الفصل الثاني
خرَجت المجموعة الصغيرة من المطعم، وشقَّ أفرادها طريقهم إلى ركنٍ من البهو، حيث جُهِّزت الطاولات بالفعل بالقهوة والمشروبات. وجلست جيرالدين كونيرز والكابتن جرانيت، اللذان أتيَا على مهَل، إلى إحدى الطاولات. ووضعت الليدي أنسيلمان أصابعها على ذراع الميجور طومسون.
وترجَّتْه قائلة: «من فضلك تحدث بضعَ دقائق أخرى مع سيلارني. إن لغتك الفرنسية مصدرُ ارتياحٍ لها.»
فاستجاب لها على الفور، على الرغم من أنه استمرَّ في مراقبة الطاولة التي كان يجلس إليها الكابتن جرانيت ورفيقته. وقد كانت مدام سيلارني في حالةٍ مِزاجيةٍ راغبةٍ في الثرثرة؛ لذا وجدا العديدَ من الموضوعات المتبادَلة.
فقالت له: «إنه أمرٌ رائع، أن تتكلم لغةً أجنبية كما تفعل أنت. هل تُتقن الفرَنسية وحدها، يا سيدي، أم أنك، ربما، لُغوي عظيم؟»
أجاب: «لا أستطيع أن أُطلق على نفسي ذلك، لكني أتحدَّث عدةَ لغاتٍ أخرى. إذ إنني سافرتُ كثيرًا عندما كنت صغيرًا.»
سألَته وقد علَت ملامحَها تكشيرةٌ صغيرة: «هل تتحدث الألمانية أيضًا؟»
فقال: «لقد كنتُ أعمل بمستشفًى في برلين.»
ازداد جَمْع الليدي أنسيلمان فجأةً مع قدوم بعض المعارف من طاولةٍ مجاورة، وجميعهم يرغبون في تقديمهم إلى السيدة سيلارني. فاتجه الميجور طومسون، بعد أن تحرَّر من صُحبتها، على الفور نحو الطاولة الصغيرة التي كان يجلس عليها الكابتن جرانيت مع جيرالدين كونيرز. فرحَّبَت به بابتسامة.
وسألت: «هل جئتَ لتناول القهوة معنا؟»
فأجاب: «إذا سمحتما لي. إذ يجب أن أغادر في غضون بضعِ دقائق.»
توقَّف نادلٌ أمام طاولتهم وعرض عليهم صينيةَ تقديمٍ عليها عدةُ فناجين من القهوة وكئوس من المشروبات. فانحنى الكابتن جرانيت إلى الأمام وهو جالسٌ في مكانه ومدَّ يده لتقديم فنجان قهوةٍ لرفيقته. وقبل أن يتمكَّن من أَخْذ الفنجان، انزلقَت صينية التقديم بالكامل من أصابع النادل بطريقةٍ ما، واصطدمَت بزاوية الطاولة، وسقطَت بمحتوياتها على البساط. واستمرَّ النادل نفسه — وهو شخص صغير الحجم، ذو عيون سوداءَ مرتعبة، عند تلك اللحظة — في تحديقٍ ثابت وغير طبيعي، وبذل جهدًا يائسًا لإنقاذ نفسه ثم سقط إلى الوراء. فاستدار الجميع، بفعل ضجيج الفناجين المتساقطة والآهة الحادَّة شبه المخنوقة التي انطلقت من شفتَي الرجل. فقفز الكابتن جرانيت واقفًا على قدميه.
وصاح: «يا إلهي! لقد أُصيب الرجل بنوبة!»
فجاء رئيس النُّدُل وبعضُ الندُل مسرعين نحوَ الجسد المغمى عليه، الذي كان الميجور طومسون مستندًا على ركبته بجانبه. وجاء المدير، الذي ظهر في المشهد بسرعةٍ شديدة كما لو كان بالسحر، والذي علا وجهَه تعبيرٌ عن الرعب من أن ينزعج الضيوف بسبب ذلك، وسرعان ما أعطى أوامرَه. فأمر بالتقاط الرجل وحملِه بعيدًا. وتبعه الميجور طومسون. ونجح اثنان أو ثلاثةُ نُدُلٍ خلال بضعِ ثوانٍ في إزالة حطام الحادث، وبدأت الأوركسترا عزف موسيقى فالس مميزة. واعتذر رئيس النُّدل للمجموعات القليلة من الناس عن الضجة — وقال إنه ربما يجب أن يُلام على توظيف شابٍّ رقيق للغاية — ليس لائقًا للخدمة.
قالت الليدي أنسيلمان، بينما يُوجه الرجل إليها تفسيراته: «يبدو أنه أجنبي.»
