الفصل الثامن عشر
توقفت سيارة جرانيت، بعد عدة أيام، أمام بوابة تقليدية مخططة بخمسة خطوط، كُتب عليها بحروف بيضاء «ماركت بيرنهام هال». كان يُغلف المكانَ ضبابٌ رمادي خفيف، وكادت معالم البلد أن تتلاشى عن الأنظار. وعلى الجانب الآخر من البوابة، اختفى مسار رملي في طريق مليء بأشجار الدَّردار الممزقة والمتقزمة، مما أدى فعليًّا إلى إخفاء أي منظر للمنزل.
غمغم جرانيت محدثًا نفسه: «يبدو أن الفتاة كانت على حق. ومع ذلك، لنبدأ المهمة.»
وضع سيارته بالقرب من جانب السياج، وأمسك بمزلاج البوابة، استعدادًا لفتحِها. وعلى الفور تقريبًا خرج شخصٌ من بين الشجيرات.
«توقَّف!»
نظر جرانيت بدهشةٍ إلى الشخص ذي الزيِّ العسكري.
سأله الرجل بحدة: «اسمك ووجهتك؟»
أجاب جرانيت: «الكابتن جرانيت من رويال فيوزيليرز، عائدٌ من الجبهة في إجازة. ذاهب إلى هال لمقابلة الآنسة وورث.»
أجاب الرجل: «ابقَ في مكانك، إذا سمحت، يا سيدي.»
وعاد إلى داخل كشك الحراسة، وتحدث عبر الهاتف. ثم ظهر بعد لحظة أو اثنتَيْن.
وقال: «يمكنك المرور، يا سيدي.»
سار جرانيت ببطءٍ في الطريق، وهو عاقدٌ يدَيْه خلف ظهره، وقاطبٌ جبينه. ربما، في نهاية الأمر، لن تسير الأمور بسهولةٍ بالنسبة إليه. على كِلا الجانبَيْن كانت الرمال تُرى، وهنا وهناك تشققات طويلة من المياه المالحة. وبينما يقترب أكثر من المنزل، ازدادت رائحةُ البحر، وازداد انحناء قمم الأشجار أكثر من ذي قبل، وتناثرَت الرمال في كل مكان عبر أحواض الزهور البائسة. كان المنزل ذاته، الذي ظهر أمام ناظريه فجأةً، عبارة عن مبنًى كئيب المنظر أثَّرت عليه عوامل الطقس، مُقام على حافة لسانٍ أرضي شبيه بالتل، ينتهي بالمنزل نفسِه. وتنكسر موجات البحر على الياردات القليلة من الشاطئ شبه المتعامد على المياه أسفل النوافذ. وتوجد على يمينه حديقةٌ مسوَّرة وبعض المروج والصُّوبات الزراعية. وإلى اليسار، إسطبلات، ومرآب، وكوخان أو ثلاثة أكواخ للعمال. وتَمَرْكز عند الباب الأمامي جنديٌّ آخر يؤدي مهمة الحراسة. لكنه وقف على أحد الجانبين، وسمح لجرانيت برنِّ الجرس.
فسأله جرانيت: «هل يمكث ضباطٌ هنا؟»
أجاب الرجل: «ضابط واحد فقط، يا سيدي.»
وفُتح البابُ على الفور تقريبًا من قِبَل خادمة. لم تنتظر جرانيت للإعلان عن نفسه، لكنها أشارَت له كي يتبعها إلى قاعة حجرية دائرية كبيرة، قادَتْه عبرها بسرعة، وفتحتْ باب غرفة الاستقبال. كانت إيزابيل وورث تقف داخل الغرفة، وكأنها تستمع. مدَّت يدها ولم يكن هناك شكٌّ في ترحيبها.
قالت بصوتٍ هامس: «كابتن جرانيت، بالطبع ستظن أننا جميعًا مجانين، لكن هل تُمانع في الصعود إلى غرفة الجلوس الصغيرة الخاصة بي؟»
استجاب لها جرانيت وهو يقول: «بالطبع لا. سأذهب إلى أي مكان، بكل سرور. يا له من منظرٍ رائع من هنا!»
ونظر من خلال النوافذ العالية في الطرَف الآخر من الغرفة. فوضعَت أصابعها على ذراعه وقادَتْه نحو الباب.
وهمست: «بهدوء، من فضلك. حاول وتخيل أنك في بيت المتآمِرين.»
