! فأنا لم أذهب إلى برانكاستر مطلقًا في حياتي، لكنني قد وعدتُ زميلًا أو اثنَيْن بالذَّهاب إلى دورمي هاوس هناك، غدًا أو بعد غد، لنلعب الجولف لمدة أسبوع. أحدهما جيف أنسيلمان، على سبيل المثال.»
ازداد جمال الفتاة للحظة. إذ توهجت عيناها، وزادت جاذبية نبرة صوتها.
ورجَتْه قائلة: «ستأتي لزيارتنا، أليس كذلك؟»
وعدَها جرانيت بحماسٍ قائلًا: «إذا وجهت لي الدعوة، فسأصبح سعيدًا. متى ستعودين؟»
«غدًا. هل أنت متأكد تمامًا من أنك ستأتي؟»
أكد لها جرانيت: «سآتي بالتأكيد. لست حريصًا على لعب الجولف مثل بعض الزملاء، ولا يزال ذراعي يتحرك بصعوبة بعض الشيء، لكنني سئمتُ من لندن، ولن يُسمح لي حتى بالمثول أمام المجلس الطبِّي مرةً أخرى قبل أسبوعين؛ لذلك أنا أفضِّل قَبول فرصة الذَّهاب على الفور. إن ملعب الجولف هناك جيد، أليس كذلك؟»
قالت الآنسة وورث بحماسٍ: «إنه رائع، وأعتقد أن مبنى النادي مريحٌ للغاية. غالبًا ما يكون هناك بعض الرجال اللطفاء يُقيمون فيه. لو لم يكن والدي فقط شديدَ التحفظ، لكان المكان شبه مقبول في الموسم»، ثم تابعَت مع تنهيدةٍ بسيطة: «وهذا يُذكرني: يجب أن أحذرك من أبي. إنه أكثر شخص غير اجتماعي على الإطلاق.»
ضحك جرانيت قائلًا: «أنا لستُ قلقًا. بالمناسبة، اعذريني، لكن أليس والدكِ هو السير ميفيل وورث الذي يخترع الأشياء؟ لست متأكدًا تمامًا ما هي تلك الأشياء.» وأضاف: «ربما من الأفضل أن تُخبريني قبل أن آتي؟»
قالت إيزابيل وورث: «لن أخبرك بشيء. الآن من الأفضل جدًّا لك ألَّا تعرف أيَّ شيءٍ عنه. فهو لديه ما أسمِّيه قلقَ المخترعين؛ لسببٍ أو لآخر. وإذا اقترب شخصٌ غريبٌ من المكان فإنه ببساطةٍ يفقد عقله.»
قال جرانيت في حزن: «هل سأصبح في موضع عدم ترحيب، إذن؟»
لمعت عينا الفتاة وهي تُجيبه.
فقالت: «يمكنني أن أؤكد لك أنك ستكون مرحَّبًا بك، يا كابتن جرانيت. وإذا اختار والدي أن يتصرف على نحو فظٍّ، حسنًا، سأحاول التعويض نيابةً عنه.»
ونظرت إليه بشكلٍ مؤثر، فانحنى لها جرانيت بتحية. بعد بضع دقائق وامتثالًا لإشارة الليدي أنسيلمان، اتجهوا جميعًا إلى الردهة، حيث تُقدَّم القهوة. واتجه جرانيت ليجلس إلى جانب جيرالدين، لكنها استقبلته ببرود قليلًا.
فقال موضحًا: «لقد كنتُ أنفذ أوامر عمتي. كانت أوامرها الصارمة هي أن أرفِّه عن فتاة تعيش في منزلٍ يشبه منزل السفاح بلوبيرد، حيث لا يُسمح بالزوار ويحظر الابتسام.»
فنظرت جيرالدين نحوَ إيزابيل وورث.
وقالت: «أنا لم أقابل الآنسة وورث من قبل. أظن أن والدها مخترع ماهر. هل سمعتُك تقول إنك ذاهب إلى خارج المدينة؟»
أومأ جرانيت برأسه.
وقال: «سأسافر بضعة أيام.» وأضاف، وهو يخفض صوته: «سأسافر ظاهريًّا من أجل تغيير الهواء. لكنْ لديَّ سبب آخر للذهاب.»
ثم نظر إليها بثبات، فنسيتْ هواجسها الغامضة التي داهمتها منذ بضع دقائق. في نهاية الأمر، كانت تصوراته صحيحة. إذ من الأفضل له أن يغادر لندن بعضَ الوقت.
فقالت بهدوء: «آمُل أن يُفيدك التغيير. أظن، ربما، أنك على حق في الذَّهاب.»