«إنه بلجيكي، يا سيدتي. وأصيب بجروحٍ خطيرة في بداية الحرب. لقد أخذناه مباشرة من المستشفى.»
قالت الليدي أنسيلمان: «آمُل أن يتعافى المسكين قريبًا. من فضلك لا تُفكر في أي شيء أكثرَ من هذا الأمر فنحن مهتمُّون للغاية. يجب أن تخبرني لاحقًا عن حالته.»
انصرف رئيس الندل مع انحناءة بسيطة. والتفتت جيرالدين إلى الكابتن جرانيت.
وقالت: «أعتقد أنك طيبُ القلب للغاية، بالنسبة إلى كونك جنديًّا.»
فالتفتَ ونظر إليها.
«لماذا؟»
«لا بد أنك شاهدتَ الكثير من المشاهد المروعة … والكثير من الموتى، ومع ذلك …»
سألها في إصرار: «ماذا؟»
«كان هناك شيءٌ في وجهك عندما ترنَّح الرجل للخلف، نوعٌ من الرعب تقريبًا. أنا متأكدة من أنك شعرت به تمامًا مثل أيٍّ منا.»
صمتَ لحظةً.
ثم قال ببطء: «في ساحة المعركة، يُصبح المرء قاسيًا بطبيعة الحال، لكن الأمر مختلف هنا. لقد بدا ذلك الرجل مريضًا بشكل مروع، أليس كذلك؟ وأنا أتساءل ما الذي أصابه بالفعل.»
قالت: «سنعرف عندما يعود الميجور طومسون.»
بدا جرانيت كما لو كان لا يسمعُ كلماتها. إذ استحوذتْ عليه نوبةٌ غريبة من الانشغال. حيث التفتَ نحو الممر، وبدا أنه ينتظر.
وقال على الفور: «إنه رجل غريب، طومسون هذا. هل هو صديقٌ مقرَّب لك، يا آنسة كونيرز؟»
تردَّدتْ لحظة.
«إني أعرفه منذ بعض الوقت.»
بدا أن شيئًا ما في لهجتها يُزعجه. فمال نحوها بسرعة. وقد فقد وجهُه اللامبالاة المرحة. وكان من الواضح أنه شديد الجدِّية.
وسأل باستعطاف: «من فضلك لا تعتبريني وقحًا، لكن … هل هو صديق مقرب جدًّا لك؟»
لم تُجب. فقد كانت تنظر من فوق كتفه نحو المكان الذي يقف فيه الميجور طومسون، الذي عاد لتوه، وهو يُجيب عن فيضٍ من الأسئلة.
حيث قال: «إن الرجل في حالة ضعف بشكل صادم. إنه بلجيكي، وكان قد أُصيب بجروح ومن الواضح أنه قد تعرض لحرمانٍ شديد من المقومات الأساسية للحياة. مما أضعف قلبَه للغاية. وهو يعاني من نوبة إغماء سيئة، لكنه قد يتعافى مع مدة راحة طويلة.»
ومن ثَم انقسمت الحفلة الصغيرة مرةً أخرى إلى مجموعات. والتفت جرانيت، الذي كان قد انسحب لحظةً وبدا أنه يضبط أربطة حمَّالة ذراعه، إلى طومسون.
وسأله: «هل استعاد وعيه؟»
كان الردُّ المقتضب: «بالكاد.»
«لم يكن هناك سببٌ خاص لإغمائه بهذه الطريقة، على ما أظن، أليس كذلك؟»
لم يكن صمتُ الجراح الميجور طومسون ترددًا. لقد كان يقف بثباتٍ تام، وعيناه مثبتتان على الجندي الشاب.
وقال: «في الوقت الحالي، لست متأكدًا تمامًا بشأن ذلك. إذا كنت مستعدَّة، يا جيرالدين هل نغادر؟»
فأومأت برأسها ومن ثَم ودَّعا الليدي أنسيلمان. ونظر جرانيت خلفهما بعبوسٍ خفيف. وانتحى بعمته جانبًا للحظة.
وسألها: «لماذا الآنسة كونيرز هنا بدون مرافق؟ ولماذا غادرَت مع طومسون؟»
ضحكت الليدي أنسيلمان.
«ألم تُخبرك؟»
سأل في إصرار: «تُخبرني بماذا؟»
نظرت الليدي أنسيلمان إلى ابن أخيها بفضول.
وقالت: «من الواضح أن تعرُّفك على الفتاة لم يكن سريعًا كما يبدو، وإلا كانت ستخبرك بسرها … الذي هو، بالمناسبة، ليس سرًّا على الإطلاق. فهي والميجور طومسون مخطوبان وسيتزوجان.»