قادَتْه عبر سُلَّم حجريٍّ غريب، حلزوني الشكل، إلى الطابق الأول. وعند وصولهما إلى هناك، توقفت لتستمع للحظة، ثم تنفَّست بحريةٍ أكبر قليلًا وقادته إلى غرفة جلوسٍ صغيرةٍ في نهاية ممرٍّ طويل. وهي غرفة صغيرة لطيفة وتُطل بشكل عمودي على البحر. ومن ثَم ألقَتْ بنفسها على الأريكة مع تنهيدة ارتياح، وأشارت إلى كرسي.
وقالت راجية: «اجلس يا كابتن جرانيت. أنا حقًّا لستُ مجنونةً على الإطلاق، لكن والدي مجنون. أتعلم، لقد عدتُ ليلة الأربعاء وقوبلت على الفور بأوامرَ صارمةٍ بعدم استقبال أي زائرٍ من أي نوع، وبالتعامل مع البائعين عند البوابات الأمامية … في الواقع سيصبح المنزل في حالة حصار.»
بدا جرانيت متحيرًا.
«لكن لماذا؟»
أجابت بضيق: «ببساطةٍ لأن أبي قد فقد رُشده. انظر هنا.»
قادَتْه بحذرٍ إلى النافذة وأشارت إلى أسفل. وعلى بُعد نحو خمسين ياردةً في البحر كان هناك هيكل خشبي غريب، مقام على دعاماتٍ قوية. ومن حيث يقفون، لم يكن هناك شيء يمكن رؤيته سوى جدارٍ بلا نوافذ وسلم من الحبال. وفي الأسفل، رُبط قارب بإحدى الدعامات. وعلى بُعد نحو ثلاثين ياردة، كان هناك رجل يُجدف على مهل في قارب صغير آخر.
وقالت: «هذا هو المكان الذي يقضي فيه والدي نحو اثنتَيْ عشرة ساعة في اليوم. ولا أحدَ يعرف ما يفعله. وهو لا يسمح لي حتى بالتحدث عن الأمر. وعندما نلتقي لتناول وجبات الطعام، لا يفترض بي أن ألمحَ إلى حقيقة أنه كان بالخارج في ذلك المكان المجنون. وإذا حدَث أنه تحدث عنه، فإنه يسميه ورشته.»
سألها جرانيت: «لكن هل هو هناك بمفرده؟»
«أوه، كلا! هناك رجلان أو ثلاثة من لندن، وآخر أمريكي، يعملون معه. ثم هل ترى ركن الحديقة هناك؟»
أشارَت إلى حظيرةٍ طويلة، أو مرآبِ قوارب يُطلُّ على الشاطئ تقريبًا. ويقف أمام الباب اثنان من الحراس. وحتى من حيث تجلس هي وهو كان بإمكانهما سماعُ أزيزٍ خافت لمولِّد كهربيٍّ بداخله.
وقالت: «هناك عشرون رجلًا يعملون بالداخل. وهم ينامون جميعًا في الحظيرة أو في أكواخ أواني الزهور. ولا يُسمح لهم حتى بالنزول إلى القرية. والآن، ربما، يمكنك البدء، أيها الكابتن جرانيت، في فَهْم كيف تسيرُ حياتي هنا.»
فقال: «حسنًا، كل هذا يبدو مثيرًا جدًّا للاهتمام، لكن أظن أنه سيصبح مميتًا بالنسبة لك. إنَّ والدكِ يخترع الكثير من الأشياء الرائعة، أليس كذلك؟»
أجابَت الفتاة بمرارةٍ بعض الشيء: «لو أنه يفعل، فلن يخبرني عن ذلك أبدًا. إن كل ما يُريده مني هو غيابي أو صمتي. عندما عدتُ منذ عدة أيام، كان غاضبًا. إذا كان قد فكر في الأمر، فأنا متأكدةٌ من أنه كان سيجعلني أقيم في لندن. والآن بعد أن أصبحتُ هنا، فأنا مجرد سجينة.»
عاد جرانيت إلى كرسيِّه وأشعل السيجارة التي أصرَّت هي على أن يُدخنها.
وقال: «حسنًا، يبدو الأمر صعبًا عليك، يا آنسة وورث. ومن ناحيةٍ أخرى، من المثير للاهتمام حقًّا، أليس كذلك، أن تعتقدي أن والدكِ رجل الاختراعات الغامضة؟»
فتنهدت الفتاة.
وقالت: «أظن هذا، لكن مع ذلك، كما ترى، يكاد والدي يتسم بالوحشية تجاه منح ثقتِه لأي شخص. فهو لا يُخبر أي شخصٍ حتى أنا بأي شيءٍ أبدًا، أو يشجِّعني على طَرْح سؤال. أعتقد أنني لهذا السبب أصبحتُ أشعر بالاستياء من عمله والقيود السخيفة التي يفرضها على حريتي بسبب ذلك.»
دخلت خادمةٌ الصالونَ مع الشاي، بعد بضع دقائق، وانتقل جرانيت إلى جانب مضيفته على الأريكة. ولم يُظهر المزيدَ من الاهتمام بالأحداث الخارجية. لكنه كان بارعًا في الحوار اللطيف وأدخل البهجةَ على قلب الفتاة تمامًا خلال الساعة التالية. ثم نهض بخفةٍ واقفًا على قدمَيْه.
وقال: «يجب أن أنصرف.»
فتنهدت.
وقالت: «لقد كان من الرائع استقبالُك هنا، ولكن إذا كنت تعرف فقط مدى صعوبة ترتيبِ هذه الزيارة، فستتفهَّم لماذا أتردَّد في أن أطلب منك تَكرارها مرة أخرى.»
فسألها: «لماذا لا تأتين لتناول الغداء معي غدًا في نادي الجولف؟»
فترددت. لكن من الواضحِ أن الاقتراح قد نال إعجابها.
فوافقت قائلة: «أعتقد أنَّني أستطيع؛ فالكابتن تشالمرز لديه سيارةٌ صغيرةٌ يمكنُ أن أستعيرها منه، وإذا أخذت معي مضارب الجولف الخاصة بي، فسيُصبح الأمر على ما يُرام. ومن المحتمل جدًّا أن ينام والدي هناك ولن نراه حتى الغد.»
ذهب جرانيت مرةً أخرى إلى النافذة. حيث أطبق الضباب بشكل أكثر كثافةً من قبل، وأصبح الهيكل الصغير الغريب غيرَ مرئيٍّ تقريبًا. وسقط ضوءٌ ساطع، رغم ذلك، فوق الماء على بُعد مسافةٍ قصيرة.
فقال: «إن والدكِ لديه ضوء كهربي هناك بالخارج.»
قالت له: «أجل، لديهم سلكٌ من الكوخ. أيًّا كان ما يحاول فعله، فهو يحتاج إلى ضوء شديدٍ ومركَّز في بعض الأحيان.»
تنهد جرانيت تنهيدة صغيرة.
وقال: «حسنًا، آمُل أن يكون هذا شيئًا مفيدًا لنا بعض الشيء. فنحن في حاجةٍ إليه. إن الألمان يسبقوننا بأميالٍ فيما له صلةٌ بكل الأفكار الحديثة.»
فتحَت شفتَيْها وأغلقتْهما مرةً أخرى. فشعر جرانيت، الذي ركَّز فجأةً وانتبه بشدةٍ لما كانت ستقوله، بدفعةٍ سريعة من خيبة الأمل.
ثم قالت: «لقد رننتُ الجرس لخادمتي. سوف ترشدك إلى خارج المكان. لا تدعْ أي شخصٍ يرَك، إذا استطعت.»
فسألها: «وماذا عن الغد؟ هل ستتناوَلين الغداء معي؟»
وعدَتْه قائلة: «سآتي إلى نادي الجولف، في الساعة الواحدة.»
أرشدت الخادمة جرانيت خلسةً تقريبًا لطريقه أسفل السلم وعبر المسار. وفي منتصف الطريق إلى البوابة توقف ليستمع. لقد اختفى عن الأنظار الآن بسبب تجمُّع الشفق والضباب المنتشر. ومن خلف المنزل جاء الهديرُ المكتوم للمد والجزر بنعومة، وبإصرارٍ أكثر حدة، أزيز الآلات من مرآب القوارب. فأشعل جرانيت سيجارةً وابتعد وهو يُفكر. وبمجرد ركوبِه السيارة، أدهشَهُ ضوءٌ غريبٌ عبر الأشجار. فوقف وراقب. حيث سُلِّط من أعلى المنزل مصباح كشاف دوَّار ببطءٍ على سطح المياه.